النفحة.. عندما تتحول "العطية الإلهية" إلى مفسدة

الصوفية

النفحة.. عندما تتحول "العطية الإلهية" إلى مفسدة


06/02/2018

نصف رغيف خبز، تتخلّله قطع من اللحم، أو الفول النابت، يلقي به عليك بعض الأشخاص الذين قد لا تعرفهم، ولا تعرف لماذا يهبونك هذا الطعام، إلا عندما تسألهم فيجيبونك: إنها "نفحة".

مشهد لن تشاهده إلا عندما تقترب من موالد الصوفية، أو موائدهم، أو حضراتهم أو مشايخهم أو أتباعهم.

لا تعرف لماذا يهبونك هذا الطعام، إلا عندما تسألهم فيجيبونك: إنها "نفحة"

فتح أبواب جهنم

بدا لي في بداية إجراء هذا التحقيق أنّني قد أنجزه بسهولة، فلن يقتضي الأمر سوى أن أرفع سماعة الهاتف، وأتحدث مع بعض المشايخ، مستفهماً عن النفحة، ومعناها، إلا أنّهم جميعاً وبلا استثناء، رفضوا الحديث في هذا الموضوع، معتبرين أنّ مجرد الخوض فيه يعد إساءة لجميع مشايخ الطرق، على حد تعبير شيخ الطريقة الشبراوية عبدالخالق الشبراوي، وأنّه سيفتح على من يتحدث فيه "أبواب جهنم"، على حد وصفه.

تركتُ المشايخ مؤقتاً، لعلّ لديهم ما يمنعهم في الحديث عن "النفحة"، وذهبتُ إلى الطاهر الهاشمي، الباحث في الشأن الصوفي، لأسأله لماذا يعتبر مشايخ الطرق الحديث عن "النفحة" أمراً مسيئاً لهم إلى هذا الحد، فأجاب: لأن النفحة قد تحوّل معناها من "وهب إلهي" و"فتوحات ربانية" و"عطاءات"، عن طريق المجاهدة والطاعة حتى ترتقي الروح وتسمو النفس، إلى معنى مادي دنيوي يمنحه الشيخ للمريد في شكل طعام أو شيء رمزي ملموس، فيعتقد المريد أنه أصبح بذلك "منفوحاً" أي "مبروكاً".

النفحة في جوهرها مسألة روحية لكنها تحورت لمعنى مادي يمنحه الشيخ للمريد كطعام أو شيء رمزي ملموس

ويتابع لـ"حفريات": "لم يقف معنى "النفحة" عند هذا الحد؛ بل تطور إلى مبالغ نقدية قد تعطى من مريدين لشيخهم أو من مشايخ أثرياء لمشايخ فقراء؛ لمجرد شراء الولاءات حتى يصوت هؤلاء لهم عند إجراء انتخابات المجلس الأعلى للطرق، أو عند انتخاب شيخ المشايخ، ولذلك فإنّ مجرد الحديث في هذا الموضوع يعني عند كثير من المشايخ فتح أبواب جهنم".

الشيخ الشبراوي يعتب على من يثير هذا الملف؛ لأنّ ذلك يعطي للسلفيين والإخوان المتربصين فرصة لا تُفوت للتشهير بهم.

الطاهر الهاشمي يرجع ذلك لانكباب المتصوفة على السياسة، بسبب القانون المنظم للطرق الصوفية الذي أصدره الرئيس الراحل محمد أنور السادات العام 1976؛ فهذا القانون، حسب الهاشمي، الذي جمع هذه الطرق،" قادر على أن يجعلها مسيّسة بأكملها تحت مظلة أي نظام، ومن رحم ألعاب السياسة تبدل مفهوم النفحة".

تطور مفهوم "النفحة" إلى مبالغ نقدية تعطى من مريدين لشيخهم أو من مشايخ أثرياء لمشايخ فقراء

تطور مفهوم النفحة

ويكمل الهاشمي لـ"حفريات" قائلاً: تطور مفهوم النفحة؛ فبدلاً من أن تكون عطاء الحق، ورؤية محمدية، وعلوماً لدنية، وسخاء وجُوداً في الأخلاق، أصبحت، كما أعلن ذلك بعض المشايخ في اتهامهم لآخرين، من صور الرشوة أثناء إجراء انتخابات المجلس الأعلى للطرق الصوفية، ووسيلة لجمع المال وتحصيله من المريدين؛ "فكيف يكون شيخاً يقتدي به أتباعه من يمدّ يده ليأخذ من المريدين، وهو المفترض فيه أن يكون موجهاً لهم؟!".

محمد الشهاوي شيخ الطريقة الشهاوية، يؤكد أنه نهى مريديه عن تقديم النفحات له، منذ أن أصبح شيخاً للطريقة، أما شيخ الطريقة العزمية علاء أبو العزائم، فيعترف لـ"حفريات" بتحول النفحة عند عدد من المتصوفة من معنى معنوي إلى مادي، ثم إلى رشوة "مقنعة"، لكنه يرجع ذلك إلى سببين: رجال السياسة داخل المشيخة، وفقر كثير من المتصوفة.

دعوات للرقابة والمحاسبة

وكان أبو العزائم، قد دعا إلى "إنشاء شركات استثمارية يعمل فيها أهل الطرق الصوفية حتى تحسن من دخولهم"، وهو ما أيده فيه الطاهر الهاشمي مع اشتراطه أن تكون هذه الاستثمارات مؤسسية وتخضع للرقابة والمحاسبة.

وعن وضع رقابة وضوابط على النفحات التي تعطى من المريد للشيخ يقول الشيخ الشبراوي: "الشيخ مؤتمن لأن الله أمرنا أن نؤدي الأمانات إلى أهلها".

محمد الشهاوي يؤكد أنه نهى مريديه عن تقديم النفحات له منذ أن أصبح شيخاً للطريقة الشهاوية

ويدعو الطاهر الهاشمي مشايخ الطرق إلى إنشاء مؤسسات صغيرة، كي يقوم المريدون بالعمل بها، كما كان يفعل أبو أبو الحسن الشاذلي وكثير من مشايخ الطرق الصوفية، مثل؛ الشيخ محمد الهاشمي؛ فكانوا يوجهون أبناءهم إلى العمل في الأراضي الزراعية الخاصة بهم وبغيرهم والاقتداء بجماعة الإخوان المسلمين في هذا الشأن.

ويتابع الهاشمي: "لا أريد أن أتحدث عن تجارة "الخلافات" و"النيابات"، فضلاً عن أشياء يعف المرء عن ذكرها"، على حد تعبيره؛ مستدركاً: "ثمة مشايخ الآن يسكنون القصور، ويركبون أفخم السيارات، في حين أن مريديهم المساكين في أمس الحاجة إلى أبسط متطلبات الحياة من مأكل وملبس.. الأجدر بهؤلاء أن يتخذوا الطريق المستقيم الذي يعرفونه لرفعة شأن التصوف وأهله، بدلاً من كنز الذهب والفضة".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية