
أصبح الإسلام السياسي موضوع نقاش حاد في أوروبا على مدى العقود القليلة الماضية. وقد أدى صعود بعض الجماعات الإسلامية، سواء التي تركز على الوعظ أو التي تمارس النشاط السياسي، إلى جانب التحولات الجيوسياسية العالمية، إلى جعل هذه الرؤية للإسلام في قلب العديد من المناقشات السياسية والإعلامية والاجتماعية.
الإسلام السياسي، الذي يشار إليه غالبًا باسم الإسلاموية، هو مصطلح واسع يشمل الحركات والإيديولوجيات التي تسعى إلى دمج المبادئ الإسلامية في الحكم والحياة العامة. وفي حين أنّ بعض مظاهر الإسلام السياسي تحاول أن تبدو معتدلة وتزعم أنّها تحاول أن تتناسب مع المبادئ الديمقراطية، فإنّ البعض الآخر أكثر عدائية وتطرفاً، وهو ما اشتبكت معه دراسة بالإنجليزية للباحث محمد علي عدراوي، الأستاذ المساعد بقسم الدراسات الإسلامية، بجامعة رادبود، نشرت على موقع المركز الإيطالي لدراسات السياسة الدولية.
تؤكد الدراسة أنّ وجود الإسلام السياسي أثار مناقشات حول التكامل والتعددية الثقافية والأمن ودور الدين في المجتمعات العلمانية. ولفتت إلى أنّه لا توجد دراسة علمية دقيقة تُبيّن عدد المسلمين الأوروبيين الذين يتميزون بالولاء لبعض سرديات الإسلام السياسي. ومع ذلك يُمكن التأكيد على أنّه في العقود الأخيرة، على الأرجح، كان هناك انتشار متزايد، وإن كان بأشكال متنوعة، لجماعات الإسلام السياسي، وخاصة الإخوان المسلمين.
انتشار جماعة الإخوان المسلمين في أوروبا
تقول الدراسة: إنّه في أوروبا اكتسب الإسلام السياسي مكانة بارزة بسبب زيادة هجرة المسلمين، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك وصول المزيد من الأفراد المتعلمين أكاديميًا. وكان هذا واضحًا في العديد من الدول الأوروبية، مثل فرنسا التي شهدت في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات موجة جديدة من الطلاب والناشطين. على سبيل المثال، عبد الله بن منصور، وهو طالب تونسي استقر في فرنسا في أوائل الثمانينيات وتلقى تدريبًا إيديولوجيًا في حركة الاتجاه الإسلامي التي أصبحت حركة النهضة بعد بضع سنوات. وكان أحد مؤسسي اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا الذي أصبح (مسلمو فرنسا) في العام 2017، وهو جزء من إرث جماعة الإخوان المسلمين في بلد يضم أعلى عدد من السكان المسلمين في أوروبا الغربية.
شهدت دول أوروبية أخرى عملية مماثلة، مثل ألمانيا، مع الجماعة الإسلامية في ألمانيا المتأثرة بصهر مؤسس جماعة الإخوان المسلمين سعيد رمضان. قبل أن يستقر بشكل دائم ويتوفى في سويسرا عام 1994. ومنذ التسعينيات فصاعدًا، أصبح أبناؤه، ولا سيّما طارق وهاني رمضان، دعاة ومثقفين بارزين، خاصة في العالم الناطق بالفرنسية. وبشكل أكثر تحديدًا، بالنسبة إلى قطاع من الأجيال الشابة من المسلمين الأوروبيين المنحدرين من موجات هجرة سابقة، والسعي إلى خطاب "أوروبي إسلامي" سيصبح شخص مثل طارق رمضان أحد رموزه، وسيكسبه ثناء أولئك الذين يرون فيه شخصية تجمع بين الإسلام والحداثة، ومنتقدي أولئك الذين يعتقدون أنّ موقفه محاولة خفية للنهوض بفكر وعمل جماعة الإخوان المسلمين في جزء من العالم كان بعيدًا عن تأثيرها.
وتستعرض الدراسة حركات ومنظمات عديدة تُمثل الإسلام السياسي، ولكل منها إيديولوجيات وأهداف مُميزة، ومن أبرزها:
فروع جماعة الإخوان المسلمين: أسهمت هذه الجماعات في تشكيل العديد من المنظمات الإسلامية الأوروبية. وتشجع جماعات مثل: اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا، والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، على المشاركة السياسية والقيم الإسلامية، وتعمل ضمن أطر ديمقراطية، ممّا يثير نقاشات حادة حول مدى توافق هذه الرؤية للإسلام مع السياق العلماني السائد في معظم الدول الأوروبية.
حزب التحرير: منظمة إسلامية عابرة للحدود، تأسّست في القدس عام 1953، تسعى إلى إقامة خلافة إسلامية عالمية، رافضةً اللجوء إلى العنف. وينشط حزب التحرير في عدة دول أوروبية، ويدعو إلى نظام سياسي إسلامي، وكثيرًا ما يصطدم بالسلطات العلمانية.
الحركات السلفية: اكتسبت السلفية، وهي تفسير محافظ للإسلام، زخمًا كبيرًا في أوروبا. وبينما تُعدّ معظم الجماعات السلفية غير عنيفة، يدعو بعضها إلى الانعزال السياسي، يميل البعض الآخر إلى النشاط الاجتماعي والديني للدفاع عن الإسلام والمسلمين الذين يتعرضون للهجوم. والعديد من المجتمعات السلفية الأوروبية منغلقة تمامًا.
الشبكات الجهادية: جنّدت الجماعات الجهادية المتطرفة، مثل: القاعدة وداعش، مسلمين أوروبيين، مستغلةً في كثير من الأحيان المظالم الاجتماعية والروايات الإيديولوجية لتبرير العنف. وتُشكّل هذه الشبكات تحديات أمنية للدول الأوروبية. ومنذ عام 2014 نُفّذ أكثر من (30) هجومًا قاتلًا في أوروبا. وشهدت المملكة المتحدة (3) هجمات إرهابية خلال (4) أشهر في أوائل عام 2017 (هجمات وستمنستر، وتفجير مانشستر أرينا، وهجوم جسر لندن)، وشهدت فرنسا (8) هجمات كبرى بين كانون الثاني (يناير) 2015 وتمّوز (يوليو) 2016، بما في ذلك هجمات تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 الإرهابية في باريس، التي أودت بحياة أكثر من (130) شخصًا.
وترى الدراسة أنّ وجود الإسلام السياسي في أوروبا يطرح تحديات جديدة تتطلب استجابة من الحكومات والمجتمع المدني والأجهزة الأمنية. وتشمل هذه التحديات:
الاندماج والهوية: أظهر صعود الإسلام السياسي التوترات بين بعض أشكال الهوية الإسلامية والقيم العلمانية الأوروبية. ويواجه العديد من المسلمين الأوروبيين صعوبة في الموازنة بين هويتهم الدينية ومتطلبات المجتمعات العلمانية، ممّا أدى إلى نقاشات حول الاندماج الثقافي والحريات الدينية.
التطرف والتهديدات الأمنية: ارتبطت فروع الإسلام السياسي المتطرفة بالإرهاب والتطرف العنيف. وقد استثمرت الحكومات الأوروبية بكثافة في جهود مكافحة الإرهاب لرصد الشبكات المتطرفة وتفكيكها، مع تعزيز برامج مكافحة التطرف.
الصراعات القانونية والسياسية: تُشكّل بعض تفسيرات الإسلام السياسي تحديًا للأطر القانونية الأوروبية، لا سيّما فيما يتعلق بالمساواة بين الجنسين، وحرية التعبير، ودور الشريعة الإسلامية. وقد نظرت المحاكم الأوروبية في قضايا تتعلق بالتحكيم والتعبير الديني المستند إلى الشريعة الإسلامية في المؤسسات العامة.
النفوذ الأجنبي: يتلقى العديد من الحركات الإسلامية في أوروبا تمويلًا ودعمًا إيديولوجيًا من دول أجنبية، منها تركيا وقطر. وقد أثار هذا النفوذ الخارجي مخاوف بشأن التدخل السياسي وترويج الإيديولوجيات المحافظة أو المتطرفة.
الاستقطاب والشعبوية: غذّى وجود الإسلام السياسي الشعبوية اليمينية في أوروبا. وكثيرًا ما تستغلّ الأحزاب اليمينية المتطرفة المخاوف لدفع أجندات معادية للهجرة وقومية، ممّا يُفاقم الانقسامات الاجتماعية ويُعيق الحوار البنّاء.
وقد اعتمدت الحكومات الأوروبية سياساتٍ متنوعةً لمواجهة الإسلام السياسي، بدءًا من التدابير التقييدية وصولًا إلى النهج الشامل. ومن أهم هذه الاستراتيجيات:
الإجراءات التشريعية: سنّت بعض الدول قوانين تحظر النقاب، وتقيّد التمويل الأجنبي للمساجد، وتراقب المنظمات الدينية. على سبيل المثال فرضت فرنسا علمانية صارمة، ومنعت الرموز الدينية في المؤسسات العامة.
جهود مكافحة الإرهاب: نفذت الحكومات برامج مراقبة ومبادرات لمكافحة التطرف، وبرامج إعادة تأهيل للمتطرفين. وعزز الاتحاد الأوروبي آليات تبادل المعلومات الاستخباراتية لمكافحة الإرهاب.
التفاعل بين الأديان والمجتمعات: شجعت بعض الحكومات الحوار بين المجتمعات الإسلامية ومؤسسات الدولة لتعزيز التكامل ومنع التطرف. على سبيل المثال، دعمت ألمانيا والمملكة المتحدة مبادرات تُمكّن تمثيل الأصوات الإسلامية.
البرامج التعليمية والثقافية: بُذلت جهودٌ لتعزيز التربية المدنية ومكافحة التضليل الإعلامي عن الإسلام في المدارس والخطاب العام. وأدخلت بعض الدول الأوروبية برامجَ في الفقه الإسلامي في الجامعات لتدريب أئمةٍ أوروبييّ المولد ملتزمين بالقيم الديمقراطية.
أثر الإسلام السياسي على قيم الديمقراطية والتماسك الاجتماعي
بحسب الدراسة، يثير وجود الإسلام السياسي في أوروبا تساؤلات أوسع حول الديمقراطية والتعددية الثقافية ومستقبل التماسك الاجتماعي. ومن أهم هذه التداعيات ما يلي:
الموازنة بين الحرية الدينية والعلمانية: يجب على الديمقراطيات الأوروبية أن توفق بين حماية الحريات الدينية لجميع الأديان والتمسك بالمبادئ العلمانية. ويُعدّ تحقيق هذا التوازن أمرًا بالغ الأهمية للحفاظ على الانسجام الاجتماعي.
منع التطرف دون عزل: تُنذر السياسات اليمينية المفرطة بعزل المجتمعات المسلمة بمخاطر عزل المسلمين، ممّا قد يدفع الأفراد نحو التطرف، لذا تُعدُّ المقاربات الشاملة التي تُعالج التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية وتُعزز الحوار أمرًا بالغ الأهمية.
تعزيز المؤسسات الديمقراطية: إنّ إشراك المجتمعات المسلمة في العمليات الديمقراطية من شأنه أن يعزز تمثيلها السياسي ويحدّ من جاذبية الإيديولوجيات المتطرفة. ويُعدّ تشجيع المشاركة المدنية استراتيجية طويلة الأمد لتحقيق التكامل.
معالجة الفوارق الاجتماعية والاقتصادية: يواجه العديد من المسلمين الأوروبيين تهميشًا اقتصاديًا واجتماعيًا، ممّا قد يدفعهم نحو التطرف. ويمكن للسياسات التي تعالج البطالة والتمييز والفجوات التعليمية أن تُسهم في التخفيف من هذه المشكلات.
وترى الدراسة أنّ المطالب التي تطالب بها بعض المنظمات الإسلامية المعتدلة، ليست دائمًا غير شرعية، بل قد تجد صدى لدى جمهور أوسع بكثير يتجاوز الجهات الإسلامية الفاعلة، على سبيل المثال الجهود المبذولة ضد التمييز، لذلك من الأهمية بمكان أن تفرق السلطات العامة في أوروبا بدقة بين ما يقع ضمن تطبيق المبادئ والقوانين، وما يمثل نشاطًا يسعى إلى التأثير السياسي والاجتماعي.
ويرى عدراوي أنّ الإسلام السياسي في أوروبا ظاهرة معقدة ومتطورة تتقاطع مع قضايا الهوية والأمن والثقافة والعلمانية والديمقراطية والعنصرية والحوكمة. وبينما يتجلى الإسلام السياسي في أشكال مختلفة، تتراوح من المشاركة الديمقراطية إلى التطرف الراديكالي، يجب أن تكون الاستجابات الأوروبية دقيقة ومتعددة الأوجه. ويجب على الحكومات موازنة المخاوف الأمنية مع الحاجة إلى التكامل والحريات الدينية، من خلال تعزيز السياسات الشاملة، وتعزيز الحوار بين الأديان، ومعالجة التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما يمكّن أوروبا من التغلب على التحديات التي يفرضها الإسلام السياسي، مع الحفاظ على القيم الديمقراطية والتماسك الاجتماعي.