
وسط حالة الانسداد السياسي التي تواجه ليبيا، وانقسام المؤسسات التنفيذية بين حكومتي الشرق والغرب، إضافة إلى مجلس النواب في شرق البلاد والمجلس الأعلى للدولة في غربها حيث العاصمة طرابلس، تتزايد التحديات الجيوسياسية التي تواجه البلاد على خلفية الاتفاقية البحرية التي أبرمتها حكومة الوفاق الوطني السابقة مع الجانب التركي في ذروة الصراع المسلح على العاصمة.
حفتر في القاهرة وتحركات نحو التنسيق الإقليمي
وفي هذا السياق، يترقب الجميع موقف مجلس النواب برئاسة عقيلة صالح من هذه الاتفاقية، مع ظهور بعض المؤشرات التي توحي باحتمال اتجاه المجلس لاعتمادها في جلساته المرتقبة.
وسط حالة الانسداد السياسي الليبي، تتعاظم التحديات الجيوسياسية بسبب الاتفاقية البحرية مع تركيا، في ظلّ انقسام المؤسسات وتضارب المصالح بين الشرق والغرب.
ويتزامن ذلك مع الزيارة التي قام بها المشير خليفة حفتر إلى القاهرة ولقائه الرئيس عبد الفتاح السيسي، حيث جرى بحث العديد من القضايا المرتبطة بالملف الليبي، ولا سيّما ملف الاتفاقية البحرية مع تركيا، وموقف مجلس النواب والحكومة المكلّفة من البرلمان برئاسة أسامة حماد منها. وتسعى بعض الأطراف الليبية إلى إعادة تقييم هذه الاتفاقيات في ضوء المستجدات الإقليمية، بهدف ترسيم مستقبل العلاقة مع تركيا، خصوصًا في ظل تصاعد التوترات بين أنقرة وأثينا في شرق المتوسط.
وفي هذا السياق تبرز مخاوف متنامية من أن تؤدي التحركات الأحادية إلى إضعاف السيادة الليبية وتوظيف البلاد كورقة ضغط في صراع إقليمي أوسع.
هل يصادق مجلس النواب على الاتفاقية البحرية مع تركيا؟
من جانبه، أكد عضو مجلس النواب الليبي عبد المنعم العرفي أنّ رئاسة المجلس وغالبية الأعضاء ماضون في اتجاه المصادقة رسميًا على الاتفاقية البحرية الليبية ـ التركية خلال الجلسة المقبلة لمجلس النواب.
وأضاف في تصريحاته لوسائل إعلام ليبية: "الاتفاقية تصبّ في مصلحة ليبيا، ولن نفرّط فيها، ولن نرضخ لاعتراض عدد من الدول عليها".
ولفت العرفي إلى أنّ الاتفاقية لن تُطرح للنقاش في الجلسة المقبلة، بل سيتم التصويت على المصادقة عليها بشكل فوري، موضحًا أنّه قد جرى بحثها في وقت سابق.
زيارة المشير خليفة حفتر إلى القاهرة ولقاؤه الرئيس السيسي فتحا بابًا جديدًا للتنسيق الإقليمي بخصوص الاتفاقية البحرية والملف الأمني الليبي.
في هذا السياق أكد الدكتور عاطف الحاسية، الأكاديمي بجامعة عمر المختار، أنّ الاتفاقيات السيادية ينبغي أن يُراعى فيها وضع السلطة في الدول، مشيرًا إلى أنّ ليبيا ليست في حالة استقرار سياسي، وأنّ على جيرانها التحلّي بالصبر وضبط النفس.
وتابع الحاسية في حديثه لموقع (حفريات) أنّ على البرلمان الليبي التريث وعدم الانصياع أمام أيّ ضغوط خارجية، إذ قد تتأثر مصالح ليبيا بشكل يضعف مكانتها الاستراتيجية على المدى البعيد.
الوضع السياسي الليبي وتداعيات الاتفاقية
وأوضح أنّ الاتصال المباشر مع الجهات السيادية الليبية يُعدّ أمرًا ضروريًا للحفاظ على الثقة المتبادلة بين الأطراف، لكنّه في الوقت ذاته يحتاج إلى جانب ليبي قادر على فرض السيطرة الأمنية والاستراتيجية على كامل الحدود الليبية بمختلف أنواعها.
تسعى بعض الأطراف الليبية إلى إعادة تقييم الاتفاقيات البحرية مع تركيا بما ينسجم مع المستجدات الإقليمية ويضمن مصالح البلاد الاستراتيجية.
وأشار الحاسية إلى أنّ شهية الدول المستهلكة للطاقة تتزايد في المنطقة، وأنّ تحقيق التوازن بين مصالح تلك الدول يصبّ في مصلحة الجميع، مؤكدًا أنّه لا يمكن التوصل إلى أيّ استقرار مستدام إلا بالاحتكام إلى القوانين الدولية المنظمة للحدود الاقتصادية الخالصة بين الدول.
القاهرة وليبيا... مخاوف الصراع في العاصمة طرابلس
وبيّن أنّ جمهورية مصر العربية تشكّل الحلقة الأقوى في الشراكة مع ليبيا، وخاصة في برقة، مضيفًا أنّ ازدياد مخاطر الصراع في طرابلس سيدفع مصر إلى التركيز أكثر على علاقاتها مع القيادة العامة للقوات المسلحة العربية الليبية، لما لها من تأثير واسع في معظم مناطق السيادة الليبية.
تصاعد المخاوف من التحركات الأحادية دفع الأكاديميين إلى التحذير من توظيف ليبيا كورقة ضغط في صراع إقليمي لا يخدم السيادة الوطنية.
وأشار في ختام تصريحاته لـ (حفريات) إلى أنّ اليونان وتركيا على خلاف تاريخي بشأن العديد من الملفات، إلا أنّ شراكتهما في حلف شمال الأطلسي ستوفر الحد الأدنى من التفاهم لتفادي أيّ مواجهات مسلحة تتعلق بملف الحدود البحرية.
اليونان ترقب الوضع في شرق المتوسط
وسط ترقّب إقرار البرلمان الليبي، ومقرّه طبرق شرق البلاد، اتفاقية ترسيم الحدود البحرية الليبية-التركية، أعلنت اليونان نشر (3) سفن حربية في شرق المتوسط بين تركيا وليبيا، بدعوى وقف تدفّق المهاجرين القادمين من ليبيا، حسب ما نشر موقع (زمان) التركي.
وصرّح رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، خلال مشاركته في قمة الاتحاد الأوروبي التي عُقدت في بروكسل، بأنّ هذه الخطوة تأتي لتعزيز السيطرة على الحدود البحرية ومنع عمليات تهريب البشر، مشيرًا إلى أنّ السفن ستقوم برصد قوارب المهرّبين وإجبارها على العودة قبالة السواحل الليبية.
أكد عضو مجلس النواب عبد المنعم العرفي أنّ غالبية الأعضاء يتجهون للمصادقة رسميًا على الاتفاقية دون مناقشة، رغم اعتراض دول إقليمية عليها.
لكنّ التحرّك اليوناني لم يقتصر فقط على الجانب الأمني والهجرة، بل يأتي في ظلّ تصاعد التوترات مع تركيا، بعد إعلان المجلس الأوروبي رفضه مذكرة التفاهم المتعلقة بالمناطق البحرية بين تركيا وليبيا.
واعتبر المجلس الأوروبي أنّ مذكرة التفاهم المتعلقة بالمناطق البحرية الموقَّعة بين تركيا وليبيا تنتهك الحقوق السيادية لدولة ثالثة، وأكد أنّ هذه المذكرة لا تتوافق مع القانون البحري ولا يمكن أن تنتج عنها آثار قانونية بالنسبة إلى دولة ثالثة.
تركيا تدخل على الخط ببيان رسمي
بدورها، اعتبرت تركيا أنّ تصريحات الاتحاد الأوروبي بشأن الاتفاق البحري الموقَّع بين طرابلس وأنقرة منذ عام 2019 "لا تخدم السلام والاستقرار الإقليميين"، داعيةً التكتل إلى إلزام أعضائه بالقانون الدولي.
وقال الناطق باسم وزارة الخارجية التركية، أونجو كِجلي، في بيان ردًّا على سؤال بشأن استنتاجات المجلس الأوروبي: "الاستنتاجات التي اعتمدها المجلس الأوروبي في الثامن والعشرين من شهر حزيران (يونيو) الفائت تُظهر إصرار اليونان والقبارصة اليونانيين على فرض مطالبهم المتطرفة على الاتحاد الأوروبي، وهي مطالب تتعارض مع القانون الدولي ومبدأ الإنصاف"، بحسب البيان.
دعا الدكتور عاطف الحاسية البرلمان الليبي إلى التريث وعدم الانصياع للضغوط الخارجية، حفاظًا على التوازن والمكانة الاستراتيجية لليبيا في المتوسط.
وكشف رئيس لجنة الحدود البرية والبحرية بوزارة الخارجية في حكومة الوحدة، ومقرّها طرابلس، محمد الحراري، لوسائل إعلام ليبية، عن إجراء زيارة إلى العاصمة اليونانية أثينا "لكسر الجليد"، وقد رحّبنا برغبة وزير خارجيتها في زيارة ليبيا لاستئناف المحادثات. كما أكّد أنّ توقف المحادثات بين طرابلس وأثينا يعني أنّ الجانب اليوناني لا يقيم وزنًا للاتفاقية الليبية ـالتركية ولا يعترف بها.
الغرياني: مجلس النواب لن يمرر الاتفاقية البحرية مع تركيا
من جانبه، يرى الكاتب السياسي عبد الله الغرياني أنّ مجلس النواب لن يمرّر الاتفاقية البحرية المبرمة مع تركيا لاعتمادها بشكل رسمي. وتابع قائلًا في حديثه لموقع (حفريات): إنّ مصير هذه الاتفاقية سيبقى مجهولًا، رغم أنّها قد تشكّل حاليًا ورقة ضغط رابحة في مواجهة ما تقوم به اليونان في البحر المتوسط من أعمال تنقيب أحادية رفضتها السلطات الليبية شرقًا وغربًا.
هل يرضخ مجلس النواب الليبي للاستغلال التركي؟
واعتبر الغرياني أنّ مجلس النواب لن يطرح الاتفاقية للاعتماد، وإن فعل ذلك، فإنّه يكون قد رضخ للاستغلال التركي الذي وضع الاتفاقية البحرية شرطًا أساسيًا مقابل توقيع الاتفاقية الأمنية مع حكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج سابقًا، وهي الاتفاقية التي سمحت بدخول الجيش التركي منتصف عام 2019 لمساندة الميليشيات التابعة لحكومة الوفاق الوطني في حربها ضد الجيش الليبي على مداخل وأطراف طرابلس.
تزداد أهمية القاهرة كشريك محوري لليبيا، خصوصًا مع تنامي مخاطر الصراع في طرابلس وتعقيدات الملف العسكري على حدود الجنوب.
وأضاف: لذلك أؤكد أنّ عرض الاتفاقية للتصويت والاعتماد أمر أراه مستحيلًا، رغم الانفتاح السياسي والعسكري القائم حاليًا مع تركيا من جانب السلطات في شرق البلاد التابعة لمجلس النواب. ومع ذلك، تظل اليونان في موقف بالغ الحرج، إذ إنّ عدم اعتماد الاتفاقية قد يفتح الباب أمام تدخل تركي يستند إلى التوقيع المبدئي الذي جرى في عام 2019، وهو ما يشكّل ضررًا كبيرًا على السيادة الوطنية الليبية. وفي هذا السياق يجب تحييد الطرفين عن قضايا التنقيب إلى حين توحيد السلطات وإجراء انتخابات تؤدي إلى تشكيل مؤسسات شرعية جديدة.
زيارة المشير حفتر إلى القاهرة: ملفات وأولويات
أمّا بخصوص لقاء السيد القائد العام للجيش، المشير خليفة حفتر، مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، فأراه يصبّ في صالح تعزيز التعاون العسكري والأمني، ولا سيّما في ما يتعلق بحماية الحدود الليبية ومعالجة الاشتباكات الأخيرة التي وقعت بين قوات الجيش الليبي وقوات عبد الفتاح البرهان، إلى جانب الاتهامات التي أطلقها الجانب السوداني دون أيّ دليل ثابت. وبرأيي فإنّ هذه الأزمة تُعدّ من أولويات النقاش بين الجانبين، وكذلك التهديدات التي تشهدها المنطقة في جنوب الحدود الليبية.
يرى عبد الله الغرياني أنّ تمرير الاتفاقية البحرية يعني رضوخًا للاستغلال التركي، وقد يفتح الباب لتدخلات تُضعف السيادة الوطنية الليبية مستقبلًا.
ويختتم عبد الله الغرياني حديثه لـ (حفريات) قائلًا: قد تكون أزمة شرق المتوسط أيضًا ضمن الملفات المطروحة، لكنّي أرى هذه الزيارة مثمرة، لأنّ الجانب الليبي يمثل شريكًا مكملًا للجانب المصري، والعكس صحيح، فالتعاون مع مصر كان وسيظلّ استثنائيًا بالنسبة إلى شرق البلاد.