
مرة أخرى، بعث عبد الإله بنكيران الأمين العام لحزب (العدالة والتنمية)، "الذراع السياسية لجماعة الإخوان "، المصنفة على قوائم الإرهاب، بجدل محموم في المجال العام بالمغرب على خلفية تصريحاته بخصوص تأييد "الولي الفقيه" ونظام الملالي بإيران، وهي التصريحات التي تكشف عن أزمة الولاء وتباعد الانتماء إلى الوطن على حساب إكراهات الإيديولوجيا. إذ إنّ تأكيد القيادي الإخواني على دعمه اللّامحدود لإيران، رغم تأييد الأخيرة لجبهة البوليساريو صاحبة المواقف العدائية للمملكة المغربية، وبما تثيره من مواقف تؤزم وضعها الحدودي والجيوسياسي، وتجعل أمنها القومي في حالة تهديد، ومحاولة لإضعاف إحدى خواصرها، هذا الدعم يفضح انتهازية الجماعة ومواقفها البراغماتية الفئوية على حساب الجماعة الوطنية ومصالحها.
عبد الإله "ابن إيران"
قال عبد الإله بنكيران أثناء كلمته بالمؤتمر الجهوي السابع لحزبه بالدار البيضاء: إنّه "يفتخر" بلقب "ابن إيران" الذي يُطلقه عليه البعض، مشيرًا إلى أنّ طهران "وقفت في وجه إسرائيل ودعمت فلسطين، وتحملت الثمن مع أذرعها"، وفق ما ذكر موقع (ريو 20) المغربي. لكنّ زعيم إخوان المغرب حاول تقديم تبرير مزدوج لهذا الموقف، موضحاً: "إذا وقفت إيران ضد المغرب، فأنا مع بلادي، حيث هي على حق، وإيران على خطأ إذا أرادت الهيمنة على المنطقة العربية والإسلامية، وأنا في هذا ضدها".
تصريحات عبد الإله بنكيران بشأن تأييده لإيران فجّرت جدلًا واسعًا في المغرب، وأعادت تسليط الضوء على أزمة الولاء داخل الأحزاب الإسلامية.
التصريحات بعثت بجدالات عنيفة ومحتدمة في المجال العام المغربي وفي الأساط السياسية والإعلامية، لا سيّما أنّ المغرب باشر في قطع علاقاته الدبلوماسية مع إيران عام 2018 على خلفية اتهام الحرس الثوري الإيراني بدعم وتدريب عناصر جبهة البوليساريو ومن خلال وكيلها المحلي بلبنان حزب الله.
وبحسب الصحيفة المحلية المغربية، يُنظر إلى هذا الموقف من بنكيران باعتباره محاولة للموازنة بين الخطاب الإيديولوجي للحزب الإخواني الذي يتماهى مع بعض مواقف طهران الإقليمية، خاصة تجاه إسرائيل، وبين الحساسية الوطنية المرتبطة بقضية الصحراء المغربية التي تُعدّ خطًا أحمر في السياسة الخارجية للمملكة المغربية. واعتبر مراقبون أنّ بنكيران يعيد تدوير خطاب يُراهن على شعبوية القضية الفلسطينية، دون مراعاة الموقف الرسمي المغربي الذي يرى في إيران تهديداً مباشراً للأمن القومي المغربي، ليس فقط عبر دعم البوليساريو، بل من خلال شبكاتها الإقليمية. كما تساءل آخرون عن صمت الحزب إزاء التدخل الإيراني في شؤون المغرب الداخلية، في مقابل تصعيده ضد خصوم داخليين على ملفات أقلّ حساسية، وهو ما يفتح النقاش مجدداً حول ازدواجية المعايير داخل الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية.
موقف غير مسؤول
في حديثه لـ (حفريات)، يقول عبد الله الفرياضي، رئيس المعهد المغربي لحقوق الإنسان: إنّه و"بكل أسف، تابعنا الموقف الإيديولوجي غير المسؤول للأمين العام لحزب العدالة والتنمية عبد الإله بنكيران بشأن دعم النظام الصفوي في إيران في نزاعها العسكري الأخير مع إسرائيل. وإذ نعتبر هذا الموقف مستهجناً وغير مسؤول، فلأنّه يفتقر إلى الحدّ الأدنى من تقدير مقتضيات المسؤولية الوطنية والسياسية التي يتعين أن يتحلى بها الفاعل السياسي الوطني عند تناول قضايا ذات صلة مباشرة بثوابت السيادة الوطنية واختيارات الدولة الاستراتيجية".
رغم الدعم الإيراني لجبهة البوليساريو، لم يتردد بنكيران في إظهار تعاطفه مع طهران، ما أثار تساؤلات حول انتمائه وموقفه من قضايا الوطن.
ويقول الفرياضي: إنّ العلاقات المغربية الإيرانية كانت، وما تزال، مطبوعة بالتوتر والعداء، بسبب النهج العدواني لنظام الملالي تجاه المصالح العليا للمملكة، وخرقه المتكرر لقواعد القانون الدولي، وميثاق الأمم المتحدة، وخاصة مبدأ احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. لذلك اضطرت المملكة، بمقتضى قرار سيادي مشروع، إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع طهران عام 2018، عقب ثبوت تورطها، عبر ذراعها العسكرية "حزب الله"، في دعم وتسليح جماعة انفصالية مسلحة تهدد وحدة المغرب الترابية وأمنه القومي. هذا فضلاً عن أنّ السياسات التخريبية التي تنتهجها طهران لم تستهدف المغرب وحده، بل شملت عدداً من الدول العربية الشقيقة التي تتعرض منذ عقود لمحاولات زعزعة استقرارها الداخلي وتفكيك نسيجها الوطني، في خرق سافر للأعراف الدبلوماسية والقانون الدولي.
محاولة بنكيران تبرير موقفه بالتمييز بين دعم فلسطين والوقوف مع المغرب لم تنجح في تبديد الشكوك حول ازدواجية خطابه السياسي.
وعلاوة على ذلك، فإنّ التعبير عن مواقف متعاطفة مع نظام سياسي معادٍ للمغرب في هذه الظرفية الإقليمية والدولية الدقيقة، يشكّل إضراراً مباشراً بصورة المملكة وموقفها السيادي، ويخالف مقتضيات الالتزام بالتضامن الوطني. فالمملكة المغربية، بحكم مركزها الجيوسياسي ومسؤولياتها الإقليمية والدولية، قد نسجت شبكة من الاتفاقيات الأمنية والعسكرية الاستراتيجية مع عدد من الدول الحليفة، من ضمنها دولة إسرائيل التي دخلت معها طهران في حرب مفتوحة. وهذه التحالفات انبثقت من إرادة سيادية مستقلة تستحضر المصلحة الوطنية العليا، وأولويات الأمن القومي للمملكة، في انسجام تام مع مقتضيات الشرعية الدولية وميثاق الأمم المتحدة، بحسب رئيس المعهد المغربي لحقوق الإنسان.
مراقبون اعتبروا موقف بنكيران إعادة تدوير لخطاب شعبوي يراهن على فلسطين لتبرير التقارب مع إيران، رغم تهديداتها للأمن القومي المغربي.
ويختتم حديثه قائلاً: "تبعاً لكل ما سلف، وإذا كانت حرية الرأي والتعبير حقاً دستورياً مكفولاً، فإنّ مقتضيات الحكمة السياسية، والمسؤولية الوطنية، والالتزام بمصالح الدولة العليا، تقتضي من الفاعلين السياسيين التحلي بروح المسؤولية، وتفادي المواقف الإيديولوجية المتسرعة، أو المحكومة بهواجس انتخابية سابقة لأوانها، والتي من شأنها التشويش على اختيارات المغرب السيادية، أو منح غطاء سياسي لأنظمة تناصب العداء للوحدة الترابية للمملكة، وتهدد أمنها القومي".
الإخوان وإشكالية الولاء
يتفق والرأي ذاته المفكر المغربي الدكتور سعيد ناشيد، الذي يرى أنّ تصريحات بنكيران بخصوص دعمه، ولو بشكل غير مباشر، للموقف الإيراني في هذه الحرب، يعكس في الحقيقة مشكلتين أساسيتين لدى الإخوان المسلمين بكل تلويناتهم؛ المشكلة الأولى هي مشكلة الولاء، دائماً هناك ولاء لجهات خارجية على حساب الولاء الوطني، وقد "عشنا هذا في تجربة حكم حزب (العدالة والتنمية) عندما كانوا يحكمون. كان الولاء لتركيا مثلاً قد تسبب في خسائر في العلاقات التجارية مع تركيا لأنّهم يعتبرون أنّ تركيا النموذج الذي يتعين أن يُحتذى به والنموذج لإيديولوجيتهم، وبالتالي هم أكثر ولاء لتركيا، مثل ما حصل للإخوان المسلمين في سوريا الذين دعموا الاحتلال التركي مثلاً بالمنطق نفسه. وأيضاً عندما يتعلق الأمر بإيران نجد أيضاً الشيء ذاته، الولاء لإيران على حساب الولاء الوطني، لماذا؟ لأنّ إيران تقدّم للإخوان المسلمين نموذجاً للحكم أو ما يمكن أن يكون عليه الحكم، المرشد الأعلى في إيران هو النموذج التطبيقي للمرشد الأعلى للإخوان المسلمين فيما لو تمكنوا من السلطة ومن الحكم".
المفكر المغربي سعيد ناشيد وصف الإخوان بأنهم يعانون من مشكلتين: أزمة ولاء خارجي وازدواجية في الخطاب بين الوطنية والانتماء الأيديولوجي.
وبحسب ما يوضح ناشيد، فالحرس الثوري هو النموذج الذي كان الإخوان المسلمون قد حاولوا تشكيله في غضون ما كان يُسمّى بالربيع العربي قبل أن يتحول إلى شتاء وعواصف. المعضلة الأولى هي معضلة الولاء، دائماً يكون على حساب الوطن لجهات أخرى خارجية، إمّا إيران، وإمّا تركيا، وإمّا تنظيمات افتراضية مجتزأة بلا مرجعية وطنية. والمعضلة الثانية هي معضلة ازدواجية الخطاب، فقد لاحظنا في الخطاب نفسه، وفي الموقف نفسه، أنّ هناك قدراً كبيراً من الازدواجية، كأنّه يريد أن يجمع بين نقيضين؛ الولاء لإيران الذي لم يُخفِه، ثم أيضاً التصريح بأنّه مستعد للدفاع عن الوطن فيما لو كانت هناك حرب أو صراع بين المغرب وإيران، رغم أنّ هذا الصراع هو حقيقي".
يرى ناشيد أن الإخوان يقدّمون إيران كنموذج للحكم الديني، وأنهم مستعدون للتضحية بالمصلحة الوطنية في سبيل مرجعيات خارجية وأوهام إيديولوجية.
فالمغرب، والحديث للمفكر المغربي سعيد ناشيد، اضطر إلى قطع علاقاته الدبلوماسية مع إيران بسبب التدخل الإيراني في الشأن المغربي وفي تهديده للوحدة أو المساهمة في تهديد الوحدة الترابية للمغرب عبر دعم فصائل انفصالية بأدوات تابعة مباشرة للحرس الثوري أو تابعة لجهات أخرى يدعمها الحرس الثوري. وطبعاً لا يخفى على أحد أيضاً العلاقات بين الجارة الجزائر وإيران، والدعم العسكري المباشر بينهما، وقد تناقلت الأخبار مقتل عدد من الضباط الجزائريين في الحرب الأخيرة الجارية. باختصار تلك هي الأزمة، وهي تعكس أزمة الولاء على حساب الوطن، وما يترتب على ذلك من ازدواجية الخطاب. هذه هي معضلات خطاب الإخوان المسلمين سواء في المغرب أو في العالم بأسره".