
من أبرز الدوافع التي تؤسس عليها جماعة الإخوان معارضتها للأنظمة الحاكمة أنّها أنظمة استبدادية، وتدّعي الجماعة أنّها تسعى إلى تغيير تلك الأنظمة من أجل بناء نظام ديمقراطي، وحتى اللحظة تبرر الجماعة دعواتها إلى الثورة والتغيير في مصر بالرغبة في إقامة مجتمع يتمتع فيه المواطنون بحريتهم. لكنّ المفارقة أنّ الجماعة، عبر تاريخها ومن خلال العديد من شهادات أعضائها، تمارس الاستبداد داخل التنظيم تجاه أعضائها، وتهيئهم من أول يوم لتقبّل ذلك الاستبداد.
ما نود مناقشته هنا هو؛ هل الاستبداد مقتصر على الحكومات والأنظمة أم أنّه ثقافة موجودة في المجتمع تتجلى في صور متعددة، وما مظاهر الاستبداد الذي تمارسه جماعة الإخوان تجاه أعضائها؟
ثقافة الاستبداد
يُعدّ أرسطو أول من استخدم مصطلح الاستبداد في الفكر الغربي القديم، ويقصد به ذلك النوع من الحكم الذي يعامل الرعايا على أنّهم عبيد، فيعتقد الحاكم المستبد أنّ الدولة وما تحتويه من أرض وبشر ملك شخصي له، وليس لهم سوى السمع والطاعة، بينما عرّفه الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد" بشكل يركز على كونه ثقافة، وليس مفهومًا قاصرًا على الحكام فحسب، حيث يرى أنّ الاستبداد هو غرور المرء برأيه، والأنفة عن قبول النصيحة أو الاستقلال في الرأي، ووفق هذا المعنى يكون الاستبداد غير قاصر على الحكومات والأنظمة، ولكنّه يمثل ثقافة موجودة في كل المجتمعات بدرجات متفاوتة، ينتج عنها العديد من الممارسات ولها مظاهر مختلفة في كل الحقول، في حقل الأسرة وحقل التعليم وحقل الدين... إلخ، ويمارسه العديد ممّن يتمتعون بسلطة تجاه الآخرين، فيمارسه الأب تجاه أبنائه، والمثقف تجاه الجمهور، ورجل الدين تجاه غيره ممّن يعتبرهم لا يمتلكون المعرفة الدينية التي يمتلكها، والرجل تجاه المرأة... إلخ.
مظاهر الاستبداد داخل جماعة الإخوان
تتنوع أشكال الاستبداد الذي تمارسه الجماعة تجاه أعضائها، فالاستبداد لا يكون فقط في صورته المادية من حبس وتقييد للحركة والحرية، ولكنّ الاستبداد له مظاهر مختلفة ومتنوعة هدفها في النهاية فرض الرأي ومصادرة حق الآخرين في التعبير عن آرائهم وأفكارهم بحرية.
وجماعة الإخوان تمارس صورًا مختلفة من الاستبداد، منها ما تتم ممارسته بشكل مباشر وظاهر مثل قرارات الفصل وتجميد العضوية تجاه بعض الأفراد الذين يخالفون مبدأ السمع والطاعة ويبدون آراء مخالفة لرأي الجماعة، ومنها ما يتم بشكل خفي يمثل أحد صور العنف الرمزي، ويتمثل العنف الرمزي في ممارسة الجماعة لأساليب ناعمة وخفية من شأنها ترسيخ أوضاع الهيمنة داخل التنظيم تجعل لمجموعة من القيادات القدرة على التحكم في باقي الأفراد وفرض رأيها عليهم، ويعرّفه علماء الاجتماع بأنّه القدرة على فرض دلالات ومعانٍ معينة بوصفها دلالات ومعاني شرعية، وإخفاء علاقات القوة التي تمثل الأساس الذي ترتكز عليه هذه القدرة، يعني ذلك أنّ العنف الرمزي يتمثل في وجود طرفين؛ الأوّل طرف مهيمِن يعمل على فرض أفكار ومعتقدات وقناعات وتصورات ومعاني ومعايير معينة على طرف آخر مهيمَن عليه وخاضع له وواقع تحت تأثيره، ويمارس الطرف المهيمن هيمنته من خلال ما يملكه من وسائل وأدوات من أجل فرض رؤيته على الطرف الآخر، ويترتب عليه تقبّل الأفراد المهيمن عليهم لتلك الأفكار والقناعات والأوضاع والتعايش معها كحقائق ومسلمات، وتبنيها كأنّها أفكارهم ومعتقداتهم، بل الدفاع عنها والوقوف دون تغييرها أو نقدها.
وتبدأ ممارسة الاستبداد داخل الجماعة من لحظة اختيار الأفراد للانضمام إليها، حيث هي التي تنتقي من الأفراد من يصلح لعضويتها ولا تعطي الفرصة لأحد أن يدخل فيها بشكل طوعي، ثم هي التي تضع شروط وآليات ومواعيد انتقاله من مرحلة تربوية إلى أخرى دون إدراك منه لذلك ودون اختيار، وتتعدد مظاهر الاستبداد داخل الجماعة، ومنها أنّها تعتمد على أسلوب التلقين في تربية أفرادها وتعمل على ترسيخ ثقافة الطاعة والثقة المطلقة لديهم بشكل تعطل عندهم ملكة التفكير والسؤال، ومنها أنّها تعتمد على سياسة السرية في كل شيء خاص بالتنظيم بحيث لا يعلم الفرد تفاصيل أو معلومات داخل التنظيم سوى ما يتعلق بنشاطه فقط، حتى أنّ قيادات كثيرة لا تعلم العديد من التفاصيل الخاصة بالجماعة، ومنها تفاصيل ميزانية الجماعة ومصادر تمويلها وأوجه صرف الأموال فيها والتي تظل خافية سوى عن مجموعة قليلة من القيادات، ومن مظاهر الاستبداد الأخرى داخل الجماعة ما يذكره أحد رموز الجماعة في الكويت عبد الله النفيسي في كتاب "الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية" حول تركيز السلطة داخل الجماعة بيد فئة قليلة من الأشخاص ربما يعدون على أصابع اليد الواحدة، وفصل الأعضاء وتجميد عضويتهم دون استدعائهم للتحقيق ودون إعطائهم فرصة لإبداء رأيهم والدفاع عن أنفسهم، وكذلك اختيار أهل الثقة في المناصب القيادية من خلال انتخابات شكلية واستبعاد أهل الكفاءة الذين لا يتمتعون بالثقة المطلوبة، ومن المظاهر أيضًا المبالغة في إلزام الأفراد بمبدأ السمع والطاعة وإعطائه طابعًا دينيًا وإنزال نصوص دينية في غير موضعها في هذا الشأن، ويقول مصطفى مشهور المرشد السابق عن ذلك: "لا تعتبر جماعة تحقق أهدافًا وتنجز أعمالًا إلا إذا كان أفرادها يسمعون ويطيعون لقيادتهم تعبدًا وطاعة لله، فإنّ طاعة الأمير من طاعة الله".
ومن المظاهر كذلك عدم وجود آليّة لمحاسبة القيادات ومساءلتها حين تخطئ أو حين تدخل الجماعة في أزمة، وكذلك التكتم على تفاصيل وأسباب الأزمات التي تدخل فيها الجماعة سواء في أثناء الأزمة أو بعد انتهائها، فلا يعرف الأفراد لماذا وقعت وكيف انتهت وهم في كل الأحوال ملزمون بطاعة القيادات والثقة المطلقة في نزاهتهم وكفاءتهم، ومن المظاهر أيضًا التقليل من قيمة الفرد كإنسان داخل الجماعة والتعامل معه فقط على أنّه أداة لنشر الأفكار وحشد الأصوات في الانتخابات وضم وتجنيد أفراد جدد من أجل تقوية بنيان التنظيم وتحقيق أهداف الجماعة، ومن المظاهر بقاء مرشد الجماعة في منصبه حتى الوفاة وعدم وجود آليّة لتداول السلطة داخل التنظيم، وكذلك منع أيّ عضو في الجماعة من توجيه نقد علني للجماعة واتخاذ إجراءات تصل للفصل تجاهه، حسب شهادة أحد أعضاء الجماعة التي ذكرها دكتور عمار علي حسن في كتابه "انتحار الإخوان"، ومن المظاهر تشويه الخارجين والمنشقين عن الجماعة سواء لأسباب فكرية أو تنظيمية، والعمل على الانتقام منهم بصور مختلفة، ومن مظاهر الاستبداد كذلك رفض أيّ جهود إصلاحية من داخل الجماعة، والعمل على إقصاء وتحجيم من يطالب بذلك.
نتائج الاستبداد على الجماعة والفرد
تنتج عن ثقافة الاستبداد الراسخة في بنية الجماعة عدة نتائج من أهمها؛ صناعة فرد مفتقد للإرادة والذاتية والقدرة على التفكير والفعل، ممّا يصيب الجماعة بالضعف رغم احتوائها على عدد كبير من الأعضاء إلا أنّهم لا يتمتعون بالسمات اللازمة التي تساعد الجماعة على تحقيق أهدافها، كما ينتج عنها انتشار الفساد داخل الجماعة نتيجة عدم وجود آليات للمحاسبة والمساءلة للقيادات المسيطرة عليها، أيضًا تتسبب تلك الثقافة في إصابة الجماعة بضيق الأفق والخيال بسبب سيطرة فئة قليلة على القرار ورسم السياسات داخل التنظيم وعدم الاستفادة من باقي الأفراد، أيضًا تتسبب في تكرار الأخطاء والأزمات التي تدخل فيها الجماعة نتيجة عدم وجود آليّة للمراجعة والتقييم وعدم وجود مناخ يساعد على إبداء الأفراد لآرائهم دون خوف، كما تتسبب في كثرة الانشقاقات والتصدعات الداخلية، وأخيرًا يتسبب استبداد الجماعة في كسر الصورة الذهنية التي تعمل على ترسيخها في المجتمع من أنّها جماعة تسعى إلى إقامة نظام حكم ديمقراطي وتقف ضد الاستبداد وتعمل على أن ينال المجتمع حريته، حيث تبرز تلك الثقافة والسياسة الداخلية التي تتخذها والقائمة على الاستبداد مدى تناقضها وادعائها.