
يمثل سيد قطب أحد أبرز الأسماء في التاريخ الفكري لجماعة الإخوان والحركات الإسلامية في القرن العشرين، لما أحدثه من تحول نوعي في مسار الخطاب الإسلامي، فقد انحرف به من الطابع الإصلاحي التدريجي إلى النزعة الجهادية المتطرفة. وتكمن أهمية قطب في كونه المرجع النظري الأول لتيارات العنف المسلح ذات الخلفية الإسلامية، حيث إنّ كثيرًا من الحركات الجهادية اعتمدت على استدعاء وتأويل أفكاره لتبرير أفعالها.
بدأ قطب حياته الفكرية أديبًا ناقدًا ضمن التيار الليبرالي الوطني في مصر، وكتب في بداياته عن الأدب والشعر والنقد الاجتماعي من منظور قريب من العقلانية الحديثة. إلّا أنّ تحولات جذرية طرأت على فكره، لا سيّما في أعقاب رحلته إلى الولايات المتحدة في أواخر الأربعينات، حيث عبّر عن صدمته الحضارية حيال الثقافة الغربية، وبدأ بالبحث عن بديل قيمي وروحي يستند إلى تصوراته حول الإسلام.
المنعطف الحاسم كان في منتصف الخمسينات بعد انضمامه إلى جماعة الإخوان المسلمين، واعتقاله في أعقاب محاولة اغتيال جمال عبد الناصر، وخلال فترة السجن تشكلت رؤيته الحركية المتطرفة التي عبّر عنها في أبرز مؤلفاته: "معالم في الطريق"، الذي أصبح بمثابة البيان الفكري الأول لمن أراد تغيير الواقع من خلال العمل الجهادي.
المرتكزات النظرية التي شكلت القاعدة الفكرية للعنف
مفهوم الجاهلية الحديثة
إحدى أبرز الأفكار التي أعاد سيد قطب صياغتها هي توصيفه للمجتمعات الإسلامية المعاصرة بأنّها تعيش في جاهلية شاملة، بسبب ابتعادها عن تطبيق الشريعة الإسلامية في الحكم والتشريع. هذا التوصيف لا يقتصر على الأنظمة الحاكمة، بل يشمل البنى المجتمعية والثقافية كافة، ممّا يعني أنّ المجتمع بمجمله أصبح، بنظر قطب، هدفًا للمفاصلة والتغيير الجذري.
فكرة الحاكمية
وفقًا لرؤية قطب، فإنّ السيادة أو "الحاكمية" لا يجوز أن تكون لأيّ كيان سوى الله؛ وبالتالي فإنّ أيّ نظام سياسي لا يستند إلى الشريعة يُعدّ مغتصِبًا لسلطة الله في التشريع. وهذا الموقف يُفضي منطقيًا إلى تكفير الأنظمة السياسية، واعتبار مقاومة هذه الأنظمة واجبًا دينيًا.
العزلة الشعورية والعملية
يشدد قطب على ضرورة أن تنفصل "الطليعة المؤمنة" انفصالًا تامًا عن المجتمع الجاهلي، شعوريًا وعمليًا، باعتبارها النواة التي ستعيد بناء المجتمع الإسلامي. وتتحول هذه "العزلة" في التطبيق إلى نوع من العزلة المجتمعية، وقد تكون مقدمة للتصادم المسلح مع الدولة.
ويتبنّى قطب تصوّرًا يشبه "نظرية النخبة الثورية"، ويرى أنّ التغيير يجب أن يبدأ بمجموعة صغيرة ومؤمنة وملتزمة، قادرة على المواجهة مع الجاهلية، حتى لو كانت وحدها في البداية. هذه النخبة تمارس مهمتها برسالة تتجاوز الوسائل السلمية المعتادة، ممّا يجعلها تنزلق بسهولة نحو التبرير الأخلاقي للعنف باعتباره وسيلة ضرورية لإقامة "المجتمع الربّاني".
العنف كأداة ضمن مشروع التغيير
رغم أنّ قطب لا يصرّح بشكل مباشر باستخدام العنف كخيار وحيد، إلا أنّ المنظومة المفاهيمية التي يضعها، والتي تقوم على القطيعة الشاملة مع الواقع، والحكم على المجتمع بالجاهلية، ومفهوم الطليعة المؤمنة المكلفة بإعادة الإسلام للهيمنة، تقود عمليًا إلى طريق مسدودة أمام الإصلاح السلمي. فالأنظمة ـ في تصوره ـ لا يمكن إصلاحها من الداخل، والمجتمعات فقدت أهليتها الذاتية، والحلّ يكمن في التغيير "الانقلابي" الذي قد يتضمن الجهاد المسلح بوصفه وسيلة مشروعة، بل واجبة، لتحرير الأرض من حكم الطواغيت. وقد ألهم هذا التوجه الكثير من التنظيمات الجهادية لاحقًا، التي قرأت أفكار قطب بوصفها مبررًا للعنف والتمرد على الدولة، مثل: "الجماعة الإسلامية" في مصر، و"القاعدة"، و"داعش".
منهج سيد قطب في ضوء الفكر السياسي والديني
يواجه قطب انتقادات واسعة، لأنّه يتجاوز في تفسيراته أصول الفقه الإسلامي المتفق عليها، ويعتمد مقولات عمومية في التكفير والحكم على المجتمعات، دون مراعاة للتفصيلات الفقهية الدقيقة التي تفرّق بين الأفراد والأنظمة، وبين الجهل والتعمد.
والفكر القطبي أقرب إلى ما يُعرف في الفكر السياسي بنظرية "الثورة الطليعية"، وهي نظرية ماركسيةـ لينينية في جوهرها، تقوم على تحرك نخبة ثورية لتغيير الواقع بالقوة، لكنّ قطب قدّمها بلغة دينية، ممّا جعلها أكثر تأثيرًا داخل التيارات الإسلامية.
من جهتها، أثبتت التجربة التاريخية أنّ الأفكار القطبية أسهمت في تفريخ موجات من العنف الدموي، وكرّست منطق العزلة والصدام، وأعاقت الانخراط السلمي في الحياة السياسية، وأسهمت في تقديم الإسلام بصورة تتناقض مع مبادئ الرحمة والعدل.
ويُظهر التحليل المتأني لفكر سيد قطب أنّه قدّم رؤية حركية متطرفة تستند إلى تأويل خاص للقرآن والسنّة، وتقوم على مفاهيم صدامية مع الواقع، ممّا أدى إلى نشوء تيارات عنف جهادية وجدت في أفكاره الشرعية الفكرية لتبرير ممارساتها. وبينما يرى أنصاره فيه شهيدًا ومفكرًا إسلاميًا مجددًا، فإنّ كثيرًا من الباحثين يرون أنّ خطابه فتح الباب أمام مرحلة من العنف العقائدي المنظم باسم الدين.