كيف تحولت "جماعة الإخوان المسلمين" من نظرية "تطبيق الشريعة" إلى نظرية "الحاكمية لله"؟ وما التناقضات ما بين هاتين النظريتين؟ وما المظاهر النصية-الحركية لهذه التناقضات؟ وما الشروط أو المراجع النصية التي حكمتها وتحكّمت بها؟ هل ثمة مخرج من عتمة الواقع العربي ودوامة العنف إلا عبر الحوار؟ وهل في تاريخ الحركات الإسلامية المعاصرة ثوابت تمكّن من إقامة حوار علماني إسلامي يرسي أسس علمنة جديدة وتداول سلمي للسلطة على أساس ديمقراطي يضمن مشاركة الجميع على قدم المساواة ؟ وما هي مقوماته وشروط نجاحه؟
كيف تحول الإخوان من نظرية "تطبيق الشريعة" إلى "الحاكمية لله"؟ وما التناقضات ما بين هاتين النظريتين؟
انطلاقاً من هذه الأسئلة ومن واقع العنف الذي لا يُنذر بغير الدمار وانسداد أفق المستقبل أمام المجتمعات العربية ما دامت رهينة خطاب العنف والعنف المضاد، وانطلاقاً من ثنائية التناقض بين الدولة المستبدة والتيارات الجهادية العُنفيّة التي أوصلت مجتمعاتنا إلى هذا الواقع المرير، ومن وعي المفكر وضمير المثقف الذي عايش يوميات العنف في وطنه ومدينته التي اكتوت بناره شأنها شأن مدن أخرى كان لها من هذا الحيف نصيب، يجعل الباحث السوري الحلبي محمد جمال باروت من كتابه "يثرب الجديدة: الحركات الإسلامية الراهنة" محاولة لتلمّس مخرج من عتمة الواقع المرير من خلال تفكيك الخطاب العُنفي وأيديولوجياته، واستقصاء ثوابته ومتغيراته و"مبرراته"، والدعوة إلى علمنة جديدة يرى أنّها قد تكون المخرج الوحيد من قطبية التناقض المدمرة تلك، عبر حوار علماني إسلامي يتجاوز خطاب الفَهمين المتطرفين "العلمانوي" و"التكفيري" للعلمانية، بحيث "تتجاوز فيه النخبة الحديثة تسويق أيديولوجيات الدولة المستبدة وتكف عن التذرع "بحداثتها" وإن كانت نسبية، وتتجاوز فيه النخبة "الإسلامية" النظرية والحركية الخطاب "الثيوقراطي" الذي صيغ على مقاس نفي الدولة المستبدة".
ويحاول الكاتب صوغ الأسس المنهجية الأولى لذلك الحوار من خلال اقتراح معالم أولى لتلك العلمنة الجديدة تتخطى الفهم "العلمانوي" المبسط والشكلي الذي يحيلها إلى عقيدة ونظام لاهوت مقلوب، والفهم "التكفيري" المرتكز على الكراسات المدرسية والذي يماهي بين "العلمنة" و"المادية" بالمعنى الفلسفي، أو "الإلحاد" بالمعنى الشائع، فيختزل العلمانية إلى "العلمانوية" أو المذهب العلماني ويبرر رفضها.
اقرأ أيضاً: أوليفيه روا يحلل عوامل فشل "تجربة الإسلام السياسي"
من أجل الإجابة عن أسئلة بحثه المفتاحية وتثبيت الأرضية الفكرية لدعوته، يذهب باروت على مدار كتابه إلى قراءة نقدية لتجربة الحركات الإسلامية الراهنة، بشقيها النظري والحركي، أو الدعوي والجهادي، تعتمد منهجية مخالفة للعديد من المفكرين الذين اهتموا بدراسة الظاهرة الإسلامية المعاصرة.
يعتمد الكتاب في قراءته النقدية منهجية مخالفة للعديد من المفكرين الذين اهتموا بدراسة الظاهرة الإسلامية المعاصرة
إذ تقوم هذه المنهجية على التميز بين الخطابين الإخواني "المعتدل" و"الجهادي" "المتطرف"، وعلى أنّ ثمة قطيعة إبستمولوجية وتناقضاً بين الخطاب النظري والحركي للجماعة، لا بد من تحديد آلياته ومصادره النصية ومراجعه الاجتماعية، واستجلاء ظروف وملابسات نشأته.
ولعل تميّزه هذا يفسر دعوته "لعلمنة" جديدة مفهومة فهماً عقلانياً يراها (ممكنة على المستوى النظري والعملي، وستجد إمكانية تقبل وإقرار حتى رجال الدين بها، والعمل لأجلها، من دون أن يكونوا "علمانويين"). ويجد تبريره في أن تاريخ النهضة المهدور يشمل نماذج من رجال دين لا يشك أحد بصحة إسلامهم: كعبد الرحمن الكواكبي والشيخ عبد الحميد بن باديس وآية الله العظمى حسين النائيني وغيرهم ممن أشّروا إلى مشروع حداثة لم ينجز تشكل "العلمنة" إحدى تظاهراته، لا بد من إعادة اكتشافه والحوار معه.
ويستعرض بعض المحطات التاريخية المرتبطة بالصفات الشخصية لبعض قادة وأعلام حركة الإخوان المسلمين ومواقفهم "الوطنية" وفكرهم المنفتح أو البراغماتي في مواقف معينة، مثل شخصية مصطفى السباعي أو راشد الغنوشي، وتقارب أفكار الرجلين حول مفهوم "الدولة الإسلامية" وحول العلمانية والتشاركية السياسية والتمثيل البرلماني وغيرها، رغم بعد المسافة الزمنية والمكانية بين نشاطهما السياسي وحيثياته، والاختلاف النسبي في ظروفه.
فالأول مشرقي سوري مثّل أفكار الحركة في مرحلة البدايات وقبل ظهور فصائلها "الجهادية" وطلائعها المقاتلة، والثاني مغربي تونسي مثّل الحركة بما انتهت إليه، بعد وخلال، ظهور تلك الفصائل الحركية وتنظيماتها العنفية، فيفرد لقراءة أفكار كل منهما فصلاً مستقلاً في كتابه.
اقرأ أيضاً: "من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي".. أركون وكسر الأنساق المغلقة
ويرتكز الباحث في تميّزه هذا إلى رصد ثلاثة مستويات أساسية في ممارسة الإسلام: الإسلام الشعبي المرتبط بآليات التدين التقليدي المتكيفة مع تقاليد المجتمع المحلي وعاداته وخصوصياته الثقافية والحضارية والاجتماعية، والإسلام الرسمي المرتبط بالمؤسسة الفقهية المشيخية التي غالباً ما تكون جهازاً أيديولوجياً من أجهزة الدولة، والإسلام السياسي الذي يرتبط نظرياً وحركياً بشعار "الدولة الإسلامية".
يدعو الكتاب لعلمنة جديدة عبر حوار علماني إسلامي يتجاوز خطاب الفَهمين المتطرفين "العلمانوي" و"التكفيري" للعلمانية
وفي مستوى هذا الإسلام الأخير تقع الحركات الإسلامية المعاصرة وتنظيمها الأم حركة "الإخوان المسلمين" التي ترى في الإسلام "ديناً ودولة"، لكن في نفس المستوى أيضاً تقع الحركة الإسلامية الإصلاحية ممثلة بأفكار رشيد رضا حول "الدولة الدينية" التي صيغت كرد فعل على صدمة الحضارة الغربية وتحدياتها التي نبّهت المسلمين إلى واقع تخلفهم، وهي المرجعية النصية التي منها "يمتص الخطاب "الإخواني" هذه "الترسيمة الأصولية" التي صاغها رشيد رضا بالاستناد إلى محمد عبده، ويتشربها على نحو عميق، حيث يعيد إنتاجها على نحو مطور ما بين مفهومي "الدولة الإسلامية" و"الدولة الدينية" التي لا يعتبرها نوعاً من أنواع "الدولة الدينية"، أو هي دولة وسط بين "الدولة الدينية" و"الدولة العلمانية" حسب أدبيات هذا الخطاب الذي يستند في صياغتها إلى الفقه السياسي السني ومنظوره لمفهومي "الإمامة" و"الخلافة".
وهو فقه بعيد عن المنظورات المثيولوجية الثيوقراطية السائدة في الفقه السياسي الشيعي الاثني عشري القائم على مفاهيم العترة والأسرة المقدسة والإمامية والعصمة، عصمة الإمام ووضعه فوق المساءلة فيما يشرع ويحكم وينفذ، وهو ما رأى فيه النائيني تأسيساً لسلطة "كهنوت إسلامي" استبدادي على غرار الكهنوت المسيحي الغربي لا يختلف عن الاستبداد السياسي. بل يتواشج ويتآخى معه، ويتوقف بقاء أحدهما على وجود الآخر، وأنّ هذا الاستبداد ليس اغتصاباً لحق الإمام الغائب "بحكم الضرورة والجبر" فحسب، بل اغتصاب "لحق الأمة في الولاية على نفسها"، وهو المفهوم الذي أسس له النائيني في سياق المرحلة الإصلاحية كنظرية "شيعية" للدولة في عصر الغيبة وفق الفقه الشيعي، والتي لا تتصور إلا دوراً محدداً للفقهاء؛ وتشترط معرفتهم بالأمور المدنية والزمنية العصرية.
اقرأ أيضاً: كيف يصنعون الظلام؟.. تفكيك ثالوث الطائفية والتكفير والإرهاب
فيما قامت نظرية "ولاية الفقيه" بشطبها لدور الأمة وإعطائها السلطة للفقهاء، على نقيضها والقطيعة المعرفية مع خطابها، ويقابلها ويتقمصها في الجانب السني الخطاب النظري والحركي "الجهادي" متجلياً في "نظرية "الحاكمية لله" التي كان أبو الأعلى المودودي أول من صاغها في الفكر الإسلامي الحديث على نحو منظومي"، والتي تتصور الإمام "نائباً لله" أو "خليفة لله"، فيما هو في النظرية "الإخوانية" وكيل عن الجماعة؛ مسؤول أمَامَها.
وعلى "حاكمية" المودودي و"جاهلية الندوي" البعيدتين عن الفقه السياسي السني أعاد سيد قطب بناء الأيديولوجيا النظرية والحركية للجماعة في مواجهة النظام "الناصري"، وهو ما يرى فيه باروت قطيعة مع الفكر والخطاب "الإخواني" الأول.
اقرأ أيضاً: "الإسلام السياسي بين الأصوليين والعلمانيين".. التطرف الديني إلى أين؟
قد يوحي استخلاص الدكتور باروت بأن ثمة تناقضاً وقطعاً معرفياً بين الخطاب النظري "الجهادي" "التكفيري" والخطاب النظري "الإخواني" وكأنه شهادة مجانية من مثقف حداثي علماني بإسباغ صفة العلمانية على حركة ترفض هي نفسها أن تتصف بها، أو التماس مبرر لأخطائها وفشل مشروعها باتهام غيرها من "العلمانويين" والمستبدين بارتكاب تلك الأخطاء أو ما يشابهها لتأمين بيئة مناسبة لدعوته إلى حوار إسلامي علماني بغية الوصول إلى "علمنة" جديدة.
يرى باروت أن الفكر القطبي قطع معرفي مع الخطاب "الإخواني" الذي يستحضره غالباً من فكر مصطفى السباعي
لكن الأمر غير ذلك؛ رغم وجود تلك الغاية؛ إذ يلحظ باروت بمنهجية المفكر الموضوعي ثلاث لحظات فارقة في السيرورة التاريخية التقهقرية للإسلام السياسي ابتداءً من مرحلة النهضة؛ لا يمكن قراءتها وفهمها بمعزل عن التطورات العالمية المحايثة ورصد آثارها السلبية أو الإيجابية على تلك السيرورة التي لم تكن بطبيعة الحال إلا استجابة لتك المتغيرات، أو رد فعل عليها، ولا يمكن بناء أي مشروع مستقبلي إلا عبر الفهم العقلاني لها؛ وتحديد الموقف المناسب تجاهها.
تتجلى تلك اللحظات الفاصلة في تاريخ الحركات الإسلامية الراهنة على الصعيد الفكري النظري في: "الإصلاحية" و"الإخوانية" و"الجهادية"، وتحليل باروت لهذه اللحظات يعتمد المنهجية الماركسية لكن بدون الأيديولوجيا الماركسية العربية السائدة. وإذا كان ارتباط اللحظة الأولى بصعود البرجوازية؛ وقيم الليبرالية الغربية؛ وسواد روح الفردية؛... والاستجابة الإسلامية لتلك التحديات بالتفهم والاستيعاب والحوار المنفتح بات مفهوماً وهو خارج سياق بحث باروت نسبياً، إلا أنّها تمثل الخطوة الأولى في فهم وتفكيك الخطاب "الإخواني" الذي تشكل "كتعبير عن المصالح الطبقة للشرائح الدنيا من الفئات الوسطى" وعكس الوعي الشعبوي لتلك الشرائح في غمرة التحديات الحضارية الغربية بوجهها الاستعماري، وفي سياق حركات العالم الثالث للرد على تلك التحديات، وفي نفس السياق الشعبوي "الناصري" وعلى أرضية التنافس والصراع السياسي معه، والتداخل والتمفصل الطبقي-الاجتماعي بينهما بوصفهما (أيديولوجيتين شعبويتين للفئات الوسطى).
وقد تكيف وتأرجح الخطاب "الإخواني" الدعوي والحركي بين التشدد والانفتاح والمرونة مع التغيرات الحاصلة في بنية الدولة السياسية وحسب موقع المشاركة أو المعارضة تجاه الدولة الناشئة وحسب تحولاتها. أما اللحظة الثالثة "الجهادية" فهي النتاج المعقد لإخفاقات "الشعبوية وتناقضاتها الحادة وفشلها التاريخي في إنجاز الحد الأدنى من برنامج التحرر الوطني.
اقرأ أيضاً: "السلطة في الإسلام": عبدالجواد ياسين يفك اشتباك النص والتاريخ
فقد نشأت "الجهادية" في غمرة الهزائم العربية المتوالية، وكرد فعل على تحول الدولة إلى شكل من أشكال "الدولة الشرقية الآسيوية" بتقاليدها الاستبدادية "الكارزمية"، وتحول نخبها البيروقراطية والعسكرية العليا إلى طبقة نهابة باسم الشعب، وفشل مشاريعها التحررية والتنموية، وانحدار الفئات الوسطى نحو الفقر والتهميش.
المؤلف كأنه يقدم شهادة مجانية من مثقف حداثي علماني بإسباغ صفة العلمانية على حركة ترفض أن تتصف بها
وفي ظل غياب العقلانية والتقاليد الديمقراطية الحديثة في المجتمعات العربية وجدت الحركة في فكر سيد قطب والمودودي صبغة إسلامية ذات طابع هجومي للتعبير عن نقمتها؛ ومرجعية أيديولوجية تقوم على رفض الغرب والشرق؛ وتستبدل "الكارزمية" بـ"الحاكمية"، وتكفر الدولة والمجتمع في آن واحد، وهو ما يراه باروت اختلافاً بين المرجعيتين النصيتين، وقطعاً معرفياً مع الخطاب "الإخواني" الذي يستحضره غالباً من فكر مصطفى السباعي وصفاته الشخصية.
لقد مضى وقت غير قصير على كتاب الدكتور باروت ودعوته، وطرأت تغيرات كبيرة وسريعة على الصعيدين؛ العالمي والمحلي طالت آثارها معظم الدول العربية، وأحزابها وحركاتها السياسية، الإسلامية والعلمانية، ونشأت حركات "جهادية" جديدة أكثر عنفاً من سابقاتها، فهل أثبتت هذه التطورات صحة قراءة الدكتور باروت؟ وهل مازالت دعوته قائمة؟