
قبيل انتخابات 2006، نصح أصدقاء مخلصون لـ»حماس»، نصحوها ألا تتقدم للانتخابات بقائمة كاملة، لأنه في حالة فوزها ستكون مجبرة على التحول إلى حزب سلطة، والأفضل أن تتقدم بقائمة تضمن لها وزنا معتبرا في المجلس التشريعي، من خلاله تقوم بالرقابة على أداء السلطة، وإصلاحها، بحسب وعودها وبرنامجها الانتخابي الذي كان عنوانه التغيير والإصلاح.
فازت «حماس» بأغلبية مقاعد المجلس واستحوذت على منصب رئيس المجلس ونائبه ونائب نائبه، وشكلت حكومة حمساوية دون شراكة مع أحد، وبدأت تهيمن على كافة مفاصل السلطة بالتعيينات والإقصاء.
"نصح أصدقاء مخلصون حماس بعدم الترشح الكامل في انتخابات 2006، لتفادي التحول إلى حزب سلطة، لكنها تجاهلت النصيحة وانفردت بالحكم."
ليس هذا موضوعنا، الفكرة هنا أنها منذ ذلك الوقت تحولت فعليا إلى سلطة، وكل محاولاتها الجمع بين المقاومة ومتطلبات السلطة باءت بالفشل، لأنها تركيبة مستحيلة أصلا ومغرقة في الطوباوية.. والأهم أن مقتضيات الحكم والسلطة ومعادلات السياسة القائمة طغت على كل شيء آخر.. لدرجة أنها قامت بالانقلاب، وسيطرت على القطاع بصورة منفردة، رغم كل ما ترتب على خطوتها من آثار سلبية مدمرة على القطاع، وعلى المقاومة نفسها، وعلى صورة شعبنا أمام العالم، وعلى القضية الفلسطينية.
ناقشنا في مقالات سابقة منهجية المقاومة التي تبنتها «حماس»، والتي أفضت إلى هذه النتائج الكارثية على كافة الصعد، لدرجة أن غاية الحركة وهدفها وحلمها الآن هو العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر، أي العودة إلى نفس الظروف التي قالت، إنها غير مناسبة، ويجب الثورة عليها.. وبما أن هذه العودة مستحيلة بحكم معطيات اللحظة الراهنة، فإن مطلب الحركة الذي أعلنته منذ اليوم الثاني للحرب، هو وقف الحرب، والشرط الأساسي والأهم الذي تتمسك به الحركة هو حصولها على ضمانات بألا تعود الحرب من جديد!.
"منذ استحواذها على السلطة، فشلت حماس في التوفيق بين المقاومة ومتطلبات الحكم، وانتهت إلى انقلاب ودمار شامل لغزة والقضية الفلسطينية."
طالما أن الحرب هي منهجية «حماس» في المقاومة، فلماذا تطالب بوقفها، بل وتطالب بضمانات عدم العودة لأي حرب؟ وقف الحرب يعني وقف المقاومة بكل بساطة.. أو استبدالها بأساليب مقاومة أخرى لا علاقة لها بالحروب والعمل العسكري، وطبعا توجد عشرات الأساليب الأخرى للمقاومة، لكن «حماس» لم تتبنَّ أيا منها، واختارت الحرب فقط، وبعد أن أدركت أن الحرب لها تبعات لا قِبل لها بها، وهي فوق طاقة الفلسطينيين، بل وفوق طاقة دول كبرى لديها قدرات تفوق الفلسطينيين بعشرات الأضعاف صارت تنادي بوقف الحرب.
إذا كان هذا الاكتشاف جاء متأخرا، فلماذا لا تعلن الحركة وبكل وضوح عن موقفها؟ ولماذا تطالب بوقف الحرب؟ هل من أجل إنقاذ ما تبقى من غزة؟ أم من أجل سلامة الحركة وضمان عودتها للحكم من جديد؟ هذه أسئلة مهمة وكل إجابة تعني الكثير، لأن الفروقات بينها جوهرية ومصيرية.
إذا كان الهدف إنقاذ غزة، وإحباط مخطط التهجير، وتوفير فرصة لأهل غزة للنجاة من موت محقق، ودون ثمن، وبلا مقابل.. فلهذا شروط واستحقاقات أملتها بمنطق القوة والعربدة إسرائيل وأميركا والمجتمع الدولي.. نعلم يقينا أنها شروط مجحفة وغير عادلة.. ولكن منطق التاريخ يقول، إن القوي والمنتصر ومن يتحكم ويسيطر هو الذي يضع شروطه لإنهاء الحرب. وأي صراع في المحصلة هو تعبير عن موازين القوى، وليس صراعا بين الحق والباطل، ولا تحسمه حسن النوايا والشعارات والخطابات.
"رفضت حماس على مدار 17 عامًا إنهاء الانقسام أو تقديم تنازل للمنظمة، وتمسكت بحكم غزة حتى فقدت شعبيتها ومشروعها المقاوم."
شروط الاحتلال (خروج قيادات «حماس» من غزة، تسليم السلاح، وتسليم الرهائن) ومرة ثانية نؤكد أنها مطالب ظالمة، ولكن إذا كانت ثمنا مستحقا لإنهاء الحرب، ووضع حد لمعاناة الناس، وتعزيز بقائهم فوق أرضهم، فلماذا لا تدفع «حماس» هذا الثمن؟
إذا كان الهدف نجاة الحركة من الانسحاق، أو العودة للحكم، فهذا مطلب حزبي يخص الحركة وحدها، ولا يجب أن يكون على حساب الشعب والقضية، وبدماء آخر طفل، ونتيجته دمار غزة كليا ومقتل وتهجير سكانها.
لا حاجة لمزيد من الشرح أننا في حالة كارثية ونعيش نكبة حقيقية هي الأشد والأقسى.. ولا يمكن إنهاء هذه المأساة أو وضع حد لها إلا بتوقف الحرب أولاً.. لن يحصل أي حراك سياسي، ولن يبدأ الإعمار، ولن تدخل المساعدات.. إلا بتوقف الحرب، وهذه الحرب لن تتوقف إلا بقبول «حماس» صيغة الصفقة المطروحة.. والغريب أنها تقبلها، ولكنها متمسكة بشرط حصولها على ضمانات أميركية بعدم عودة الحرب! من أين جاءت الثقة بأميركا فجأة؟ والثقة بأن إسرائيل تقدم ضمانات، وتلتزم بوعودها؟ «حماس» نفسها قالت مئات المرات، إنها لا تثق بأميركا ولا بإسرائيل، فلماذا الآن تصر على هذا المطلب؟
"الشعب الفلسطيني قاوم قبل حماس وسيقاوم بعدها، فالمقاومة ليست حكرًا على فصيل، بل هي هوية شعب لن يتخلى عن حريته."
من الواضح أن إصرارها ليس غباء سياسيا، فالمطلب بحد ذاته غريب، والإصرار عليه أغرب.. هذا يحتمل تفسيرا وحيدا، أن شرط إنهاء الحرب والضمانات مجرد غطاء وتمويه لشروط غير معلنة، وهي ضمان عدم اغتيال قادة الحركة، وعدم المساس بممتلكاتهم واستثماراتهم، وإيجاد أي صيغة للعودة للحكم ولو بطريقة مواربة.. وهذه مطالب لا علاقة لها بمصالح الشعب الفلسطيني، ولا بقضيته العادلة.
قيادات «حماس» السياسية خرجت من تلقاء نفسها من غزة قبل الحرب بسنوات واختارت المنفى.. ما تبقى من أسلحة «حماس» مجرد صورة رمزية تريد إسرائيل تحطيمها لأغراض دعائية، لأن الأسلحة الخفيفة لا تدخل في أي مفاوضات نزع السلاح من طرف، فهي تصلح لحرب أهلية، أو لتنظيم المجتمع المحلي أو الاستقواء عليه.. ولا تدخل في اعتبارات الصراعات الكبرى.. فمع وجود هذه الأسلحة ارتكب الاحتلال آلاف المجازر وسحق غزة حرفيا. وبالتالي ما الجدوى منها؟ إلا إذا كانت لأهداف أخرى.
"المطلوب مراجعة شاملة من جميع الفصائل، لا من حماس وحدها، لأن الكارثة التي نعيشها نتيجة تراكم فشل جماعي لا فردي."
خاض شعبنا الفلسطيني المقاومة بكل شجاعة واستبسال منذ قرن، ولم يتوقف يوما عنها.. خاضها قبل «حماس»، وأثناء وجودها، وسيظل شعبا مقاوما لو اختفت «حماس» وسائر الفصائل الأخرى، حتى يحقق أهدافه الوطنية، وينتزع حريته.. هذا الكلام لمن يدعي الخوف على مصير المقاومة.
السؤال الأخير: لماذا لا تعود «حماس» كما كانت قبل 2006، حركة مقاومة تقارع الاحتلال، وغير متورطة في الحكم والسلطة؟ بمعنى أن تعود إلى صورتها التي من خلالها بنت شعبيتها، وفازت في الانتخابات، لماذا أصرت على مدى 17 سنة على الاستفراد بحكم غزة؟ ورفضت تقديم أي تنازل للمنظمة، ورفضت إنهاء الانقسام، وتورطت في السلطة ومنافعها ومقتضياتها ومكتسباتها حتى لم تعد كما كانت!
هل ستقوم الحركة بأي مراجعة نقدية لتجربتها السياسية والكفاحية التي جرّت على غزة وعلى القضية الفلسطينية كل هذه الويلات، وكل هذا الدمار؟
وبالطبع مثل هكذا مراجعات ونقد ذاتي مطلوبة من «فتح»، ومن السلطة، ومن سائر الفصائل والقوى الوطنية، لأننا جميعا متورطون في هذا الخراب.
الأيام الفلسطينية