كيف يعيد الإخوان إنتاج الفوضى السياسية في ليبيا؟

كيف يعيد الإخوان إنتاج الفوضى السياسية في ليبيا؟

كيف يعيد الإخوان إنتاج الفوضى السياسية في ليبيا؟


03/07/2025

تعيش ليبيا منذ أكثر من عقد حالة صراع سياسي وأمني معقدة، تشكلت خلالها تحالفات متغيرة وصدامات متكررة بين الأطراف المتنافسة على السلطة والثروة. 

ضمن هذا المشهد، برزت جماعة الإخوان المسلمين كفاعل سياسي رئيسي يمتلك قدرات تنظيمية وتحالفات متشابكة مع قوى داخلية وخارجية، إذ يجمع مراقبون على أن استمرار النفوذ الإخواني ساهم بشكل مباشر في إرباك فرص المصالحة وتعطيل بناء مؤسسات الدولة.

وقد استثمر الإخوان، منذ سقوط النظام السابق، حالة الانقسام العميق والفراغ المؤسسي لبناء شبكة مصالح واسعة، تستند إلى امتدادات اجتماعية وتحالفات مسلحة ودعم خارجي، الأمر الذي حول التنظيم إلى قوة لا يستهان بها. ومع كل محاولة لإطلاق تسوية وطنية، يبرز حضور الإخوان كمعضلة يصعب تجاوزها.

وتعكس التطورات الأخيرة، سواء في ملف الانتخابات المؤجلة أو الصدامات المسلحة المتكررة، أن التنظيم نجح في المحافظة على مكانة مؤثرة، وإن كانت محل رفض من قوى ليبية عديدة. وفي هذا السياق، تطرح تساؤلات متجددة حول قدرة الأطراف الوطنية والدولية على تفكيك نفوذ الإخوان ضمن مشروع المصالحة والاستقرار.

التغلغل السياسي للإخوان في مؤسسات الدولة

تمكنت جماعة الإخوان في ليبيا منذ 2012 من تعزيز نفوذها داخل مؤسسات رسمية، أبرزها المؤتمر الوطني العام ثم حكومة الوفاق السابقة، حيث اعتمدت الجماعة على أطر تنظيمية قوية ووجود كوادر متعلمة تملك خبرة إدارية، مما سهّل السيطرة على مفاصل إدارية ومالية هامة، وخصوصاً في وزارات التعليم والعدل والاقتصاد. وأشارت تقارير متعددة، منها تقرير المونيتور (2024)، إلى أن الإخوان لعبوا دورًا حاسمًا في صياغة قرارات اقتصادية ساهمت في تعزيز نفوذهم الاجتماعي، عبر شبكات تمويل للجمعيات والمنظمات المتحالفة معهم.

تعيش ليبيا صراعًا سياسيًا وأمنيًا معقدًا منذ أكثر من عقد، زاد من حدّته تدخل جماعة الإخوان وتحالفاتهم الإقليمية وتغلغلهم في مفاصل الدولة.

 

هذا بالإضافة إلى السيطرة على المؤسسات، إذ استطاع التنظيم بناء واجهات سياسية متعددة الأسماء، أبرزها "حزب العدالة والبناء"، الذي قدّم نفسه كذراع سياسي "مدني".

 هذا التلون أسهم في صعوبة محاصرة نفوذهم قانونياً أو سياسياً، حيث تارة يظهرون في خطاب ديمقراطي مدني، وتارة يلجؤون للتحشيد الأيديولوجي في الأزمات، وهو ما أكدته  دراسة لمركز كارنيغي (2023)، حذر خلالها باحثون من قدرة الإخوان على "تكييف خطابهم السياسي وفق الحاجة المرحلية"، ما جعلهم أكثر مرونة في التعامل مع تبدلات المشهد.

ترى قوى وطنية أن بقاء الإخوان في مؤسسات الدولة يمثل عقبة أمام توحيد السلطة وبناء شراكة حقيقية تقوم على الثقة والشفافية.

 

هذا التغلغل أفضى إلى حالة من عدم الثقة بين القوى الوطنية، إذ ترى أطراف مثل مجلس النواب والجيش الوطني أن حضور الإخوان في المؤسسات يعني تعطيل أي مشروع توحيد للدولة. وفي هذا الإطار، قال عضو لجنة الحوار السياسي، عبد القادر احويلي، في تصريح حديث لقناة الوسط الليبية (يونيو 2025)، إن "الإخوان لم يغادروا عقلية الهيمنة التنظيمية، وهم العقبة الأبرز أمام بناء شراكة حقيقية".

وفيما كانت بعض المبادرات الدولية تدعو لتشجيع مشاركة الجميع دون إقصاء، فإن هذا الخيار وجد اعتراضاً متزايداً محلياً، بسبب الخشية من أن يتحوّل الانفتاح إلى إعادة تمكين للإخوان في هياكل الدولة تحت مسميات توافقية فضفاضة.

التحالفات مع الفصائل المسلحة

نفوذ الإخوان لم يقتصر على الفضاء السياسي، بل امتد إلى تحالفات مع جماعات مسلحة تمثل القوة الميدانية الحقيقية. فمنذ 2014، وثّقت تقارير بعثة الأمم المتحدة ارتباط التنظيم بفصائل مثل "قوة الردع الخاصة" و"اللواء 217"، وهي تشكيلات سيطرت على مرافق استراتيجية في طرابلس ومصراتة. هذه التحالفات مكّنت الإخوان من حماية مواقعهم السياسية وفرض إرادتهم في أوقات الأزمات.

استثمرت جماعة الإخوان الانقسام الليبي والفراغ المؤسسي لتوسيع نفوذها، عبر تحالفات مسلحة ودعم خارجي، مما عطل محاولات بناء دولة مستقرة.

وفي أيار / مايو 2025، وقعت اشتباكات دامية بين قوة الردع وتحالف مسلح محسوب على حكومة الاستقرار المنافسة، على خلفية اعتقال قيادات مقربة من الإخوان. وأسفرت المواجهات عن سقوط قتلى وجرحى وتدمير مقار حكومية، بحسب وكالة "أسوشيتد برس"، التي وصفت الحادث بأنه "إحدى أخطر جولات الصراع الداخلي منذ 2020". هذه الاشتباكات بيّنت حجم التشابك بين المصالح السياسية والتنظيمات المسلحة في ليبيا.

تتمثل خطورة هذه العلاقة في أن الفصائل المسلحة ليست مجرد أدوات حماية، بل هي أحيانًا شريكة في اتخاذ القرار السياسي. وكشف تقرير مركز الأهرام للدراسات (2024) أن قادة بعض المجموعات المسلحة يحضرون اجتماعات مغلقة مع قيادات الإخوان لتنسيق مواقف تفاوضية ضد خصومهم السياسيين.

استمرار حضور الإخوان في العملية السياسية يهدد بتكريس الانقسامات وإطالة أمد الفوضى، ما لم يتم تحديد موقعهم بدقة في الترتيبات القادمة.

 

هذا التشابك بين العمل السياسي والقوة المسلحة حال دون بناء قوات أمن وطنية موحدة، إذ تتردد الحكومات الانتقالية في مواجهة نفوذ هذه التشكيلات. وقال الباحث الليبي محمود إسماعيل لـ"الشرق الأوسط" (يونيو 2025): "لن يستقيم الاستقرار في ظل سلاح تنظيمي يوظف الولاءات لصالح مشروع سياسي مؤدلج".

 التدخلات الإقليمية والدولية

ارتبطت قوة الإخوان في ليبيا جزئياً بالدعم الإقليمي من بعض الدول التي اعتبرت وجودهم ضمانة لمصالح استراتيجية. طوال سنوات، حصلت الجماعة على تمويلات وخدمات لوجستية من أطراف إقليمية معروفة، وهو ما ساعدهم على الصمود في فترات الضعف السياسي.

نجحت جماعة الإخوان في تعزيز نفوذها داخل مؤسسات الدولة، من خلال كوادر متعلمة وخطاب مزدوج يجمع بين المدنية والتحشيد الأيديولوجي.

 

وبحسب تقرير نشرته رويترز (2024)، فإن علاقات الإخوان مع تركيا وقطر وفّرت لهم غطاءً دبلوماسيًا وتحركًا خارجيًا مكثفًا ساعد على تقوية موقفهم في المفاوضات مع البعثة الأممية. ومع تراجع الدعم الدولي لهم منذ 2021، سعت الجماعة إلى تقديم نفسها كـ"ضامن للتوازن" بين المكونات الليبية، في محاولة لإعادة شرعنة دورها.

لكن هذا الارتباط الخارجي جلب لهم أيضًا اتهامات بتهديد السيادة الوطنية. وقال عضو مجلس النواب علي التكبالي في تصريح صحفي (مايو 2025): "الإخوان مشروع عابر للحدود، ولا يمكن لأي حكومة تدعي الاستقلال أن تستمر بشراكة معهم".

يرى مراقبون أن عزل الإخوان تمامًا قد يؤدي إلى تحالفهم مع جماعات أكثر تشددًا، مما يجعل التعامل معهم معضلة سياسية وأمنية حساسة.

 

في المقابل، يحذّر بعض المراقبين من أن عزلهم التام قد يدفعهم للتحالف مع مجموعات أكثر تشددًا، ما يجعل التعامل مع تدخلاتهم الخارجية مسألة بالغة الحساسية. الباحث الفرنسي ماتيو غيدير قال لـ"لوموند" (يونيو 2025): "ليبيا اليوم تواجه معضلة: لا يمكن استيعاب الإخوان بلا قيود، ولا استئصالهم بلا تكلفة".

أثر نشاط الإخوان على مسار المصالحة والاستقرار

إلى ذلك، أدى حضور الإخوان في العملية السياسية إلى تعقيد فرص التوافق الوطني. ففي كل جولة حوار ترعاها الأمم المتحدة، يظهر خلاف عميق حول دورهم المستقبلي، بين أطراف تطالب بإقصائهم وأخرى ترى ضرورة إشراكهم. ووفق دراسة لـ"المجلس الأطلسي" (2024)، فإن الاستقطاب حول الإخوان بات من العوامل الأساسية لفشل أكثر من ثلاث مبادرات سلام.

ساهم تعدد واجهات الإخوان السياسية، خصوصًا حزب العدالة والبناء، في إرباك المشهد القانوني وصعوبة محاصرتهم سياسيًا أو عزلهم إداريًا.

 

في السياق، يقول المحلل الليبي عبد السلام الراجحي في حوار مع قناة 218 نيوز (يونيو 2025): "الليبيون منقسمون حول الإخوان بقدر انقسامهم حول شكل الدولة المقبل، وهو ما يفسر لماذا تعثرت كل محاولات التسوية".

كما أن الجماعة استثمرت خطاب المظلومية السياسية لتثبيت موقعها، إذ تقدم نفسها باعتبارها "مكونًا أصيلاً تعرض للإقصاء"، وهو ما يعمّق حالة التشكيك المتبادل مع خصومهم. في هذا الإطار، يرى خبراء مثل جيسون باك أن "تكتيك لعب دور الضحية صار جزءًا من استراتيجية البقاء الإخوانية".

وعلى المدى الطويل، يهدد استمرار النفوذ الإخواني في المشهد الليبي بتكريس انقسامات الهوية والانتماء السياسي، وإطالة أمد الفوضى المؤسسية. ما لم يتم التوصل إلى توافق واضح يحدد موقع الجماعة في العملية السياسية، فإن فرص بناء دولة مدنية موحدة ستظل معلقة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية