
تواصل السلطات الأردنية إحكام قبضتها على أنشطة جماعة الإخوان المسلمين المحظورة، في سياق ما يبدو أنّه حملة منسقة تستهدف تفكيك البنى المالية والإدارية التي تستخدمها الجماعة لمواصلة نشاطها تحت غطاء جمعيات خيرية وشركات تدريب. الإجراءات الأخيرة، التي شملت إحالات للنائب العام بحق عدد من الجمعيات والشركات، تعكس تحولًا نوعيًا في تعاطي الدولة مع الملف، خصوصًا في ظل معطيات تشير إلى محاولات إخوانية للعودة إلى الساحة من بوابة "التمكين المجتمعي" و"الأعمال الخيرية".
تواصل السلطات الأردنية تفكيك البنى المالية والإدارية للإخوان، ضمن حملة تستهدف مصادر تمويلهم المقنّعة تحت غطاء جمعيات خيرية وشركات تدريب وهمية.
في هذا السياق، تتضح ملامح مواجهة قانونية شاملة لا تستثني الأفراد المنخرطين في جمع التبرعات غير المشروعة، كما تشير إلى تتبع دقيق للأصول المالية والعقارية التي ما تزال الجماعة تمتلكها، بهدف تجفيف منابع التمويل وضبط التحركات المشبوهة داخل المملكة.
تحت المجهر: "جمعيات خيرية" واجهة للتمويل الإخواني
الإجراءات الجديدة التي أعلن عنها جاءت لتكشف مجددًا عن توظيف جماعة الإخوان لنشاطات ظاهرها تنموي وخيري، لكنّها تخفي في جوهرها منظومة من التمويل والتحرك السياسي المموّه. ومن بين الكيانات التي طالتها الإحالة للنائب العام شركة "منتدى تدريب وتمكين المرأة والطفل"، التي امتنعت عن الإفصاح عن بياناتها المالية لعام 2024، ولم تحدد المستفيد الحقيقي من نشاطها، وهي مخالفة صريحة لقوانين الشركات الأردنية، وتفتح الباب أمام شبهات تمويل غير مشروع أو تهرب من الرقابة الحكومية.
شركات مثل "منتدى تمكين المرأة والطفل" رفضت الإفصاح عن بياناتها المالية، ما يفتح الباب أمام شبهات تمويل غير مشروع.
وبالمثل، اتُّخذت إجراءات ضد (3) جمعيات أخرى هي: "الهلال الأخضر"، و"العروة الوثقى"، و"مبادرة سواعد العطاء"، وكلها اتُّهمت بجمع التبرعات دون ترخيص، ممّا يعزز المؤشرات حول محاولات لتأمين مصادر مالية بديلة بعيدًا عن أعين الرقابة الرسمية، ربما لتمويل أنشطة الجماعة داخل الأردن أو خارجه.
تفكيك الشبكات القديمة: حلّ الجمعيات وتتبّع الأفراد
قرار "جمعية زهور البراري" بحلّ نفسها عقب المتابعات القانونية ليس مجرد إجراء إداري، بل يعكس شعورًا متزايداً بالضغط الرقابي والخوف من المساءلة، خاصة أنّ الحملة الحالية تختلف عن سابقاتها في الجدية والاستمرارية. كما أنّ تتبع وزارة التنمية الاجتماعية لجمعية رجال الأعمال، يرأسها نائب سابق محسوب على الجماعة، يشير إلى انتقال السلطات من متابعة المؤسسات الشكلية إلى تفكيك شبكات النفوذ الشخصية المرتبطة بالإخوان.
تمّت إحالة جمعيات مثل "الهلال الأخضر" و"العروة الوثقى" للنائب العام بتهم جمع تبرعات دون ترخيص رسمي من الدولة.
واللافت أنّ الدولة لا تكتفي بالإجراءات المؤسساتية، بل توسّع رقابتها لتشمل الأفراد؛ إذ تم رصد نشاطات غير قانونية لـ (5) أشخاص يجمعون التبرعات في أحد أحياء عمّان، في تجاوز صريح للقانون، بما يعكس أنّ هناك من ما يزال يتحرك ضمن شبكات "الإخوان الاجتماعية" التي تراهن على العلاقات المجتمعية القديمة لإعادة التموضع.
الدولة تلاحق ليس فقط المؤسسات، بل أيضًا الأفراد الذين يجمعون التبرعات خارج القانون، ما يؤكد اتساع نطاق الرقابة.
وتشير تقارير إلى أنّ جماعة الإخوان في الأردن أسست خلال العقود الماضية منظومة اقتصادية موازية، عبر الجمعيات والشركات والمؤسسات التعليمية، استفادت من ثغرات قانونية لتجنب الرقابة المباشرة. بالإضافة إلى ذلك يتسم "النشاط الاقتصادي للإخوان بالمرونة، ويتداخل مع السوق الرسمية بطريقة تجعل من الصعب تتبع مصادر التمويل ووجهات الإنفاق"، وهو ما دفع الدولة الأردنية في الأعوام الأخيرة لتكثيف الرقابة على هذه الكيانات من خلال وزارتي التنمية الاجتماعية والصناعة والتجارة.
"جمعية زهور البراري" حلت نفسها ذاتيًا، ما يعكس الشعور بالضغط الرقابي والخوف من الملاحقة القانونية المتزايدة في المملكة.
كذلك يرى مراقبون أنّ الجماعة اعتمدت في مراحل مختلفة على الجمعيات الخيرية كأدوات تمويه مالي وتنظيمي، وقد اتخذت هذه الكيانات طابعًا خدميًا واجتماعيًا، بينما كانت تخدم أهدافًا تتجاوز العمل الأهلي. مؤكدين أنّ "الإخوان في الأردن استفادوا من البيئة القانونية المرنة نسبيًا لإنشاء واجهات مالية تحت أسماء جمعيات ومنتديات تعنى بالطفولة أو المرأة أو التكافل الاجتماعي، لكنّها كانت في الواقع ترتبط تنظيميًا بالمكتب التنفيذي للجماعة وتخضع لتوجيهاته في التصرف بالموارد".
هيكلة مموهة لإعادة تدوير الأموال
تلفت دراسة صادرة عن مركز (المسبار) للدراسات إلى وجود آليات ممنهجة لإعادة تدوير الأموال داخل المنظومة الإخوانية، من خلال شركات صغيرة أو جمعيات تتلقى التبرعات بحسن نية من المواطنين، ثم يتم تحويل جزء منها إلى أنشطة دعوية أو إعلامية تخدم الجماعة. وتذكر الدراسة أنّ "المشكلة تكمن في غياب الشفافية وانعدام الرقابة على ما يُسمّى المستفيد الحقيقي، حيث لا يظهر من يقف فعليًا خلف هذه الكيانات، ويستخدم النظام المحاسبي كأداة لتمويه حركة الأموال".
التفاف على الدولة من خلال الاقتصاد الرمادي
خلصت الدراسة إلى أنّ الجماعة استطاعت التغلغل في قطاعات اقتصادية صغيرة ومتوسطة الحجم عبر شبكة علاقات مع رجال أعمال متعاطفين، وبعض النواب السابقين، بما مكّنها من خلق اقتصاد رمادي خارج سيطرة الدولة. وتقول: "حين تفقد الجماعة أدواتها السياسية، فإنّها تلجأ لتكثيف النشاط الاقتصادي والخيري، لا كبديل تنموي، بل كوسيلة لإعادة بناء شبكات النفوذ والتجنيد، وهو ما يجعل الرقابة على هذه الكيانات ضرورة أمنية وليست فقط إدارية".
الأملاك والعقارات: المعركة على الموارد ما تزال مستمرة
في موازاة الإجراءات الإدارية تواصل السلطات تتبع ملف أملاك الجماعة، من حسابات بنكية وأصول عقارية وممتلكات، في خطوة هدفها الحسم القانوني في ملف طال انتظاره. ويُعتقد أنّ الجماعة خزّنت موارد ضخمة خلال عقود من العمل شبه الشرعي داخل الأردن، وأنّ هذه الموارد كانت تُستخدم لدعم عمليات سياسية وأحيانًا إعلامية خارج البلاد، ممّا يجعل من استردادها أولوية للدولة في سعيها إلى إنهاء أيّ تأثير مالي للجماعة.
الرسائل السياسية واضحة: لا تهاون مع المال الإخواني، والردع يشمل الأفراد والمؤسسات في مواجهة محسومة الاتجاه والطابع.
وتتزامن هذه التحركات مع محاولة بعض الأفراد المرتبطين بالجماعة، بحسب التقارير، للعودة إلى النشاط من خلال أعمال ظاهرها قانوني، كالحصول على رخص مهن لخدمات الاشتراك في القنوات الفضائية، لكنّها قد تكون محاولة للالتفاف على قرارات الحظر.
الرسائل السياسية: لا تهاون مع المال الإخواني
تعكس الإجراءات الأردنية الحالية رسائل واضحة موجهة إلى الداخل والخارج، فداخليًا، تؤكد الدولة أنّها ما تزال تعتبر جماعة الإخوان تهديدًا للأمن المجتمعي والاستقرار السياسي، وأنّها عازمة على تفكيك ما تبقى من أدواتها الناعمة في المجتمع الأردني. وخارجيًا، تأتي هذه التحركات في سياق إقليمي أوسع يتسم بتضييق متزايد على التنظيم في دول الخليج ومصر، وربما تأتي أيضًا استجابة لضغوط أو تفاهمات أمنية دولية حول مراقبة التمويل المرتبط بالتنظيمات العابرة للحدود.
مواجهة طويلة لكنّها محسومة الاتجاه
تكشف التحركات الأردنية عن استراتيجية ممنهجة لتجفيف منابع الإخوان المالية والاجتماعية داخل المملكة عبر أدوات قانونية ومؤسسية دقيقة، مستندة إلى ملفات ووقائع موثقة. وبينما ما تزال المواجهة مع الجماعة تأخذ طابعًا قانونيًا وإداريًا، إلا أنّ المؤشرات توضح أنّ الدولة الأردنية ماضية في هذا الاتجاه حتى اقتلاع كل ما تبقى من نفوذ الجماعة، سواء عبر الجمعيات أو الأفراد أو الممتلكات.