
الإشكال الأبرز المتعلق بجماعة الإخوان ينطوي حول تصنيف أطراف الصراعات داخل التنظيم، بين من يطلق عليهم الصقور في مواجهة الحمائم؛ في محاولة لترسيخ مسألة مفادها أنّ جماعة حسن البنا تختلف عن تلك الجماعة القطبية التي تأثرت بأفكار سيد قطب، والتي قفزت على التنظيم في التأسيس الثاني مع ولاية المرشد الثالث عمر التلمساني. لكن بالرجوع إلى أحد أهم الصراعات داخل الإخوان قبل صعود الفكر المنسوب إلى سيد قطب نجد أنّ طرفي الصراع يندرجون تحت الأجنحة المسلحة للتنظيم الذي أسّسه البنا، بالتحديد محاولة عبد الرحمن السندي الانقلاب على المرشد الثاني للتنظيم حسن الهضيبي عام 1953.
تعددت الروايات التي تناولت أزمة حسن الهضيبي المرشد الثاني للجماعة مع النظام الخاص، أهمها رواية اللواء صلاح شادي مسؤول قسم الوحدات في كتابه "حصاد العمر ـ صفحات من التاريخ"، ورواية أحمد عادل كمال عضو النظام الخاص وأحد المشاركين في الأزمة داعمًا للسندي، والرواية منشورة في كتابه "النقط فوق الحروف". بيد أنّ كلًّا منهما ذكر الرواية من جانبه فقط متجاهلًا وجهة النظر الأخرى، فخرجت القصة مبتورة ليذكرها كاملة محمود عبد الحليم في كتابه "الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ".
صراع الأجنحة العسكرية للإخوان
اللافت في تلك الأزمة أنّ أطرافها كانت الأجنحة العسكرية للتنظيم، وإن ظهر أنّ الخلاف بين المرشد والسندي؛ فالقوة كانت صاحبة الكلمة في تلك الأزمة، ومحاولة الانقلاب المسلح كان المخطط الذي سعى إليه عبد الرحمن السندي، وإفشال المخطط حدث بعد تدخل اللواء صلاح شادي ورجاله من أعضاء الإخوان السرّيين في أسلحة الجيش والشرطة. وقد حرص حسن البنا في حياته على الفصل بين النظام الخاص وبقية أعضاء الجماعة، وعلى الفصل داخل النظام الخاص بين المدنيين تحت إدارة السندي، وبين العسكريين والمدنيين العاملين بالمؤسسة العسكرية تحت إدارة الصاغ محمود لبيب.
تأجُّج الخلاف بين السندي والهضيبي دفع جمال عبد الناصر للاستفادة منه بعد الأزمة التي ضربت العلاقة بين تنظيم الإخوان وضباط ثورة تموز (يوليو) 1952؛ فقد رفض جمال عبد الناصر محاولات الوصاية على قرارات الضباط الأحرار، وفي لقاء بين المرشد العام للإخوان حسن الهضيبي وعبد الناصر ألمح بأنّ "الإخوان على استعداد لتأييد الثورة، لو قامت بعرض الأمور على جماعة الإخوان قبل إقرارها".
محاولات عبد الناصر للاستفادة من ذلك الخلاف كانت عبارة عن مطالبات للهضيبي بحلّ التشكيلات السرّية للإخوان داخل القوات المسلحة والشرطة، وسبق أن طالب أيضًا بحلّ النظام الخاص للتنظيم، وجميعها مطالبات قوبلت بالرفض، بيد أنّ تلك اللقاءات التي حدثت في غياب السندي وعدم مشاركته فيها ظنّ معها أنّها تعاون بين الهضيبي وضباط الثورة للانقضاض على التنظيم. لاحقًا نفى رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية صلاح نصر تلك المسألة في مذكراته.
الفتنة تضرب رفاق الجهاد الإخواني
في 23 تشرين الثاني (نوفمبر) 1953 نشرت جريدة (الأهرام) خبر فصل (4) من أعضاء الإخوان المسلمين، هم: أحمد زكي حسن، وأحمد عادل كمال، وعبد الرحمن السندي، ومحمود الصباغ. اللافت للانتباه في تلك الأزمة أنّ الأطراف الداعمة للمرشد حسن الهضيبي رأت هي الأخرى أنّ عبد الرحمن السندي ومجموعته موجهون ومدعومون من ضباط مجلس قيادة الثورة بزعامة جمال عبد الناصر، ودعم تلك الرواية اللواء صلاح شادي مسؤول قسم الوحدات في مذكراته.
في الوقت نفسه اعتبر السندي ومجموعته أنّ فصلهم كان استجابة لطلب عبد الناصر بحلّ التنظيم الخاص، كما ذكر رفيق السندي أحمد عادل كمال في مذكراته، لكنّ كمال لم يذكر الحكاية كاملة، إنّما ذكرها صلاح شادي في مذكراته أنّ الفصل عائد إلى اغتيال عضو التنظيم الخاص والمرشح لقيادة السندي السيد فايز.
بداية الخلاف حدثت مع اقتراح السيد فايز بإصلاح النظام الخاص، الذي دعا من خلاله إلى تخلي قادته المعروفين لدى الحكومة عن مراكزهم، "إذ لا يتصور أن يتم أيّ عمل فدائي يكون اسم صاحبه معروفًا لدى الشرطة، وإلا فقد النظام السرّي مضمونه". ويقول صلاح شادي: "أيقن السندي أنّ الأرض التي يقف عليها لم تعد صلبة، وأنّ هناك تفكيرًا في تغييره...، فبدأ يعرض على الإخوة أعضاء مكتب إرشاد النظام فكرة خلع المرشد". وأعد أخطر ما في تلك المسألة، وهو ما يكشف جانبًا مهمًا من فكر الإخوان المسلح والمتعلق بأنّ السندي ربما قتل السيد فايز بسبب إفضاء فايز للمرشد بمعلوماته عن النظام، التي اعتبرها السندي خيانة تبيح له قتله شرعًا.
الصراع على السلطة والنفوذ داخل التنظيم، إلى جانب يقين عبد الرحمن السندي أنّه الأحق بإمامة الإخوان وسلطته على جناحه المسلح، دفعا الأخير إلى اقتحام المركز العام وإجبار حسن الهضيبي على الاستقالة ظنًا منه أنّ الهضيبي يعمل لصالح عبد الناصر، والعكس صحيح بالنسبة إلى الهضيبي الذي فصل السندي ورجاله ظنًا منه أنّه يعمل أيضًا لصالح عبد الناصر، وأنّه أسهم في اغتيال عضو التنظيم السيد فايز، في حين أنّ عبد الناصر استفاد من ذلك الخلاف، وأشعل النار فيه للقضاء على أيّ تشكيلات سرّية داخل الدولة غير تلك التنظيمية التابعة للمؤسسة العسكرية الرسمية، وأيضًا إشغال الإخوان في معاركهم حتى يصل إلى طريقة للتعامل مع طموحاتهم بفرض الوصاية على التنظيم.
مصطفى مشهور في مواجهة رجال الهضيبي
لم ينسَ قادة النظام الخاص وأعضاؤه من عناصر الإخوان صراعهم مع حسن الهضيبي ومجموعته، ظنًا منهم أنّ تلك المجموعة انفردت بالجماعة وانحرفت بأفكارها عن منهج حسن البنا الذي يعطي للجهاد الميزة الكبرى، ويضع النظام الخاص على رأس الجماعة وأولوياتها، المسألة التي حركت مصطفى مشهور، حتى انتهى به الأمر مرشدًا للتنظيم عام 1996 بعد بيعة خاطفة حصل عليها عُرفت باسم بيعة المقابر؛ استغلت فيها المجموعة القطبية الانشغال بوفاة محمد حامد أبو النصر المرشد الرابع للجماعة وأعطوا البيعة لمشهور قبل أن ينصرفوا من المقابر بعد انتهاء مراسم الدفن.
في كتابه "اختطاف ثورة، آخر العمليات الفاشلة للتنظيم السرّي"، وثق القيادي السابق بالنظام الخاص السيد عبد الستار المليجي عودة رجال النظام الخاص (عبد الرحمن السندي) للسطو على قيادة التنظيم بقيادة مصطفى مشهور أحد أبرز من أسهموا في تأسيس النظام الخاص رفقة السندي وأحمد عادل كمال وآخرين، ولفت المليجي في كتابه إلى الصراع الفكري الذي نشأ بين البقية المتبقية من الإخوان بعد الخروج من السجون على خلفية قرارات الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات عام 1974 بإطلاق سراح الإخوان المسجونين؛ بعض الإخوان المفرج عنهم رأى أنّ الواجب يقتضى توعية الشباب الإسلامي بمفهوم الحركة الإسلامية خلال نصف القرن الماضي وتعريفهم بأخطائها، رفع هؤلاء شعار "دعاة لا قضاة". لدرجة أنّ جزءًا منهم رفض العودة في المطلق إلى الماضي واعتباره تاريخًا قد توقف، وعارض مجرد وجود مُسمّى "الإخوان المسلمين"، أو أيّ تنظيم لهم، وأعلن حربًا على الفكر السرّي لما تسبب عنه من مآسٍ تاريخية معروفة. البعض الآخر رأى أنّ إعادة تكوين التنظيم السرّي على النمط السائد نفسه في الأربعينيات هو الحل (يمثلهم مصطفى مشهور ومن تأثر بهم من تنظيمات 1965). مشهور ومجموعته بدؤوا في بناء استراتيجية ترمي لبناء تنظيم هرمي محكم خارج سيطرة الدولة ورقابة أجهزتها ومؤسساتها المختلفة، باعتبار أنّ هذا التنظيم المحكم هو الضمانة الحقيقية والوحيدة لوجود الجماعة التي كان قد صدر القرار الإداري من النظام الناصري بحلها نهائيًا عام 1954. رافق مشهور في ذلك المخطط كلٌ من: أحمد الملط، وحسني عبد الباقي، وكمال السنانيري، وأسهم الأخير في تجنيد مجموعة سرّية من شباب الجماعة الإسلامية أعطت البيعة للإخوان سرًا، ولم يكتشف أمرها إلا في نهاية السبعينيات، ومن أبرز أسماء تلك المجموعة السرية عبد المنعم أبو الفتوح.
شهادات أنصار التلمساني ضد مشهور
شهادة المليجي، باعتباره عضوًا سابقًا بالتنظيم الخاص، الذي أسس له مصطفى مشهور، أكّدها ما ورد في الجزء الثاني من "موسوعة الحركات المسلحة"، للقيادي الإخواني المنشق، مختار نوح، والتي أورد فيها تفاصيل القضية (122) لعام 1983، التي كشفت تأسيسًا جديدًا للتنظيم السرّي لجماعة الإخوان المسلمين.
نوح، في كتابه، أكّد رواية المليجي بأنّ التنظيم السرّي كان مسارًا آخر لا علاقة له بجماعة الإخوان ككيان، يقول نوح: "في أحد الأيام الساخنة، في عام 1983، استدعى عمر التلمساني عددًا من المقربين إليه والمستشارين في حجرته إلى المناقشة والحوار حول ما كتب في بعض الصحف، من أنّ تنظيمًا سريًا قد تمّ اكتشافه في الإخوان المسلمين، وتبادل وجهات النظر مع الجالسين، إلا أنّ أغلب الموجودين رأوا أنّ هذه مكيدة من نظام ما بعد السادات؛ لأنّه كان من وجهة نظرهم نظامًا غامضًا لم يظهر منه ما تطمئن إليه نفوس الإخوان".
غير أنّ اعترافات المتهمين في القضية أكدت وجود تنظيم سرّي لا يعلم عنه مكتب إرشاد الجماعة شيئًا، وذكر نوح في كتابه: "قال أحمد توفيق كنزي، المتهم الأول في القضية: إنّه كُلِّف من الدكتور محمود عزت بتكوين مجموعات تنظم في قسم خاص، وتربَّى تربية خاصة، تحت إشرافه شخصيًا، وأنّ محمود عزت بدأ في هذا العمل بمجرد وجوده في القاهرة، بحسب تعبيره، وقام أحمد توفيق كنزي بذكر مجموعة من البيانات والمعلومات لهذا التنظيم الخاص، ثم قامت مباحث أمن الدولة بانتزاع هذه الاعترافات ثم كتابتها على هيئة أوّل مذكرة معلومات ضدّ الإخوان المسلمين في عهد الرئيس السابق محمد حسني مبارك، وتمّ القبض على هؤلاء جميعًا، عدا المتهمَين: محمود عزت وخيرت الشاطر".
آخر العمليات الفاشلة للتنظيم السري
يستكمل عبد الستار المليجي في كتابه "آخر العمليات الفاشلة للتنظيم السرّي" ذكر سيطرة التنظيم الخاص على جماعة الإخوان وانقلابه على مجريات الأمور داخل الجماعة؛ بسرد تفاصيل العملية "سلسبيل": "فور اكتمال طلائع الغزو المعدّ في أوروبا وأمريكا والسعودية والكويت واليمن، تشكّل منهم تنظيم مصغر، تحت لافتة شركة "سلسبيل"، بمجلس إدارة مكوَّن من أحمد عبد المجيد، بصفته مالك الشركة الأم في لندن، وخيرت الشاطر رئيس مجلس الإدارة، وعضوية حسن مالك، ومحمد إبراهيم، وعدد من الإخوان المراسلين بكلّ محافظة، كما تأسّس فرع لشركة "سلسبيل" بالمنيا، تحت قيادة محمد سعد الكتاتني وكمال الفولي، ليكون المسؤول عن تسويق أفكار التنظيم السرّي في الصعيد، وبدأ التنظيم يجمع معلومات تفصيلية حول جميع الإخوان ويسجلها في بطاقات باسم كل عضو، وجمعت المعلومات في شركة "سلسبيل" دون أيّ علم من مكتب الإرشاد أو العاملين معه، وبدأت هذه المنظمة الجديدة تصنف الإخوان دينيًا، تبعًا لمواصفاتها الخاصة".
عملية "سلسبيل" كانت سببًا في كشف تنظيم الإخوان بالكامل للأجهزة الأمنية في القاهرة، "ولكن كيف كانت نهاية المتورطين في العملية لقلب نظام الحكم في الإخوان؟ كان جهاز أمن الدولة وراءهم خطوة بخطوة وتركهم يعملون بدأب واجتهاد في جمع المعلومات التي عجز هو عن جمعها عن الإخوان، ولما اكتملت عمليتهم ونضجت الثمرة وحان وقت قطافها، تقدّم ضباط أمن الدولة، بقيادة العقيد محمد قمصان، وقبضوا على المعلومات مرة واحدة في ساعة واحدة".
وعن السيطرة الكاملة للنظام الخاص (مشهور ورجاله) على مجريات الأمر في الجماعة؛ ذكر مختار نوح في كتابه "موسوعة الحركات المسلحة": "هذا الصراع ظلّ خفيًا، لم يظهر على السطح حتى مات حامد أبو النصر، بعد حوالي عامين من رئاسة إدارة الجماعة، لكن فوجئ الجميع بأنّ المستشار مأمون الهضيبي لم يترك فرصة لأحد أن يفكر أو ينتخب فقام بمبايعة مصطفى مشهور علنًا أمام الناس عن المقبرة، وسُميت هذه البيعة "بيعة المقابر"، وتولّى مصطفى مشهور منذ تلك اللحظة أمور الجماعة، وبدأت الأوضاع تتغير ليتحقق ما أراده محمود عزت وخيرت الشاطر في القضية رقم (122) لعام 1983، وما كان يُعقد سرًّا في الجماعة على هيئة تنظيم خاص أصبح يوجد علنًا، بل أصبح هو المسيطر.