بعد الأحداث السياسية العنيفة التي شهدتها بلاده، بداية الشهر الجاري، حلّ رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، في العاصمة الإريترية، أسمرا، في زيارة عدّها المراقبون "مفاجئة"، نظراً لعدم الإعلان عنها مسبقاً بشكل رسمي.
اقرأ أيضاً: كيف علقت مصر على إعلان إثيوبيا ملء المرحلة الأولى من سد النهضة؟
وتكتسب الزيارة أهمية خاصة، لجهة توقيتها، الذي يتزامن مع تعقيدات ملف سدّ النهضة بين إثيوبيا ودولتَي المصبّ، مصر والسودان، فضلاً عن تزامنها مع التجاذبات الداخلية الإثيوبية، التي أعقبت اغتيال الفنان الأورومي المشهور، هتشالوا هونديسا، وما تبعه من أحداث دامية، واعتقالات واسعة لرموز الحراك الأورومي، وقيادات حزبية وسياسية نافذة.
علاقات إريتريا مع إثيوبيا تؤهلها لأن تقوم بدور تمهيدي للتراجع الإثيوبي، بشكل مقبول، ثم إعادة ترتيب المتعلق بالاستفادة من حصص كلّ الأطراف في مياه النيل بصورة مقبولة وعادلة
وبخصوص سد النهضة، كشفت وزارة الخارجية المصرية تفاصيل ما حدث بالقمة الأفريقية المصغرة لمناقشة ملف سد النهضة التي عقدت أول من أمس الثلاثاء. وقالت الخارجية إن القمة أكدت على ضرورة التوصل إلى اتفاق ملزم قانوناً حول ملء وتشغيل سد النهضة.
وصرح أحمد حافظ، المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية، بأنّ القمة أكدت على ضرورة التوصل إلى اتفاق مُلزم يتضمن آلية قانونية مُلزمة لفض النزاعات يحق لأي من أطراف الاتفاق اللجوء إليها لحل أي خلافات قد تنشأ مستقبلاً حول تفسير أو تنفيذ الاتفاق، موضحاً أنه تم خلال القمة تأكيد ضرورة تركيز المفاوضات على سد النهضة باعتباره سداً لتوليد الكهرباء غير مُستهلك للمياه، وعدم إقحام أي موضوعات غير ذات صلة بالسد أو طموحات مستقبلية في عملية المفاوضات.
اقرأ أيضاً: تأكيد ثم نفي ثم اعتذار... كيف تضاربت تصريحات إثيوبيا حول "سد النهضة"؟
فضلاً عن ذلك، فإنّ توقيت الزيارة لأسمرا، يتزامن مع الذكرى الثانية لتوقيع اتفاق السلام بين إريتريا وإثيوبيا، بعد عقدين من حالة "اللاحرب واللاسلم"، وهي المناسبة التي استغلها وزير الإعلام الأريتري، يماني قبر مسقل، في وقت سابق، لتوجيه انتقادات لمسار التسوية السلمية بين بلاده وجارتها، مؤكداً "وجود تعثّر واضح في تطبيق بنود الاتفاقية" الموقَّعة في كلّ من جدّة وأبو ظبي، معتبراً "بقاء الأراضي الإريترية تحت الاحتلال الإثيوبي، حتى الوقت الحالي، تعثراً في مسار التسوية، المنصوص عليها في اتفاقيَّتي السلام".
اقرأ أيضاً: هل يشعل سد النهضة الإثيوبي أول حرب على المياه في العالم؟
فهل تعدّ هذه الزيارة "اعتيادية" في توقيت استثنائي، أم هي امتداد للجولات المكوكية، التي قام بها الرئيس الإريتري، أسياس أفورقي، لكلّ من أديس أبابا والخرطوم والقاهرة، والتي عدّها البعض جزءاً من خطة أريترية للتقريب بين الدول الثلاث المتنازعة حول تدابير ملء سدّ النهضة الإثيوبي؟
محاولة لتدارك نذر أزمة جديدة
يقرأ الصحفي المهتم بشؤون الشرق الأفريقي، خالد محمد طه، الزيارة من مدخل التصريحات الإريترية الأخيرة، الصادرة بمناسبة الذكرى الثانية لتوقيع اتفاق السلام بين أسمرا وأديس أبابا؛ حيث تضمنت، بحسب رأيه؛ "انتقادات لخطوات تنفيذ الاتفاق، وأشارت إلى الجهات المعيقة للسلام، ما ينقل مسارات القراءة إلى بُعد ثنائي، فضلاً عن أوضاع الداخل الإثيوبي، في الوقت ذاته"، وعليه يمكن أن نقرأ الزيارة في إطار أنّها خطوة نحو حسم المعيقات.
اقرأ أيضاً: مجموعة "أفريقانيون" تدعو دول ثلاثي سد النهضة لإعلاء مصالح الشعوب والتوصل لاتفاق عادل
ويرى طه، في إفادته لـ "حفريات"؛ أنّ "الزيارة تأتي في إطار رتق نذر تلك الأزمة،" ويضيف "ثمة تجاذب كبير، في أنّ الطرفين الحكوميَّين في إريتريا وإثيوبيا يعملان على إرساء فكرة الدولة الاتحادية ذات المركزية الواحدة في إثيوبيا، بالاستناد إلى رؤية مغايرة للنمط الفدرالي، وهذا من أهمّ تجاذبات الداخل الإثيوبي الآن، بل تعدّى ذلك ليصبح مؤثراً في العلاقات مع المحيط، وسبباً لعدم تنفيذ الاتفاق مع إريتريا، حيث يعدّ أحد تلك التبدّيات المهمة، ونتاجاً طبيعياً لعدم تناغم الرؤى والمصالح بين الحكومة المركزية وحكومات الأقاليم الإثيوبية".
ويؤكّد طه أنّ "الأجدى في هذا المسار أن يتواصل نهج الركون للحلّ القانوني للقضايا العالقة بين البلدين؛ كي يصبح الحلّ قانونياً وملزماً ومسنوداً بشرعية دولية، بعيداً عمّا يمكن وصفه بـ "أمزجة حكّام"".
مساعٍ لحلّ أزمة سدّ النهضة
على المستوى الإقليمي؛ يرى طه أنّ "خصوصية العلاقات بين إريتريا والأطراف المعنية بأزمة نهر النيل، ومشروع سدّ النهضة (السودان ومصر وإثيوبيا) يمكن أن تسمح لأسمرا للقيام بدور إيجابي تجاه التوصل للحلّ العادل، ضمن مبادرة الاتحاد الأفريقي المسنودة أممياً، مع النظر إلى التحالفات الإقليمية، التي تنتظم فيها كلّ الأطراف المذكورة، بما فيها إريتريا، عليه يمكن القول إنّ إريتريا لاعب أساسي ضمن فريق يضمّ كلّ الأطراف (مصر والسودان وإثيوبيا) إضافة إلى المحيط الأفريقي والعربي ثم الدولي".
وفي إجابته عن سؤال "حفريات" حول وجود مبادرة إريترية حول أزمة السدّ، موازية للمساعي الأفريقية، بقيادة رئيس جمهورية جنوب أفريقيا، يقول طه: "لا أرى ما يمكن أن يعدّ مساراً موازياً للجهود الأفريقية، لكن، كما أسلفنا، خصوصية علاقات إريتريا مع إثيوبيا الآن، تؤهلها لأن تقوم بدور التمهيد للتراجع الإثيوبي، بشكل مقبول، ثم إعادة ترتيب المتعلق بالاستفادة من حصص كل الأطراف في مياه النيل بصورة مقبولة وعادلة، كما أنّ إريتريا قادرة على فتح الانغلاق في سير التفاهمات، للأسباب الخاصة بالعلاقات الثنائية مع كلّ طرف من الأطراف الثلاثة، وهذا ما كان واضحاً في التحركات الإريترية الأخيرة، تجاه كلّ من أديس أبابا والخرطوم والقاهرة".
ترتيبات إقليمية لدور مفترض
من جهته، يرى محرر موقع "عدوليس"، جمال همد؛ أنّ "زيارة آبي أحمد لـ "أسمرا"، سبقتها عدة جهود على المستوى الأريتري، توحي بوجود ترتيبات إقليمية ما"، مشيراً إلى زيارات أفورقي إلى العواصم الثلاث.
اقرأ أيضاً: ليبيا وسد النهضة يختبران مكانة مصر خارجيا
ويشير همد، في إفادته لـ "حفريات": "فضلاً عن جولات أفورقي، هناك جولات لقائد الأركان الأريتري، الجنرال فليبوس ولد يوحانس، إلى كلّ من أديس أبابا والخرطوم، برفقة قائد القوات البحرية الأريترية، ورئيس الاستخبارات العسكرية، ما يشير إلى أنّ هناك تنسيق بين الدول الثلاث لتنفيذ ما اتفق عليه أفورقي في جولاته، وهي اتفاقيات تظلّ غير معلنة " بحسب رأيه.
اقرأ أيضاً: سد النهضة: هل تقف تركيا وراء محاولات حصار مصر مائياً؟
ويرى همد أنّ "الأوضاع الداخلية الإثيوبية، تعدّ جزءاً من بنود الزيارة المفاجئة؛ حيث يواجه آبي أحمد معارضة شرسة من الأحزاب الفيدرالية، لا سيما من قيادات إقليم التجراي، وهو الإقليم المحاذي لـ "إريتريا"، ويضيف همد: "قيادة حزب حوحات الحاكم في الإقليم، تمثل عدواً مشتركاً لكلّ من أفورقي وآبي، على حدّ سواء، ويحتاج الأخير لدعم النظام الإريتري في مواجهة التحديات التي يمثلها هذا الحزب".
الرئيس الإريتري أفورقي معروف باللعب على التناقضات الدولية والإقليمية، فهو دوماً يبدو نشطاً وفاعلاً في أوقات الأزمات، ليس فقط لحلّها، بل لتجييرها لجهة مصالحه السياسية
ويشير همد، في حديثه لـ "حفريات"، إلى أنّ "الانتقادات الإريترية الأخيرة، بشأن مسار اتفاقية السلام، تؤكّد بوضوح هذا التنسيق الثنائي؛ حيث إنّ الأراضي الأريترية المحتلة تقع تحت سيطرة إقليم التجراي، بالتالي؛ فإنّ الانتقادات، وإن بدت موجهة إلى أديس أبابا، فإنّها تخصّ الحكومة المحلية في إقليم تجراي، التي تمثّل أيضاً جيباً معارضاً لـآبي أحمد".
وبالتالي؛ فإنّ ثمة تنسيقاً واضحاً بين الحكومة المركزية في أديس أبابا، ومن خلفها بعض الأحزاب والقوى السياسية الطامحة لبناء نظام مركزي، بين النظام الإريتري، بهدف إضعاف إقليم التجراي ومحاصرته، والذي قررت قياداته السياسية إجراء انتخابات على مستوى الإقليم الفيدرالي، في مخالفة لقرار مفوضية الانتخابات المركزية، التي قررت تأجيل الاستحقاق الانتخابي لما بعد جائحة كورونا، فيما يرى الحزب الحاكم في تجراي، أنّ ذلك بمثابة حجج واهية، لتمديد فترة حكم آبي أحمد بشكل غير قانوني!
أفورقي ومهارة اللعب على التناقضات
وفي ردّه على سؤال "حفريات" حول علاقة زيارة آبي بـأزمة سدّ النهضة الإثيوبي، يقول همد: "الرئيس الإريتري معروف باللعب على التناقضات الدولية والإقليمية، فهو دوماً يبدو نشطاً وفاعلاً في أوقات الأزمات، ليس فقط لحلها، بل لتجييرها لجهة مصالحه السياسية، ولدعم بقائه في الحكم لأكثر وقت ممكن"، ويضيف همد: "أفورقي ماهر في هذه اللعبة، سواء على المستوى الإقليمي او الدولي، والأزمة الأخيرة المتعلقة بتدابير تشغيل سدّ النهضة الإثيوبي، تعدّ جزءاً من اللعبة التي أجادها لثلاثة عقود".
اقرأ أيضاً: هل بدأت إثيوبيا بملء سد النهضة؟ ماذا سيكون رد مصر والسودان؟
ولا يستبعد همد أن يكون أفورقي قد "طرح مبادرة ما، للدول الثلاث بشأن ملف السدّ، لا سيما بعد جولاته الأخيرة، خاصة أنّه أصبح يتمتع بعلاقات متقدمة مع قيادات تلك الدول"، ويضيف: "الحالة الأنسب لسياسات أفورقي في المنطقة؛ هي وقوع اضطرابات إقليمية ودولية يحاول من خلالها لعب دور ما، لصالح اوراقه الداخلية، أكثر من حلحلة تلك الأزمات فعلياً"، ويشير همد إلى "الترحيب الذي قوبلت به زيارة أفورقي في كلّ من القاهرة والخرطوم، وقبلها في أديس أبابا، كما أنّه يتمتع بعلاقات جيدة مع لاعبين إقليمين، مثل الرياض وأبو ظبي، ما قد يؤهله لطرح مبادرة للتقريب بين العواصم الثلاث، بما يخدم أجنداته السياسية، محلياً وإقليمياً ودولياً".
اقرأ أيضاً: هل تتجه أزمة سد النهضة للحل بعد الاتفاق على عدم اتخاذ إجراءات أحادية؟
وكان التصريح الرسمي للرئاسة المصرية، أثناء زيارة أفورقي الأخيرة للقاهرة، قد أشار إلى تباحث الرئيسَين، السيسي وأفورقي، حول تداعيات أزمة سدّ النهضة وسبل حلّها، ما عُدَّ "إشارة إلى دور ما تلعبه أسمرا بعيداً عن مبادرة الاتحاد الأفريقي، مستفيدة من علاقاتها المتقدمة مع العواصم الثلاث ذات الصلة بالملف".