هل تتجه أزمة سد النهضة للحل بعد الاتفاق على عدم اتخاذ إجراءات أحادية؟

هل تتجه أزمة سد النهضة للحل بعد الاتفاق على عدم اتخاذ إجراءات أحادية؟


27/06/2020

جاء الإعلان عن اتفاق الدول الثلاث المعنية بسد النهضة (مصر، السودان، إثيوبيا) في اجتماع رؤساء الدول الأعضاء في هيئة مكتب الاتحاد الأفريقي على عدم اتخاذ إجراءات أحادية في ملء وتشغيل السد، والعودة إلى المفاوضات برعاية الاتحاد الأفريقي والمراقبين الدوليين، الجمعة 26 حزيران (يونيو)، ليقلب التوقعات الأخيرة التي ذهب إليها المراقبون للأحداث.

اقرأ أيضاً: أين وصلت مفاوضات سد النهضة؟

فبعد التصعيد الإثيوبي الحاد، الذي وصل إلى حد الإعلان عن ملء خزان السد، سواء باتفاق أم لا، تأتي هذه الخطوة لتعيد الملف إلى المفاوضات الثلاثية مرةً أخرى، وتعيد حسابات الدول الثلاث، وأعضاء مجلس الأمن، في جلستهم المقبلة يوم الإثنين القادم.

حفظ ماء الوجه

ويرى متابعون للقضية أنّ الخطوة بمثابة حفظ ماء الوجه للحكومة الإثيوبية أمام المجتمع الدولي وشعبها؛ إذ من ناحية ستنجيها من خانة الدولة التي تخرق القانون الدولي، ومن ناحيةٍ أخرى كون الإعلان عن هذه الخطوة جاء من أديس أبابا، وفي اجتماع مكتب الاتحاد الإفريقي، يحفظ ماء الوجه أمام الشعب الإثيوبي، لتبدو الخطوة على أنها حرص إثيوبي على التعاون والسلام، بدلاً من أن تصدر الدعوة عن مجلس الأمن، كما كان مرجحاً بشدة، والذي سيدفع الشعب الإثيوبي للضغط على الحكومة لرفض التدخل الدولي.

الخبير عباس شراقي لـ"حفريات": الخيار العسكري سيكون بمثابة طوق النجاة للحكومة الإثيوبية؛ بإنقاذها من مأزق عدم جدوى السد

يعزز ذلك التوجه الأفريقي لرئيس الوزراء آبي أحمد، وتقبل الإثيوبيين للهوية الأفريقية، مما ينقذ آبي أحمد من استغلال المعارضة لهذا الاتفاق، كونه صدر من العاصمة أديس أبابا، لا من نيويورك. وعقد مكتب رئاسة الاتحاد الأفريقي اجتماعاً لأعضائه، عبر الفيديو كونفرانس، برئاسة رئيس جنوب أفريقيا، سيريل رامافوزا، الرئيس الحالي للاتحاد، ومشاركة الرئيس المصري السيسي، ورئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد، ونظيره السوداني، عبد الله حمدوك، وحضور كلٍ من أعضاء المكتب الرئيس الكيني أوهورو كينياتا، والرئيس المالي إبراهيم أبو بكر كيتا، والرئيس فيلكس تشيسيكيدي رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية.

صدقت هذه الخطوة مع ما توقعه خبير المياه الدولي، ورئيس قسم الموارد الطبيعية بمعهد البحوث والدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة، عباس شراقي، الذي أكد على ألا بديل عن العودة للمفاوضات، وأنّ التعنت الإثيوبي موجه للداخل بشكل أساسي.

في حديثه مع "حفريات" قال شراقي، إنّ الحكومة الإثيوبية بحاجة إلى مخرج يحفظ لها ماء الوجه أمام شعبها، وهو ما يجب على صانع القرار المصري أخذه في الحسبان، ويبدو أنّ ذلك أقرب لما حدث.

عقد من الزمن مر على بداية المفاوضات بين الدول الثلاث حول سد النهضة

تعنت إثيوبيا ومرونة مصر 

عقد من الزمن مر على بداية المفاوضات بين الدول الثلاث حول سد النهضة، الذي شرعت إثيوبيا في بنائه على النيل الأزرق، بالقرب من الحدود السودانية، في 2011، دون التوصل إلى اتفاق نهائي حول تشغيل وإدارة السد بينهم، نتيجة للتعنت الإثيوبي النابع من فكرة مغلوطة تقول إنّ مياه النهر إثيوبية خالصة، ومن حقنا أن نتصرف فيه كيفما نشاء، لذلك وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود، ما حدا بمصر إلى التوجه نحو مجلس الأمن.

مصر تحصل على 85 % من  حصتها المقدرة بـ 55.5 مليار متر مكعب التي ينقلها النيل الأزرق إلى النيل

سبق ذلك جولات عدة من المفاوضات الثلاثية، على مستوى وزاري ورئاسي، ونتج عن ذلك اتفاق مبادئ سد النهضة في 2015، والذي وقعه  السيسي، ورئيس الوزراء الإثيوبي هيلاماريام ديسالين، وعمر البشير. وكان بإمكان هذا الإعلان التوصل إلى حلول لكل القضايا المتعلقة بالسد، حال توافرت نية صادقة لدى إثيوبيا.

يضيف عباس شراقي قائلاً، توصلت الأطراف الثلاثة في إعلان المبادئ إلى الالتزام بالتعاون في بناء السد والملء الأول، على أن تُشكل آلية لاحقاً لضبط ذلك، وتشكيل لجنة فنية من الدول الثلاث لتحديد عملية ملء السد، دون سنوات محددة، على أن تعمل هذه اللجنة بمرونة وفق عوامل عدة منها كمية الأمطار، وعدم الإضرار بدولتي المصب، لكنّ التعنت ظهر لاحقاً، وتشعبت نقاط الخلاف.

على عكس التعنت الإثيوبي يبدو الموقف المصري أكثر مرونةً منذ تولي الرئيس السيسي الحكم في 2014، والذي وقع اتفاق إعلان المبادئ في 2015 ليعبر عن تحول جذري في السياسة المصرية تجاه بناء إثيوبيا للسدود.

وبعد مرور خمسة أعوام من التفاوض، وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود، نتيجة خلاف حول آلية ملء خزان السد،؛ حيث تصر إثيوبيا على عدم التقيد بسنوات للملء، بينما تصر مصر والسودان على أنّ يكون الملء وفق آلية تراعي كمية الأمطار، وسنوات الجفاف، وتضمن ألا يصيب الملء غير المدروس الدولتين بالعطش.

تحولات الموقف السوداني

مثّل تغير الموقف السوداني بعد إطاحة البشير من تأييد إثيوبيا إلى وضع مصالح الشعب أولاً ضربةً قويةً لإثيوبيا، التي كانت تعتمد على أنّ السودان سيكون الجهة الأولى في استيراد كهرباء السد، لقرب السد من حدوده، وما يمثّله شرق السودان من فرصة كبرى للاستثمار الزراعي، تحتاج لهذه الكهرباء، لكن هناك آثار بيئية واجتماعية كبرى حول ذلك، لم يأخذها نظام البشير في الحسبان.

اقرأ أيضاً: لماذا يذكّر فشل مفاوضات سدّ النهضة بمجاعة تأكل الأخضر واليابس؟

في السياق ذاته يبدو أنّ مصر قطعت الطريق على أحلام إثيوبيا في ذلك؛ بقيامها بالانتهاء من المرحلة الأولى من الربط الكهربائي مع السودان في كانون الثاني (يناير) 2020، لتصدير الكهرباء للسودان، والتي تملك مصر فائضاً كبيراً منها، نتيجة التوسعات الكبرى التي أُجريت منذ  2014، والتي عززتها الاكتشافات الضخمة للغاز في مصر.

وتمتلك مصر ميزةً عن إثيوبيا في الربط مع السودان؛ كون مصر لن تتحصل على موارد نقدية مقابل الكهرباء بل سيتم تبادل قيمتها باستيراد مصر للحوم وفول الصويا وعباد الشمس من السودان، ما يعني استفادة متبادلة للبلدين، دون تحميل ميزانية السودان أعباء مالية، في وقت تعاني من أزمة مالية خانقة، أمّا إثيوبيا فلا تحتاج إلى اللحوم أو المنتجات الزراعية المستوردة.

وربما يكون ذلك أحد أسباب الغضب الإثيوبي تجاه مصر، غير أنّ الملام الأول على ذلك هو قصر نظر صانع القرار الإثيوبي الذي ربط مصالحه بالسودان بنظام عمر البشير فقط، دون أن يضع في حسبانه الرفض الشعبي الشديد له.

فضلاً عن ذلك؛ باتت مسألة التغيرات البيئية والاجتماعية للسد على شرق السودان، وقضية أمان السد، مسائل حيوية للحكومة السودانية، بعد أن كانت مهملة في حسابات البشير، الذي انطلق من موقف عدائي لمصر فقط. وهناك قضية الخلافات الحدودية، ودفع إثيوبيا فلاحيها المدعومين بالميليشيات لوضع اليد على مساحات زراعية شاسعة في مناطق سودانية قريبة من الحدود، وربما يأتي ذلك في إطار الاستفادة من السد في الزراعة الدائمة، وهو خطر آخر يهدد حصة مصر في المياه؛ إذ ستحتاج إثيوبيا إليها في زراعة تلك المناطق، لكنّ تمسك سودان ما بعد البشير بسيادته أصبح عقبةً في وجه الأماني الإثيوبية.

غير أنّ الموقف السوداني يعاني من تضارب الرؤى بين قوى الحكم، وهو ما تناولته أماني الطويل في مقالها المنشور في موقع "إندبندنت عربية"، حيث رصدت تناقض تصريحات وزيرة الخارجية  أسماء عبد الله المؤكدة على رفض أي خطوة إثيوبية منفردة، أو ملء الخزان دون التوصل لاتفاق مع مصر والسودان، مقابل تصريح وزير الدولة في الخارجية عمر قمر الدين بأنّ بلاده لن تذهب إلى مجلس الأمن، حتى مع بدء إثيوبيا في ملء خزان السد، مؤكداً رفضه لجوء القاهرة للمجلس.

فخ التهييج الشعبي

انتهجت إثيوبيا سياسة شحن الشعب عاطفياً لدعم مشروع السد بالتمويل، وتحمل تبعات تكاليف السد على ميزانية الدولة من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى ساهمت العملية الانتخابية في مزايدة الأحزاب على بعضها البعض باستغلال قضية السد، حتى وصل الشحن الشعبي مدى غير عقلاني؛ بالحديث عن ملكية إثيوبيا للنهر الأزرق، وربط سيادتها بحقها في التصرف بحرية في مياهه، وعند هذه النقطة بات الشعب الإثيوبي رافضاً لأي اتفاق بأيّ شكل مع مصر والسودان، كون ذلك انتهاكاً لسيادة دولته.

وبذلك أصبح التعنت في المفاوضات ورقةً رابحةً للحزب الحاكم في الانتخابات، ويوضح ذلك خبير المياه، عباس شراقي لـ "حفريات" بقوله إنّ التصريحات النارية والمتعنته من حكومة إثيوبيا هي للاستهلاك الداخلي، خصوصاً في ظل رغبة الحكومة في تأجيل الانتخابات المقبلة، وسط معارضة شديدة من الأحزاب الأخرى. 

ويضيف شراقي أنّ حكومة آبي أحمد خلقت من مصر عدواً، لشحن الشعب ضده، لإلهائه عن فشلها الذريع في حل المشاكل التي وعدت بحلها في حملاتها الانتخابية، ولذلك تصّعد ضد مصر، وحتى ضد الوسيط الأمريكي.

خيارات القاهرة

في ضوء ذلك، طلبت القاهرة من مجلس الأمن، وفق الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، العمل من أجل عدم اتخاذ إجراءات أحادية (اعتزام إثيوبيا ملء خزان السد) من شأنها أن تضع عقبة في إطار التوصل إلى اتفاق. ووفق تقارير صحفية يوجد توافق في مجلس الأمن حول تأييد الطلب المصري بعدم ملء خزان السد قبل التوصل إلى اتفاق.

يشرح شراقي لـ "حفريات" معنى ذلك بقوله، طبقاً للفصل السادس ستصدر توصيات وإرشادات من مجلس الأمن؛ تنظم عملية التفاوض، أو تجعلها تحت إشرافه، وربما يرسل مندوباً أو وسيطاً بين الدول الثلاث.

ويضيف شراقي حتى الآن لم تدخل الأزمة ضمن الفصل السابع، أيّ تهديد السلم والأمن الدوليين، كون عملية الملء لم تبدأ بعد، كما أنّ باب إنهاء الأزمة بالتفاوض ما يزال مفتوحاً.

أمّا في حالة عدم التزام إثيوبيا بالتوصل إلى اتفاق قبل ملء السد، وبدأت فعلياً في ملئه، فيقول شراقي لـ "حفريات" في هذه الحالة ستطلب مصر عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن، تحت الفصل السابع، باعتبار أنّ ذلك أزمة تهدد السلم الدولي، كأنها اعتداء دولة على دولة أخرى.

ووفقاً لذلك، ستصدر قرارات ملزمة عن مجلس الأمن بوقف الملء، واستئناف المفاوضات برعايته، وإن لم تلتزم إثيوبيا ستتعرض لعقوبات دولية، وإجراءات عقابية.

ولا يتوقع شراقي أن يصل التعنت الإثيوبي إلى هذا الحد، نظراً لإدراكها أنّ مصر لن تقبل بذلك مطلقاً. أمّا عن الخيار العسكري فلا يحبذه شراقي، الذي يرى أنّه سيكون بمثابة طوق النجاة للحكومة الإثيوبية؛ بإنقاذها من مأزق عدم جدوى السد؛ بتعليق فشله على التدخل العسكري المصري، حال حدوث ذلك.

وبعد الاتفاق الجديد على عدم الملء قبل اتفاق نهائي، صرح وزير الخارجية المصري، سامح شكري، بأنّ مصر مستمرة في عرض الأزمة على مجلس الأمن، بالتوازي مع اشتراكها في المسار الأفريقي للمفاوضات، مؤكداً ألا تقاطع بين المسارين.

فرضية بيع مياه النيل الأزرق

جاء في التدشين الإثيوبي لسد النهضة أنّ الهدف الأول منه توليد الطاقة الكهربائية لتصديرها إلى الدول الأفريقية، للحصول على عوائد تُستخدم في التنمية، دون إشارة إلى حاجة إثيوبيا لمياه النيل الأزرق للزراعة أو استعمال الشرب وغير ذلك.

يقول عباس شراقي لـ "حفريات" لن يحقق السد فوائد تُذكر لإثيوبيا لعدة أسباب وهي: أنّ خزان السد يقع في منطقة منخفضة عن المناطق المأهولة في إثيوبيا، بجانب وجود جبال حوله، ما يعني انعدام الفرصة لاستثمار المياه في الزراعة، وصعوبة نقلها إلى المدن والقرى. بجانب ذلك لن تستطيع إثيوبيا استغلال الكهرباء المولدة عن السد لسببين: الأول عدم وجود شبكة قومية لتوزيع الكهرباء فيها، والثاني المشاكل الاقتصادية الضخمة التي تعاني منها الدول التي تريد تصدير الكهرباء إليها.

وعلى فرض أنّ إثيوبيا ستجد من يشتري الكهرباء منها، فماذا يمنعها من توقيع اتفاق حول ملء السد وتشغيله، خصوصاً أنها ستحتاج لاستثمارات كبيرة، وسنوات عمل لمد خطوط الربط الكهربائي مع الدول المستوردة.

في إطار ذلك تبدو فرضية أنّ إثيوبيا تريد إرغام مصر على دفع تكاليف السد، لاستثمارها في مد خطوط الربط الكهربائي مع الدول المستهدفة بالتصدير وجيهةً، بجانب أنّ صانع القرار الإثيوبي وضع نفسه في موقف حرج أمام شعبه، نتيجة الوعود الكبيرة التي قطعها حال الانتهاء من السد.

ولذلك تتمسك مصر بعدم الشروع في الملء قبل التوصل إلى اتفاق شامل حول البنود الفنية والقانونية للسد، بما يحمي حصتها بشكل قانوني، في ظل سوء النية الإثيوبية. 

ورغم ذلك يبقى مسار التفاوض غير مأمون العواقب، وربما ستكشف الأيام المقبلة عن خفايا تنسيق نظام البشير مع إثيوبيا، ودور ذلك في الموقف الإثيوبي، وهو ما تحدثت عنه، أماني الطويل، مديرة البرنامج الأفريقي بمركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية، ورئيسة تحرير سلسلة أفريقيات، في منشور لها على صفحتها على الفيسبوك. ويبدو أنّ القاهرة، التي خبرت التنصل الإثيوبي من الالتزامات مراراً، يقظة هذه المرة، ولا تنجرف بشكل كلي وراء التفاوض الجديد، بدليل تمسكها بمسار مجلس الأمن.

يُذكر أنّ مصر تحصل على 85 % من  حصتها المقدرة بـ 55.5 مليار متر مكعب، من المياه التي ينقلها النيل الأزرق إلى النيل. ويبقى التأكيد على أنّ بإمكان الدول الثلاث تحويل السد إلى فرصة للتنمية، يحقق فوائد كبرى للجميع، لكن يبقى ذلك مشكوكاً فيه، في ظل سوء النوايا الحاصل. ويبقى الرهان على ما ستكشفه الأيام المقبلة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية