
منذ سقوط حكم جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام 2013، تحولت تركيا إلى أبرز ملاذ آمن لقيادات الجماعة وكوادرها الهاربين من الملاحقات القضائية، حيث وفّر لهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حماية سياسية وإعلامية واضحة، استُخدمت على مدار أعوام كورقة ضغط إقليمية، خصوصاً في خلافات أنقرة مع القاهرة. لكنّ المشهد بدأ يتغيّر تدريجياً مع انطلاق مساعي التقارب المصري التركي في الأعوام الأخيرة، وهو ما انعكس بشكل مباشر على أوضاع الإخوان في تركيا، وسط تضييقات متزايدة كشفتها تصريحات ونداءات قيادات إخوانية أبرزهم القاضي المصري السابق والقيادي في الجماعة وليد شرابي، الذي وجّه نداءً علنياً للرئيس أردوغان يستغيث فيه ممّا وصفه بـ "الاختناق الأمني والإداري" الذي يعيشه في الأراضي التركية.
التحولات التركية تجاه الإخوان: من الاحتضان إلى الضغوط
طوال ما يقرب من (7) أعوام بعد إطاحة حكم الإخوان في مصر، احتفظت تركيا بسياسة واضحة تجاه الجماعة، تمثلت في توفير ملاذ سياسي وإعلامي لأنشطتها، خصوصاً عبر القنوات الفضائية والمنصات الإلكترونية التي كانت تهاجم النظام المصري من قلب إسطنبول.
وبالتوازي، قدّمت تركيا تسهيلات في الإقامات والوثائق وجوازات السفر لبعض الشخصيات الإخوانية، في خطوة فسّرها مراقبون على أنّها استثمار سياسي في ملف الإسلام السياسي، يخدم توجهات حزب العدالة والتنمية الحاكم بزعامة أردوغان.
منذ 2013 تحولت تركيا إلى ملاذ آمن لقيادات الإخوان، لكن التقارب المصري التركي فرض تضييقات متزايدة على الجماعة ومصادر نفوذها.
لكن مع بداية العام 2020، ومع تصاعد الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تعاني منها تركيا داخلياً، واحتدام التنافس الإقليمي في شرق المتوسط وليبيا، بدأت أنقرة تعيد النظر في أولوياتها الاستراتيجية. وفي هذا السياق انطلقت مسارات تقارب تدريجية بين مصر وتركيا، شملت لقاءات أمنية رفيعة المستوى، وتفاهمات سياسية، أسفرت عن تخفيف التوتر بين البلدين، لكنّها جاءت على حساب الحضور الإخواني في تركيا، الذي بدأ يشهد تضييقات واضحة، تمثلت في تقييد حركة بعض الشخصيات، وإغلاق أو تقليص أنشطة منصات إعلامية محسوبة على الجماعة، وفرض شروط أكثر صرامة على الإقامات وتجديد الوثائق القانونية.
واقع الإخوان في تركيا… تضييق متزايد وشعور بالملاحقة
التقارب المصري التركي لم يكن مجرد تصريحات دبلوماسية، بل حمل نتائج مباشرة على أوضاع الإخوان في تركيا، إذ باتت الجماعة تواجه تضييقاً أمنياً وإدارياً ممنهجاً، شمل إغلاق عدد من القنوات والمنصات الإعلامية التي تبث من إسطنبول، ووضع قيود على تحركات بعض القيادات الإخوانية البارزة، وصعوبة تجديد الإقامات أو إصدار وثائق رسمية لعدد من الكوادر، ورفض منح الجنسية التركية لمن تقدّم من الشخصيات المصنفة كمطلوبة للقضاء المصري، وتوقيف بعض الشخصيات لفترات قصيرة، في رسائل ضغط واضحة على الجماعة.
قدّمت تركيا تسهيلات للإخوان بعد سقوطهم في مصر، لكن الأزمة الاقتصادية أعادت ترتيب أولويات أنقرة وأضعفت احتضانها للجماعة.
هذا الواقع الجديد دفع العديد من الشخصيات الإخوانية للبحث عن بدائل، سواء بالانتقال إلى دول أخرى مثل بريطانيا، أو السعي للحصول على اللجوء في دول أوروبية، خشية تحوّل تركيا من حليف سياسي إلى طرف محايد أو حتى مصدر ضغط إضافي.
نداء وليد شرابي… استغاثة تكشف عمق الأزمة
الأزمة التي يعيشها الإخوان في تركيا لم تعد مجرد تكهنات أو تسريبات إعلامية، بل تحوّلت إلى وقائع معلنة على لسان قيادات الجماعة أنفسهم، وأحدث الأمثلة على ذلك ما نشره القاضي المصري السابق والقيادي الإخواني وليد شرابي عبر صفحته الرسمية، موجهاً نداءً صريحاً إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يكشف فيه حجم التضييق الذي يتعرض له منذ أعوام.
التقارب المصري التركي أثمر تضييقًا أمنيًا على الإخوان، شمل إغلاق منصاتهم الإعلامية وفرض قيود قانونية على وجودهم في البلاد.
وقال شرابي في نص رسالته، التي جاءت باللهجتين التركية والعربية: إنّه دخل في إضراب مفتوح عن الطعام واعتصام أمام أحد المقرات الأمنية في إسطنبول، احتجاجاً على منعه من الحصول على إقامة قانونية، ممّا أفقده القدرة على العلاج أو فتح حساب بنكي أو حتى ممارسة حياة طبيعية في تركيا، إضافة إلى تعرضه لضغوط أمنية متواصلة.
وأوضح شرابي أنّ حياته تغيّرت بالكامل منذ بدء الزيارات الأمنية المتبادلة بين القاهرة وأنقرة، مشيراً إلى أنّ مسؤولين أمنيين مصريين طالبوا السلطات التركية بتسليمه، وهو ما أدى إلى تشديد الإجراءات ضده، وصولاً إلى منعه من مغادرة البلاد أو الحصول على جواز سفر مؤقت.
نداء وليد شرابي لأردوغان كشف حجم الاختناق الأمني والإداري الذي يعيشه الإخوان في تركيا بعد تغيّر المناخ السياسي.
وقال شرابي في ندائه: "كل الأمور الخاصة بي تغيّرت بعد الطلب المخابراتي المصري… بدأت بمنع استثمارات شركتي، مروراً بالتضييق الأمني، ثم منع إصدار إقامة لي منذ عامين، ممّا جعلني عاجزاً عن العلاج أو العمل أو حتى التعامل مع الجهات الحكومية."
ولفت شرابي إلى أنّه يعيش منذ عامين دون إقامة صالحة أو جواز سفر مصري مجدد، بعد رفض السفارة المصرية تجديد وثائقه، ممّا جعله في حالة شلل قانوني، ودفعه لمحاولة مغادرة تركيا بحثاً عن اللجوء في دولة أخرى، لكنّه أوقف من قبل الأمن التركي، ليبدأ بعدها إضراباً عن الطعام واعتصاماً مفتوحاً، في مشهد يعكس عمق الأزمة التي يواجهها الإخوان في تركيا اليوم.
أبعاد الأزمة: بين مصالح أنقرة ومستقبل الجماعة
نداء وليد شرابي ليس مجرد حالة فردية، بل يعكس تحولاً أوسع في علاقة تركيا بجماعة الإخوان، ويضع الجماعة في مأزق استراتيجي، خاصة أنّ تركيا كانت طوال الأعوام الماضية أحد أهم ملاذاتها في الخارج.
من جانب آخر، تعكس التحولات التركية رغبة أنقرة في إعادة التموضع الإقليمي، عبر تخفيف حدة التوتر مع القاهرة، وتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، خصوصاً في ملفات الطاقة والأمن الإقليمي، وهو ما يتطلب تقديم تنازلات، أبرزها كبح جماح المعارضة المصرية، والحد من نشاطات الإخوان داخل الأراضي التركية، وفق دراسة حديثة صادرة عن المركز العربي للدراسات.
يواجه الإخوان في تركيا صعوبات في تجديد الإقامات، ورفضًا لمنح الجنسية، ما يدفعهم للبحث عن بدائل في أوروبا.
في المقابل، تجد الجماعة نفسها أمام واقع جديد، يفرض عليها البحث عن بدائل سياسية وجغرافية، في ظل تآكل خياراتها الإقليمية، وتزايد الضغوط على قياداتها المقيمة في تركيا، ممّا يهدد بانكماش حضورها السياسي والإعلامي، أو تفكك شبكاتها في الخارج.
المشهد الإقليمي… تركيا بين البراغماتية والضغط الإخواني
السياسة التركية تجاه الإخوان اليوم لم تعد رهينة الحسابات الإيديولوجية، بل تحكمها اعتبارات المصلحة والبراغماتية، وهو ما يفسّر خطوات أنقرة في التضييق على الجماعة، مقابل مكاسب في علاقاتها مع مصر وعدة دول عربية أخرى.
في الوقت ذاته تحاول أنقرة الاحتفاظ بورقة الإخوان كورقة ضغط مؤجلة، دون الوصول إلى حدّ القطيعة أو التسليم المباشر، حفاظاً على توازن دقيق يتيح لها هامش مناورة سياسي في ملفات معقدة، أبرزها الصراع الليبي، وملف شرق المتوسط، والتنافس الإقليمي مع القوى الكبرى، وفق مراقبين.
تحولت تركيا من حليف للجماعة إلى شريك ضاغط، بعد طلبات أمنية مصرية ومصالح إقليمية متغيرة تتطلب ضبط حضورهم الإعلامي.
أمّا بالنسبة إلى جماعة الإخوان، فإنّ المرحلة المقبلة تحمل سيناريوهات صعبة، في ظل تآكل الحماية السياسية في تركيا، وتزايد الضغوط الإقليمية، وهو ما يدفع الجماعة إلى محاولة إعادة التموضع في ساحات أخرى، أو البحث عن تسويات محدودة مع بعض الأنظمة، في إطار استراتيجية البقاء بأقلّ الخسائر الممكنة.