مراحل العلاقة بين قوى اليسار وقوى الإسلام السياسي في فلسطين

مراحل العلاقة بين قوى اليسار وقوى الإسلام السياسي في فلسطين

مراحل العلاقة بين قوى اليسار وقوى الإسلام السياسي في فلسطين


06/11/2024

في بداية العقد التاسع من القرن العشرين بدأت مرحلة تحوّل كبرى، ليس على الصعيد الإقليمي فحسب، بل على الصعيد العالمي، عندما انهارت المنظومة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفييتي، وتراجع دور الحركات الثورية التي ارتبطت تاريخياً بمحوره. 

وعلى الصعيد الإقليمي، حوصر العراق بعد حرب أممية عليه، أفقدته الفعل الداعم لليسار الفلسطيني، و"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" تحديداً. كذلك انهار نظام اليمن الجنوبي الذي اعتبر ساحة مريحة للفعل "الجبهوي" منذ سبعينيات القرن العشرين، ليتّحد مع اليمن الشمالي. كذلك شهدت الساحة الإقليمية تنامي إيران كقوة إسلامية في المنطقة تفتح الأبواب للأحزاب الإسلامية بداعي مقاومة إسرائيل، مثل: (حزب الله) في لبنان و(حركة حماس) في فلسطين.

في تلك الفترة تصاعدت على أنقاض هزيمة وتراجع مشروع "منظمة التحرير الفلسطينية"، رؤية "الحركة الإسلامية الفلسطينية" التي دخلت ساحة العمل الوطني مع انتفاضة العام 1987 كمنافس حقيقي لأحزاب "المنظمة".

بدأت مظاهر الإسلام السياسي في فلسطين بالظهور في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي. وتمثل ذلك على المستوى السياسي بإعادة تفعيل حركة الإخوان المسلمين، وتشكيل ما سُمّي بالكتل الإسلامية في الجامعات الفلسطينية الناشئة، وكذلك بتأسيس حركات سياسية إسلامية جديدة مثل: حركة الجهاد الإسلامي التي تشكلت في بداية الثمانينات، وحركة حماس المنبثقة عن الإخوان المسلمين في أوخر العام 1987.

حركة الجهاد الإسلامي تشكلت في بداية الثمانينيات

كما تمثل ذلك على المستوى الاجتماعي والثقافي بكثير من المظاهر ذات العلاقة بتدين المزيد من الناس، مثل أعداد النساء اللواتي لبسن الحجاب، والرجال الملتحين، وزيادة ممارسة الطقوس الدينية، وظهور المؤسسات ذات الطابع الديني كالمدارس، ورياض الأطفال، والمعاهد التربوية الدينية، والنوادي الرياضية والثقافية ذات الطابع الإسلامي.

في تلك البدايات كانت مظاهر التدين الشعبي هي الأبرز، رغم ظهور تلك الحركات السياسية. فتنظيمياً كانت الحركات السياسية الفلسطينية التي توصف بالعلمانية والاشتراكية واليسارية هي الأكثر بروزاً، والأكثر وضوحاً، وكانت "القوى الإسلامية"  تكاد تحصر مظاهرها في التدين الشعبي، الذي يتحول بعضه إلى الشكل السياسي الإيديولوجي للتدين، ولكن بصعوبة كبيرة.

بدأت مظاهر الإسلام السياسي في فلسطين بالظهور في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي

مرّت العلاقة بين قوى اليسار وقوى الإسلام السياسي في فلسطين منذ الانطلاقة الموسعة للثورة الفلسطينية بعد حرب 1967 بمراحل تميّزت فيها بأطوار متعددة ومختلفة، ارتباطاً بطبيعة المرحلة ودور ومساهمة الأطراف المختلفة فيها، ومن الممكن أن نشير إلى أنّ هناك (6) مراحل زمنية مرت بها حالة التديّن في المجتمع الفلسطيني:

المرحلة الأولى: تبدأ بالاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، حتى بداية الثمانينات، حين نأت قوى الإسلام السياسي بنفسها عن أيّ مواقف وطنية تتعلق بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وظلّت تركز على السياسات والخطاب الديني والاجتماعي، وإذا ما فرض عليها التعامل مع الواقع والأسئلة والواجبات التي يطرحها الاحتلال وسياساته، تهربت من الإجابة المباشرة بالحديث عن إرادة الله وتوريثه الأرض في نهاية الأمر لعباد الله الصالحين.

في هذه المرحلة كان طابع الصراع هو الطابع أو المظهر السائد في العلاقة بين قوى اليسار، وفصائل العمل الوطني الفلسطيني عموماً، وقوى الإسلام السياسي، حيث تحملت القوى الوطنية، واليسارية من ضمنها، عبء مقاومة الاحتلال، والتبعات السياسية والتنظيمية والاجتماعية الناجمة عن هذه المقاومة، بينما ظلّت قوى الإسلام السياسي سالمة ومعافاة ومحيّدة في الغالب، ولقيت تشجيع قوات الاحتلال لها في العديد من المواقف والصراعات بينها وبين القوى الوطنية عموماً، واليسارية في الكثير من الأحيان، وهناك العديد من الأمثلة التي يمكن إيرادها على هذا الصعيد.

حركة حماس المنبثقة عن الإخوان المسلمين تشكلت في أواخر العام 1987

المرحلة الثانية: الممتدة منذ أوائل الثمانينات حتى اندلاع الانتفاضة في كانون أول (ديسمبر) 1987، فقد شهدت هذه المرحلة انطلاقة حركة الجهاد الإسلامي، كحركة إسلامية وطنية قدّمت الموقف الوطني وموجباته على الاعتبارات الإيديولوجية والدينية، التي ظلّت جماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي تعطيها الأولوية في الخطاب السياسي والاجتماعي، وقد شهدت هذه المرحلة بداية التفاعل الإيجابي بين القوى الوطنية الفلسطينية، بما فيها اليسار مع هذا التطوّر أو المخاض الجديد الذي عبّرت عنه حركة الجهاد الإسلامي، وتجسّد ذلك في علاقات مباشرة في الميدان، أو مع قيادات الجهاد المعروفة خارج فلسطين، خاصة أنّ الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي مثّل حالة متقدمة من الانفتاح في علاقاته مع الآخرين، ولم تشهد العلاقات مع جماعة الإخوان المسلمين تحسناً، بل وصل بها الحد إلى أشكال من التصادم والاشتباك الدموي المتناسب طردياً مع كل زيادة في قوة ونفوذ هذه الاتجاهات، وجرى في هذه الفترة الاعتداء على الهلال الأحمر الفلسطيني الذي يرأسه د. حيدر عبد الشافي باعتباره مركزاً لليسار، وجرى التعدي على الكثيرين من نشطاء الحركة الوطنية واليسار بشكل خاص، وانتشرت صيحات مجنونة من بعض متطرفي المجمع وهم يعتدون على اليساريين الفلسطينيين، وصلت إلى حدّ اعتبار التعدي عليهم طريقاً للوصول إلى الجنة.

المرحلة الثالثة: الممتدة من أوائل عام 1988 حتى اتفاقيات أوسلو 1993 وهي أعوام الانتفاضة، حيث تحوّل المجمع الإسلامي إلى حركة المقاومة الإسلامية حماس، بعد زمن من نزعاتها الانفرادية والانقسامية منذ انطلاقتها، وعزوفها عن المشاركة في القيادة الوطنية الموحدة، والمحاولات التي بذلتها هذه القيادة لتجنب زيادة أعباء الانتفاضة بحكم تكرار الفعاليات التي تدعو لها القيادة الوطنية، وتدعو إليها حركة حماس، ولجوئها في بعض الأحيان إلى فرض الاستجابة لنداءاتها بالإكراه، بما انطوى عليه هذا الأمر من تناقض واضح بين حركة حماس والمجموع الوطني الفلسطيني، سعى اليسار لإبقاء التناقض ثانوياً، والعمل على حلّ ما ينتج عنه بأفضل الوسائل وأقلها تكلفة.

المرحلة الرابعة: بعد اتفاقيات أوسلو، حتى اندلاع الانتفاضة الثانية في أيلول (سبتمبر) 2000، وفي هذه الفترة شهدت العلاقات بين الجبهتين الشعبية والديمقراطية تقاطعاً واضحاً في الموقف والخطاب السياسي المناهض لاتفاقيات أوسلو، والقيادة المتنفذة في منظمة التحرير الفلسطينية، وقد شاركت الجبهتان فيما عرف بالفصائل الـ (10) في دمشق، التي استمر العمل فيها لبعض الوقت إلى أن ظهرت نزعات التفكير بمنظمة وقيادة بديلة لمنظمة التحرير الفلسطينية، فغادرت الجبهتان هذا الإطار، كما تمت لقاءات شبه منتظمة وبعض الفعاليات الميدانية كذلك في مناطق السلطة الفلسطينية، تمحورت كلها حول الموقف المعارض لاتفاقيات أوسلو، وأحياناً في الاعتراض على بعض ممارسات السلطة ورموزها، سواء تجاه الحريات الديمقراطية، أو بعض مظاهر الفساد التي واكبت السلطة.

كانت الحركات السياسية الفلسطينية التي توصف بالعلمانية والاشتراكية واليسارية هي الأكثر بروزاً

بتكثيف وتظهير واضحين، شهدت هذه الفترة أبرز تجليّات دعوات العمل على أساس الموقف السياسي والاجتماعي أحياناً، دون البقاء في دوائر الاختلافات الإيديولوجية العميقة بين اليسار وقوى الإسلام السياسي.

المرحلة الخامسة: منذ اندلاع الانتفاضة الثانية في أيلول (سبتمبر) 2000 حتى إجراء الانتخابات التشريعية، وفوز حماس فيها، وفي هذه المرحلة اتسعت مساحة اللقاء والعمل المشترك، لتشمل كل قوى وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية، بما في ذلك كل قوى اليسار الفلسطيني، مع قوى الإسلام السياسي، وكان المظهر الرئيس والسائد في العلاقات هو مظهر التنسيق والتعاون في ميدان الانتفاضة، وقد تبلور هذا كله في تشكيل لجنة المتابعة العليا في قطاع غزة، ولجنة القوى الوطنية والإسلامية في الضفة.

رغم التوافق الوطني العام في هذه الفترة، إلا أنّها شهدت بداية الصراع بين حركة حماس والسلطة الفلسطينية؛ ليتحوّل إلى صراع بالسلاح بين حين وآخر، شكّل الشرارات والمقدمات للصراع الدموي اللاحق

وقد جرت محاولات جدّية للسير بهذا اللقاء على طريق صياغة برنامج سياسي، يمثل القاسم المشترك بين مجموع القوى الفاعلة في الانتفاضة، كان أبرزها وثيقة آب (أغسطس) 2002، التي تضمنت أول محاولة لصياغة برنامج وطني جامع، إلا أنّ حركة حماس تراجعت عن موافقتها على الوثيقة، رغم أنّ صياغتها تمّت بالاتفاق بين الجبهتين الشعبية والديمقراطية مع حركة حماس، وجاءت موافقة فتح تالية لهذه الصياغة المشتركة، التي أُبلغت فيها حركة فتح ثم أصبحت الوثيقة محل اتفاق وإجماع وطني، لتعود حركة حماس للتراجع عمّا وافقت عليه وشاركت في صياغته.

ورغم التوافق الوطني العام في هذه الفترة، إلا أنّها شهدت بداية الصراع بين حركة حماس والسلطة الفلسطينية؛ ليتحوّل إلى صراع بالسلاح بين حين وآخر، شكّل الشرارات والمقدمات للصراع الدموي اللاحق.

المرحلة السادسة: منذ الانتخابات التشريعية في كانون الثاني (يناير) 2006 حتى الآن، وكان المظهر الرئيس في العلاقة بين حماس واليسار الفلسطيني، كما العلاقة بين حماس ومجموع فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، هو مظهر الاختلاف وأحياناً الصراع السياسي الذي أخذ طابعاً مسلحاً متدرجاً ومتراكماً بين حركة حماس وجهازها العسكري، وبين حركة فتح والأجهزة الأمنية للسلطة التي تقودها وتسيطر عليها فتح، وصولاً إلى الانقسام الذي كرّس ما يشبه الكيانين المنفصلين في كل من الضفة والقطاع، ولم يغيّر من الانقسام كسمة رئيسية الفترة التي تشكلت فيها حكومة "الوحدة الوطنية" التي شارك فيها بعض اليسار وقاطعتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بعد أن كانت حركة حماس قد انفردت في تشكيل الحكومة منذ انتخابات 2006.

منذ الانقسام في حزيران (يونيو) 2007، والمظهر الرئيس في العلاقة بين قوى اليسار وحركة حماس هو التناقض مع نزعاتها الانقسامية، وتوظيفها لسيطرتها على قطاع غزة، نحو ما يخدم حركة حماس ونفوذها، بما في ذلك السيطرة على مختلف جوانب الحياة في القطاع، وظهور الطابع الرجعي وغير الديمقراطي لحركة حماس في علاقاتها مع الجماهير وعلى مختلف الأصعدة، دون أن يلغي هذه الحقيقة كمظهر رئيس بعض التقاطعات في الخطاب السياسي، الذي تقدمه حركة حماس وقوى اليسار الفلسطيني تجاه بعض العناوين، مثل المطالبة بوقف التنسيق الأمني وباقي التزامات السلطة التي فرضتها اتفاقيات أوسلو، ومغادرة سياسة المفاوضات مع إسرائيل بالرعاية الأمريكية، بالمقابل أظهر انحياز حماس الفعلي للسياسات القطرية والتركية في أكثر من مكان، وخاصة في سوريا، عدم تمسكها بما كانت تعتبره معسكر المقاومة، وما تؤكده الممارسة الحمساوية إثر توقيع اتفاقيات الهدنة المتكررة مع العدو الإسرائيلي، بما في ذلك التعرض للمقاومين وملاحقة بعضهم أحياناً.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية