
يساهم تحليل الممارسات المختلفة لجماعة الإخوان في الوصول إلى فهم أعمق لبنيتها الفكرية التي تقوم عليها وتتحكم في مساراتها المختلفة، كما يساهم في الكشف عن العديد من العيوب ومواضع الخلل في تلك البنية.
ومن بين الممارسات التي يساعد تحليلها في ذلك الفهم، تلك المتعلقة بطريقة تعامل الجماعة مع المنشقين عنها لأسباب تنظيمية أو فكرية، فقد شهدت الجماعة العديد من حالات الانشقاق منذ تأسيسها في العام 1928، وكان أوّل انشقاق عنها خاصة بما أطلق عليها "جماعة شباب محمد" في العام 1946، ثم حدثت حالات خروج وانشقاق فردي لعدد من الشخصيات البارزة في الجماعة مثل وكيل الجماعة أحمد السكري والشيخ محمد الغزالي والشيخ أحمد الباقوري، كما انشق كثيرون غيرهم في النصف الثاني من القرن العشرين، أبرزهم مجموعة حزب الوسط، إضافة إلى آخرين كذلك في العقد الأول من القرن العشرين، لكن بعد ثورة كانون الثاني (يناير) شهدت الجماعة تزايد حالات الانشقاق نتيجة الانفتاح الفكري والسياسي الذي ترتب على الثورة، وأدى إلى وجود اختلافات فكرية مع الجماعة حول أفكارها وطريقة تعاطيها مع الأحداث السياسية، وشهدت مرحلة ما بعد 2013 موجة أخرى من الانشقاقات بسبب الصدمة الناتجة عن سقوط الجماعة من الحكم، وحالة التخبط والضعف التي دخلت فيها على إثر ذلك.
وفي هذا الإطار نسعى إلى التعرف على طبيعة تصور الجماعة حول ظاهرة الانشقاق عنها، وآليات تعاملها معها، ودلالات ذلك.
كيف تنظر الجماعة إلى ظاهرة الانشقاق؟
تستخدم جماعة الإخوان تعبيراً شهيراً تجاه أيّ شخص يخرج منها أيًّا كانت الأسباب التي دفعته إلى ذلك، وهو أنّ "الجماعة تنفي خبثها"، وهذا التعبير يعكس طريقة تفكيرها وطبيعة الصورة الذهنية الراسخة عن نفسها، والتي تعكس جوهر المشكلة التي تعيشها الجماعة منذ نشأتها، وهي اعتقادها بأنّها إسلام يمشي على الأرض!
فالإخوان يعتبرون أنفسهم أنّهم يمثلون الإسلام، وأنّهم بمثابة جماعة المسلمين التي تمثل النواة للمجتمع المسلم المراد إقامته، وأنّ طريقهم هو الطريق المستقيم الذي ينبغي على الناس اتباعه وعدم الانحراف عنه، ومن ثم يرون أنّ الخروج من الجماعة بمثابة انحراف عن الطريق، وأنّ ذلك يتم وفق مشيئة إلهية بهدف تنقية الصف المسلم من العناصر غير الصالحة والتي تمثل عبءًا عليه، ويعبّر عن ذلك شهادة أحد أفراد الإخوان الذي وجّه خطابًا إلى المرشد السابق مصطفى مشهور يتضمن عددًا من الأسئلة وأوجه النقد لممارسات الجماعة، وقد أوردها الكاتب الصحفي عبد الرحيم علي في كتابه "الإخوان المسلمون... قراءة في الملفات السرّية"، وممّا جاء في الخطاب: "تعلن الجماعة أحيانًا كثيرة أنّها من المسلمين وليست جماعة المسلمين، لكنّها في واقع الأحداث تكاد ممارساتها تنطق بخلاف ذلك، فمثلًا إذا انتقد إنسان الجماعة واستقال منها بسبب أخطائها، كما يتراءى له، فإنّه يوصف بالوقوع في الفتنة، ولا يُذكر اسمه بين أفراد الصف إلّا مشفوعًا بقولهم: أعاذنا الله من الفتنة، ويوصف خروجهم من الجماعة بأنّه تطهير من الله للصف المؤمن من الخبث، ويُستشهد بالآية التي تتحدث عن المنافقين والمرجفين، وقد ورد ذلك في حديث لفضيلتكم لمجلة (الوسط) حيث وصفتم المستقيلين من الجماعة بأنّهم كفرع الشجرة الذي إذا قُطع من شجرته فإنّه يذبل ويموت، وأنّهم هم الذين سيخسرون، والجماعة لن تخسر شيئًا، واستشهدتم بالآية (ليميز الله الخبيث من الطيب)، ممّا يعني اعتقادكم بأنّكم على الحق الذي لا شك فيه، وأنّ غيركم على الباطل الذي لا أمل فيه".
وفي كتابه "المتساقطون على طريق الدعوة" يتناول القيادي بجماعة الإخوان والمسؤول عنها في لبنان سابقًا فتحي يكن ظاهرة الخارجين من الجماعة، وهي نظرة تعكس رؤية الجماعة بشكل عام للظاهرة، حيث يرى بداية أنّ خروج الأفراد يؤثر عليها بشكل سلبي من حيث إنّها تتسبب في إضعاف الجماعة وإفشاء أسرارها واهتزاز صورتها في المجتمع، ويصف العديد ممّن يخرجون من الجماعة ويوجهون إليها النقد بأنّهم يفعلون ذلك بدافع الحقد، وأنّهم يتعاونون مع أعداء الإسلام من أجل الانتقام منها، وأنّ ذلك يكشف زيف هؤلاء الأفراد وزيف انتمائهم إلى الإسلام، كما يعدد أسباب الظاهرة فيرى أنّها تعود إلى أسباب تتعلق بالجماعة؛ ومن أهمها وجود خلل في تربية الأفراد ممّا يتسبب في انحراف البعض منهم عن الطريق المستقيم، ومنها اختيار الفرد في موقع غير مناسب في التنظيم ممّا يؤدي إلى مشكلات ينتج عنها حدوث خلاف وانشقاق، ومنها عدم قدرة الجماعة على حسم الخلافات بشكل سريع قبل تفاقمها، ومنها كذلك عدم متابعة الأفراد ومساعدتهم في حل مشكلاتهم الشخصية وما يتعرضون له من ضغوط حياتية من الممكن أن تؤدي إلى الخروج وترك الجماعة، ومنها ضعف القيادة وعدم قدرتها على التحكم في الأفراد بدرجة كافية، كما يشير إلى أسباب تتعلق بالفرد ذاته، منها عدم التزامه بالسمع والطاعة المطلوبة ممّا يؤدي به إلى عدم القدرة على الالتزام بالواجبات التي تفرضها الجماعة عليه، ومنها الخوف على النفس والرزق، والغرور وحبّ الظهور، ومنها التطرف والغلو، وكذلك التساهل والترخص، ويشير كذلك إلى أسباب خارجية مثل المحن التي تتعرض لها الجماعة، والفتن الموجودة في المجتمع الذي يبتعد عن الإسلام، والتيارات الفكرية التي تختلف مع فكر الجماعة وتوجّه لها النقد ممّا يتسبب في فتنة الفرد.
والملاحظ هنا أنّ الأسباب كلها تدور في إطار بعيد عن وجود أخطاء أو عيوب في الجماعة، سواء على مستوى الأفكار أو الممارسات السياسية والتنظيمية، أو فساد القيادات، أو أيّ أسباب أخرى تجعل هناك مبررات منطقية وموضوعية للخروج، فنظرة الجماعة تعكس تنزيه النفس عن الخطأ، وتحميل الفرد أو الظروف مسؤولية الاختلاف مع الجماعة والخروج منها.
آليات تعامل الجماعة مع المنشقين
تواجه الجماعة ظاهرة الانشقاق من خلال آليات مختلفة، تبدأ من محاولة استيعاب الأفراد المختلفين معها قبل إعلانهم عن الخروج وترك الجماعة وذلك أثناء مرحلة الخلاف وبدايات الصدام التي تسبق لحظة الخروج، من خلال محاولات التأثير عليهم باستخدام العاطفة أحيانًا والترهيب من آثار الابتعاد عن الجماعة والحث على عدم إعطاء فرصة لخصوم الجماعة و"أعداء الإسلام" من استغلال الفرصة للهجوم عليها وانتقادها، ثم بعد ذلك حال حدوث الخروج الفعلي تعمل على التهوين من الأمر والاستخفاف به وتجاهله. يقول الباحث منير أديب في دراسته حول ظاهرة المنشقين: إنّه "لا توجد جهة داخل التنظيم منوط بها استلام استقالات الأفراد، كما أنّه من غير المعترف به عندها فكرة الاستقالة؛ فالجماعة ترى نفسها أكبر من أن يزهدها أتباعها، أو أن يعلنوا ذلك، فهي من تقوم بتجميد عضويتهم أو رفض انضمامهم إلى التنظيم، وفي حال الخروج عنها تكون مضطرة للتجاهل أو تشويه هذه الشخصية التي أعلنت تمردها على الملأ".
كما تعمل الجماعة على تصوير الأمر على أنّه أمر استثنائي لا يؤثر على قوة التنظيم، وأنّه يعود إلى خلل في الفرد ذاته، والتشكيك في دوافعه ونواياه واتهامه بالعديد من الاتهامات التي تتعلق بضعف إيمانه وتوظيفه من أطراف معيّنة للنيل من الجماعة، ومن الآليات توظيف أسرة الفرد، إذا كان أحد أفرادها منتمياً للإخوان، في ممارسة الضغط عليه، سواء لإقناعه بالعودة إلى الجماعة أو لعدم توجيه النقد إليها بشكل علني أو الحديث عنها بصورة سلبية أمام الآخرين، وتتناول دراسة بعنوان "شباب الإخوان المسلمين... الجيل الثاني من المنشقين" للباحث أحمد الأزهري هذا الأمر، ويشير الباحث إلى أنّ 50% من العينة محل الدراسة والبالغ عددها (90) فرداً يواجهون ضغوطاً من الأهالي المنتمين للإخوان بسبب خروجهم من الجماعة وانتقادهم لها، ويقول الباحث: إنّ "50% أجبرتهم النقاشات داخل العائلة على التزام الصمت تجنبًا لعلوّ الأصوات وأحيانًا قليلة السباب أو التأثير المتزايد على العلاقات بين الابن ووالديه، بينما هناك عدد يُقدّر بنسبة 17% ممّن شعروا بالاغتراب بأنّهم، وبشكل مباشر، قد عُنفوا لاستخدامهم وسائل التواصل الاجتماعي في نقد الجماعة واستراتيجياتها وقادتها في العلن، بل أُجبروا في بعض الأوقات أن يمسحوا انتقاداتهم بعد كتباتها فورًا".
نتائج ودلالات
تعكس طريقة تعاطي الجماعة مع ظاهرة الانشقاق عنها تمتعها بقدر كبير من الغرور والاستعلاء الناتج عن اعتقادها بامتلاك الحق المطلق وتمثيل الإسلام، كما تعكس مقدار الجمود الذي تتسم به، وافتقادها المرونة اللازمة لاستيعاب الآراء والتنوعات المختلفة بداخلها، واللازمة أيضًا للتطوير من نفسها بالشكل الذي يجعلها قادرة على الاستمرار دون صدامات وصراعات كبيرة ومتكررة، وهو ما يؤدي مع الوقت إلى تزايد حالات الانشقاق، واستمرار حالة الضعف الذي تعيشه الجماعة.