
لم تكن النتائج التي وصل إليها تحقيق وكالة (رويترز) للأنباء، بخصوص الجرائم الإرهابية بحق العلويين في سوريا، أمراً مباغتاً. فالواقع الطائفي المرير المتسيد في مرحلة ما بعد سقوط نظام بشار الأسد، ثم صعود الجولاني/ أحمد الشرع، زعيم هيئة تحرير الشام/ جبهة النصرة سابقاً، المصنفة على قوائم الإرهاب، يتمفصل ويتغلغل في تفاصيل ويوميات سوريا على المستويات كافة، بينما يتكرر على نحو ممل ويبعث على الإحباط والامتعاض. وفضلاً عن التحركات المنظمة والعشوائية من قبل قوى ميليشياوية في مناطق المسيحيين تطالبهم بالدخول في الإسلام، وهي المناطق ذاتها التي تعرّضت فيها كنيسة مار إلياس لتفجير قبل فترة وجيزة، فإنّ ما جرى بحق طوائف أخرى منها الدروز، يؤشر إلى ما توفره بيئة الحكام الجدد في سوريا من حاضنة للعنف والإرهاب.
"ما كشفته رويترز عن المجازر بحق العلويين في سوريا يضع هيئة تحرير الشام تحت مجهر الجريمة المنظمة، لا المقاومة المزعومة."
هذا العنف الدموي الذي تحفزه دوافع جهادية عسكريتارية، وعقيدة الموت الخلاصي والرغبة التطهرية بالعالم، يتخطى كونه مجرّد عمل انتقامي، بل هو يقع ضمن نطاق رؤية كفاحية همجية، ارتكازاتها الاستراتيجية تتبنّى مرجعيات الفقه الجهادي التي تقوم على "الحاكمية" وتكفير "المرتدين". هذا هو مدار رؤية الجولاني/ الشرع، وجماعته، في إدارة وهندسة المجتمع في سوريا، واستئصال تنوعه، ويمتد الأمر إلى الأقليات الدينية والقومية.
سلطة الأمر الواقع
بالتالي، يتبنّى الجهاديون في سوريا، أو حُكّامها الجدد، ومن خلال سلطة الأمر الواقع، سياسات الإبادة ضد الطوائف التي تقف على النقيض من تعريفهم للإسلام. وهي السياسة التي يتماهى معها تيار الإسلام السياسي خلال فترات وتجارب حكمه في التاريخ، كما هو الحال مع طالبان في كابل، أو الخمينية في طهران.
"الجولاني وجماعته لا يقاتلون نظامًا فقط، بل ينفذون رؤية استئصالية قائمة على الطائفية والكراهية العقائدية."
واللّافت أنّ الممارسات العدوانية، البدائية والغرائزية، بحق الأقليات الدينية في سوريا، لا يتم التعاطي معها بوصفها "أعمالاً إرهابية"، وإنّما "حوادث فردية"، بل إنّ التعمية عن الدوافع الإيديولوجية والدينية تفضح ارتباطها بأنماط السلطة وذهنية الحكم الفاشي. فوسط المجازر بمناطق الساحل السوري برز فريق تطوعي اسمه "عبق"، وكتب على إحدى وجبات الإفطار في مناطق إدلب: "من حق العلوي أن يعيش في قبره بسلام". وكأنّما يوجز في عبارة أثر ما تركه الجولاني وجماعته في "إدلبستان" قبل انتقالهم إلى دمشق.
قبل أيام كشف تحقيق (رويترز) عن تفاصيل المجازر التي تعرّض لها العلويون في آذار (مارس) 2025. وسعى إلى تتبع تسلسل القيادة، بداية من منفذي الهجمات بشكل مباشر حتى الوصول إلى رجال مقرّبين من قادة سوريا الجدد. وخلص التحقيق إلى مقتل (1479) علوياً، وفقدان العشرات في (40) موقعاً مختلفاً شهدت حوادث قتل انتقامية، فضلاً عن أعمال السرقة والنهب بحق الأقلية الدينية في ظل سيولة أمنية كبيرة. وتحدثت (رويترز) مع أكثر من (200) من عائلات القتلى خلال زيارات لمواقع المذابح وعبر الهاتف، وكذلك مع (40) مسؤولاً أمنياً ومقاتلين وقيادات ومحققين ووسطاء عينتهم الحكومة.
"العبارة المكتوبة على وجبة إفطار: 'من حق العلوي أن يعيش في قبره بسلام'، تُجسد ذروة الانحطاط الإنساني والرسمي في إدلبستان."
وقد فحص صحفيو التحقيق بوكالة الأنباء العالمية (رويترز) رسائل من محادثة على تطبيق (تلغرام)، دشنها مسؤول في وزارة الدفاع لجهة تنسيق تحرك الحكومة، وكذا عشرات من مقاطع الفيديو. ونجحوا في الحصول على لقطات سجلتها كاميرات المراقبة وجمعوا قوائم بأسماء القتلى مكتوبة بخط اليد. وأحصت الوكالة القتلى من خلال جمع قوائم محلية بأسماء القتلى، كان كثير منها مكتوباً بخط اليد، من زعماء محليين وأسر القتلى. وكان أيضاً لدى عدد من سكان القرى صور وتفاصيل شخصية عن القتلى.
وعكفت (رويترز) على التحقق من الأسماء في كلّ القوائم التي كانت مكتوبة باللغة العربية مع ناشطين؛ بعضهم في القرى التي شهدت أعمال القتل، وبعضهم يديرون صفحات على (فيسبوك)، وآخرون في الخارج ولهم أقارب في الأماكن التي تعرضت للهجوم، بحسب تقرير لـ (دويتشه فيله). وفي ما يخص كل مذبحة، جمعت (رويترز) أيضاً صوراً للقتلى وصوراً لمقابر جماعية وحددت مواقعها. ويشير أحدث إحصاء من الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وهي مجموعة مراقبة مستقلة، إلى مقتل (1334) شخصاً، منهم (60) طفلاً و(84) امرأة. وقالت الشبكة: إنّ من بين هذا الإجمالي قتلت القوات الحكومية (889) شخصاً، وقتل مقاتلون موالون للأسد (446) شخصاً.
قتل على الهوية
بدورها، قالت الشبكة السورية لحقوق الإنسان: إنّ القتلى البالغ عددهم (446) نصفهم من المدنيين والنصف الآخر من القوات الحكومية. ولم توضح الشبكة سبل تأكدها من هويات الجناة. ولم يتسنّ لـ (رويترز) التحقق من العدد الذي أعلنته الشبكة للقتلى الذين قتلهم موالون للأسد أو القوات الحكومية.
"تحقيق رويترز وثّق مقتل 1479 علويًا في 40 موقعًا خلال أيام، معظمها في بيئة فوضوية أمنية وتواطؤ سلطوي ضمني."
وفي 17 آذار (مارس) الماضي، قال المرصد السوري لحقوق الإنسان، مقره لندن، إنّ إحصاءاته خلصت إلى مقتل (1557) من المدنيين، لكنّه لم يوضح كيف توصل إلى هذا الرقم. وخلصت إحصاءاته أيضاً إلى مقتل (273) من القوات الحكومية و(259) من المسلحين العلويين التابعين لقوات موالية للأسد. بينما قالت الأمم المتحدة إنّها أحصت (111) وفاة، لكنّها أقرت بأنّ العدد أقلّ من العدد الحقيقي. ولم تعلن أيّ تحديث لحصيلة القتلى في إحصاءاتها منذ ذلك الحين.
بحسب تقرير (رويترز) شاركت (5) مجموعات كبيرة في عمليات القتل الجماعية في بلدات وأحياء للعلويين تعرّض العديد منها للاستهداف من عدة جماعات على مدى (3) أيام. وتلك الجماعات هي وحدات هيئة تحرير الشام، التي تضمنت الفرقة (400) ولواء عثمان وجهاز إنفاذ القانون الأساسي المعروف باسم جهاز الأمن العام. وخلصت (رويترز) إلى مشاركتهم في (10) مواقع على الأقل، قُتل فيها نحو (900) شخص. وقبل سقوط الأسد شكّل جهاز الأمن العام في هيئة تحرير الشام ذراع إنفاذ القانون في محافظة إدلب التي خضعت لسيطرة الجماعة، والجهاز الآن جزء من وزارة الداخلية السورية.
"سلطة الجهاديين في سوريا لا تُخفي رغبتها في تطهير طائفي شامل، مستعيدةً خطابات طالبان والخمينية والنازية في آن."
وجاء ذكر الفرقة (400) في عدد قليل من المنشورات على الإنترنت ليس من بينها أيّ منشور على حساب رسمي للحكومة السورية. ونُشر العديد منها في أوائل كانون الأول (ديسمبر) الماضي، وباستخدام صياغة متطابقة قالت تلك المنشورات إنّ مقاتلي الفرقة (400) يجري نشرهم في غرب سوريا. ووصفت المنشورات الفرقة (400) بأنّها "من أقوى الفرق" التابعة لهيئة تحرير الشام، "ومدربة تدريباً عالياً ومجهزة بأحدث الأسلحة".
ووفقاً للعديد من الشهود وأفراد من الفرقة، انتقلت بعد ذلك إلى مناطق ساحلية بعد سقوط الأسد. وقال مصدر مخابرات أجنبي: إنّ الفرقة أقامت مقرها في الأكاديمية البحرية السورية السابقة، وتتلقى الأوامر فقط من أعلى مستويات القيادة في وزارة الدفاع. ويضاف إلى ذلك جماعات مسلحة مدعومة من تركيا؛ إذ إنّه على مدى العقد الماضي شنت تركيا عمليات توغل عسكرية في سوريا ودعمت فصائل مسلحة هناك لمواجهة قوات الأسد والقوات الكردية التي تعتبرها تهديداً. وكانت تلك الفصائل جزءاً من الجيش الوطني السوري، وهو جماعة مدعومة من تركيا وثاني أكبر تحالف معارض في سوريا. وبحسب (هيومن رايتس ووتش) ومنظمات حقوقية أخرى، فإنّ لفصائل الجيش الوطني السوري سجلاً طويلاً من عمليات الخطف والعنف الجنسي والنهب. ومن بين الفصائل التي دعمتها تركيا خلال الحرب الأهلية فرقة السلطان سليمان شاه وفرقة الحمزة.
"القتل على الهوية في سوريا الجديدة لم يعد افتراءً، بل هو واقع موثق بالأسماء والصور والمقابر الجماعية."
وفي عمليات قتل العلويين، توصلت (رويترز) إلى ضلوع هاتين الجماعتين في (8) مواقع مختلفة على الأقل، حيث قتل ما يقرب من (700) شخص. وكتب عنصر تابع لفرقة السلطان سليمان شاه في صفحته على (فيسبوك): "أغلقوا الكاميرات واقتلوا كل ذكر منهم، إنّما دمهم دم خنزير نتن". وتشمل تلك الفصائل جماعات مناهضة للأسد، من بينها: "جيش الإسلام" و"جيش الأحرار" و"جيش العزة". وخلصت (رويترز) إلى وجود تلك الفصائل في (4) مواقع على الأقل، قتل فيها ما يقرب من (350) شخصاً. وتواجد مقاتلون من "الحزب الإسلامي التركستاني" ومقاتلون من أوزبكستان والشيشان وبعض المقاتلين العرب في (6) مواقع، وخلصت (رويترز) إلى أنّ ما يقرب من (500) شخص قُتلوا فيها.
موجة جديدة من العنف
إذاً، مع دخول سوريا مرحلة ما بعد بشار الأسد، تتكشّف ملامح موجة جديدة من العنف الطائفي، استهدفت الطائفة العلوية، لأسباب واعتبارات انتقامية مزدوجة "طائفية وسياسية، تتصل بتحميلهم مسؤولية الحقبة السابقة التي اتسمت بالقمع والفساد والحرب"، حسبما يوضح الباحث المختص في الشؤون السياسية الدكتور عبد السلام القصاص.
"الدولة السورية في مرحلة ما بعد الأسد تحوّلت إلى أداة لإنتاج الكراهية، لا لإعادة بناء وطن محطّم."
ويقول القصاص: "منذ أن بدأت ملامح النظام الجديد بالتشكل، لم يُخفِ القادة الجدد خلفياتهم الإيديولوجية الجهادية السنّية، حتى في ظل محاولات التطمين للحصول على الشرعية، وهي تطمينات مؤقتة بكل الأحوال لاعتبارات سياسية. غير أنّه، مع ذلك، تصاعدت الاعتداءات ضد العلويين في عدة مناطق بالساحل، مروراً بالدروز، حتى تفجير الكنيسة بدمشق".
ويؤكد الباحث المختص في الشؤون السياسية أنّ حوادث العنف الطائفية في سوريا، التي تورطت فيها "الهيئة"، تكشف عن الحمولة الإيديولوجية للجهاد السنّي الذي يقود سوريا، حيث إنّ ما جرى في الساحل شهد عمليات فيها محاولات التهجير القسري، والتصفية الجسدية، والملاحقة، والإذلال العلني أمام الكاميرات.
"أصبحت مؤسسات الدولة في سوريا الجديدة تُدار بعقيدة الانتقام، لا بمشروع وطني يشمل الجميع."
في ظل غياب مشروع وطني، وانهيار الهياكل المدنية والعسكرية، ورفض الحكام الجدد التشاركية السياسية، وإقصاء الأطراف والمكونات في سوريا، مثل قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، فإنّ المجال العام والسياسي باتت تتسيده جماعات سلفية وجهادية متشددة وراديكالية، تحرص على فرض أجنداتها ومقولاتها التكفيرية.
بالتالي، فـ "الخطاب الطائفي ليس ظاهرة هامشية، إنّما يقع في متن المشهد السياسي والإعلامي الرسمي بسوريا الآن، ومركزية الحكم القائم. وقد أدى هذا الخطاب إلى شرعنة الكراهية، ووفّر غطاءً إيديولوجياً للعنف والقتل، أو بالأحرى محاولات الإبادة لخصوم "الهيئة".
"الخطاب الطائفي لم يعد على هامش سوريا، بل صار في مركز السلطة، يُشرعن العنف ويقنّنه تحت ستار الحاكمية."
ويختتم القصاص حديثه قائلاً: إنّ "مؤسسات الدولة في سوريا أصبحت أدوات لإنتاج الكراهية، والنخبة الحاكمة ترى في مكونات عديدة بسوريا خصماً تاريخياً، سياسياً، عقائدياً. وفكرة الـ "تطهير الطائفي" مرشحة للتكرار، وليس الانحسار".