
برز في الفكر الإخواني مصطلح "العزلة الشعورية"، ليدلّ على انفصال المؤمن الروحي عن المجتمع الجاهلي المحيط به. كذلك كان لمفهوم "التعالي بالدين" (أو السمو الأخلاقي-الحضاري للمسلم) دلالة محورية في خطاب سيد قطب وأتباعه.
مفهوم "العزلة الشعورية" عند سيد قطب
يرى قطب أنّ المؤمن الحق يعيش "عزلة عاطفية تامة" عن الجاهلية المحيطة به، وزعم أنّ هناك عزلة عاطفية تامة بين المسلم القديم في جاهليته وإسلامه الحاضر. أي أنّ المؤمن الجديد يخوض نقلة نوعية، يتخلَّى فيها عن كل ممارساته الجاهلية القديمة، ويدخل "عصرًا جديدًا"، منقطعًا كليًّا عن حياته الماضية، حتى وإن كان ما زال يؤدي تعامله اليومي مع الجاهليين عمليًّا. وقد عبّر قطب نفسه عن ذلك بدعوة المؤمن إلى قطع كل صلة بالمجتمع الجاهلي، وتنكُّره التام لأفعال المجتمع التي شبّهها بالجاهلية قبل الإسلام.
وتؤكد هذه الرؤية أنّ العزل النفسي، أي الاعتقاد بتفوق الإيمان والتمایز به، أمرٌ لا يُلزم الانفصال العملي؛ فـ "العزلة العاطفية أمر، والمعاملات اليومية أمر آخر". وفي هذا الإطار يفترض قطب وسواه من الإخوان أنّ المجتمع الجاهلي كرّس قيمًا باطلة، وأنّ المؤمن واجبه أن ينفصل عن كلّ قيمه الاجتماعية والأخلاقية.
مفهوم "التعالي بالدين" عند سيد قطب
التعالي بالدين عند قطب يعني شعور المؤمن بتفوق إيمانه وقيمه الأخلاقية على كل قيم الجاهلية. ففي كتابه "معالم في الطريق" بيّن قطب أنّ هذا الشعور هو "حالة مُنتصرة" تبقى راسخة في قلب المؤمن أمام أيّ ظرف أو معيار، فالإيمان يفوق بقيمه كل القيم المأخوذة من مصادر أخرى غير مصدر الإيمان.
ويُعبّر قطب عن هذا التعالي بوضوح قائلًا: إنّ معناه أن يشعر المرء بالتفوّق على الآخرين، سواء كان ضعيفًا وقليل العدد، أو قويًا وكثير العدد. إنّه معنى "الإحساس بالعزّة التي لا تخضع أمام أيّ قوة أو عادة اجتماعية فاسدة، أو تقليد لا أصل له في الدين".
بعبارة أخرى؛ فإنّ الإيمان الديني عند قطب هو مصدر للعزة والثقة الثابتة، يتغلب بها المؤمن حتى على الظلم والقهر، إذ يستند إلى عقيدة ترى أنّها فوق منطق القوة، ومفاهيم البيئة، وتقاليد الناس.
مواقف حسن البنا وأبو الأعلى المودودي
من جهته، ركز حسن البنا في دعوته على توحيد الكلمة والعمل الاجتماعي والدعوي داخل المجتمع الإسلامي، ولم يدعُ صراحة إلى عزلة قصوى عن العالم الجاهلي مثل قطب. فقد بنى جماعة الإخوان المسلمين على مبدأ الدمج الدعوي مع المجتمع، دون التركيز على تفوق المسلمين ذاتياً على الآخرين، بالقدر الذي فعله قطب. ورغم أنّ نشاط البنا السياسي والدعوي (الدعوة إلى إعادة تطبيق الإسلام في الدولة) استلهم من الفكر السلفي والإسلاموي، إلا أنّه كان أكثر حيطة في الإعلان عن تصوره بوجود مجتمع جاهلي، يفصل المؤمنين كليًّا عن المجتمع. ورغم ذلك فإنّ سيد قطب استلهم من أفكار حسن البنا، ومن طروحات المودودي، رؤيته حول الجاهلية الحديثة، لكنّه وجد في كتاباته ضرورة لهجرة معنوية أكثر حدة (تغيير شامل) مقارنة بمنهج البنا الذي اعتمد على التقية.
أمّا أبو الأعلى المودودي الذي كان معاصرًا لسيد قطب، فقد تناول مفهوم الجاهلية أيضًا لكن بصور متفاوتة، فقد قلّص من مفهوم التناص الكامل بالجاهلية، ورأى أنّ المجتمعات الإسلامية المعاصرة بها جزء مسلم وجزء جاهلي. بمعنى آخر، كان للمودودي رؤية أكثر تساهلًا في الدمج بين معالم الإسلام والدولة القائمة، في حين رأى قطب أنّ المجتمع إمّا إسلامي كامل، وإمّا جاهلي بالكامل.
ورغم اتفاقهما على ضرورة إقامة الشريعة، لم يدعُ المودودي إلى عزل المؤمنين أو القيام بهجرة معنوية مطلقة من داخل المجتمعات، بل دعا إلى تصحيح الوضع تدريجيًا من خلال التوعية السياسية والإصلاح الاجتماعي. ومع ذلك كان للمودودي أيضًا شعور بدور خاص للإسلام، حيث صاغ مفهوم حاكميّة الله، وأكد على قداسة القانون الإلهي، ممّا يعطي المؤمنين شعورًا بالتمايز عن الأنظمة غير الإسلامية بحد ذاتها.
الأبعاد السياسية والنفسية والاجتماعية
يرتبط المفهومان بأبعاد متعددة في الحركات الإسلامية:
البُعد السياسي: يُستخدم التعالي الإيماني لدى قطب لتبرير رفض أيّ سلطة بشرية لا تستند إلى الشريعة. فتكاد رؤيته تهدم فكرة الدولة الوطنية القائمة، إذ يرى أنّ وضع الإسلام كاملًا وسيادته في الأرض، لا يتحقق إلا بمواجهة الجاهلية مهما كان شكلها. وينتج عن ذلك موقفٌ ثوري مسلح، فقد ابتدع قطب وجوب "الجهاد" لإسقاط الحكم الجاهلي، باعتباره غير مشروع وخارج إطار الإيمان.
وبذلك يصبح السياسيون العلمانيون أعداءً للمسلمين بحدّ ذاتهم، فتغدو المشاركة معهم أو الاستكانة تحت سلطتهم تماهيًا مع "الجاهلية".
البُعد النفسي: يوفّر التعالي بالدين للمؤمنين شعورًا بالاعتزاز والقيمة، خصوصًا في مواجهة ما يعتبرونه اضطهادًا من الكفار؛ فالمسلم في هذا الطرح الإيديولوجي يعيش حالة انتصار دائمة، تؤهّله للتضحية والصمود. غير أنّ ذلك أيضًا يزرع في داخل الجماعات الشعور بالعزلة والكمال الأخلاقي، بمعنى أنّهم الفرقة الناجية المختارة من الله، فيما باقي المجتمع في نظرهم غارقٌ في الأخطاء.
البُعد الاجتماعي: يؤدي هذا الاتجاه إلى تجنب الاختلاط الثقافي والفكري مع من يعتبرونهم "جاهليين". فالإخوان الذين اعتنقوا هذه المفاهيم، يعملون على عزل أنفسهم عن الثقافة الغربية والعلمانية، ويقيمون بدلًا منها مجتمعات موازية ومنعزلة، متناغمة مع القيم الإسلامية الصارمة. حيث يفرض الإخوان سياجًا حديديًا على أعضائهم، لعزلهم عن التأثيرات الفكرية والسلوكية للمجتمعات المحيطة.
كما تبرّر خطابات التمييز الاجتماعي بين الإخوان باعتبار أنّهم الأخيار وحدهم، وأنّهم المؤمنون المتجانسون فكريًا، وهم الأحق ببناء المجتمع المستقبلي.