تحلّ اليوم الذكرى المئوية لإعلان قيام إمارة شرق الأردن، وتأسيس الدولة الأردنية، عام 1921، التي شكّلت حالة فريدة ضمن السياق العربي والإقليمي؛ إذ استطاعت الحفاظ على قدر عالٍ من الاستقرار، وتحقيق قدر مهم من المنجزات والمكتسبات، وذلك رغم قلّة الموارد وحجم التحديات المحيطة.
الباحث محمد أبو عريضة لـ"حفريات": بعد عام 1990 انتهى وجود الحرفيين والمزارعين تقريباً بالأردن، وحدث تحول عميق نحو نمط استهلاكي أكثر ترفاً
تطوّرات ما قبل التشكّل... السياق السياسي
على الصعيد السياسي، جاء تشكّل إمارة شرق الأردن، عام 1921، في أعقاب قيام الحرب العالمية الأولى (1914-1918م)، والتي تخللها قيام الثورة العربية الكبرى (عام 1916م)، وما نجم عنها من انهيار الدولة العثمانية وخسارتها أراضيها في منطقة الهلال الخصيب، وما صاحب ذلك من توقيع اتفاقية سايكس بيكو السرّية، بين فرنسا وبريطانيا (عام 1916م)، واتفاقهما على تقسيم تركة الدولة العثمانية في مناطق الهلال الخصيب وجنوب وشرق الأناضول.
ومن ثمّ جاء الإعلان عن إقامة الحكومة العربية في كامل سوريا الطبيعية، وإعلان تقليد فيصل ابن الشريف حسين ملكاً عليها، في نيسان (تموز) 1920م، قبل أن تقوم القوات الفرنسية باحتلال سوريا وإسقاط حكومة الملك فيصل، بعد معركة "ميسلون"، في تموز (يوليو) من ذلك العام، وفي شرق الأردن أعقب سقوط حكم الملك فيصل فترة من "خلو الحكم".
في تلك الأثناء كانت المساعي الصهيونية تضغط لضمّ شرق الأردن إلى مشروعها في فلسطين، واعتبار منطقة شرق الأردن جزءاً من فلسطين المشمولة بوعد بلفور، القاضي بإنشاء وطن قومي لليهود فيها، وقد جابه وزير الخارجية البريطاني، اللورد جورج كورزون، تلك الطموحات، ووجّه المفوّض البريطاني السامي في فلسطين، هربرت صموئيل، للحيلولة دون ذلك، والعمل على إنشاء حكومات في شرق الأردن.
وفي آب (أغسطس)؛ وصل صموئيل إلى السلط، كبرى مدن شرق الأردن آنذاك، وأعلن أمام وجهائها أنّ الحكومة البريطانية قررت جعل إدارة شرق الأردن منفصلة عن إدارة فلسطين، وأنّ المستشارين البريطانيين سوف يساعدون في إنشاء حكومات محلية في أنحاء البلاد، فكان أن تبع ذلك تأسيس 6 حكومات في منطقة عجلون، وحكومة في البلقاء، وحكومة في الكرك، وحكومة في الطفيلة، واستمرت هذه الحكومات فترة أشهر فقط قبل أن تنضوي جميعها تحت سلطة وحكم إمارة شرق الأردن، بعد الإعلان عن تأسيسها، في نيسان (أبريل) 1921.
السياق الاجتماعي في مرحلة ما قبل التأسيس
من أجل فهم أعمق لسياق نشأة إمارة شرق الأردن، كان لا بدّ من العودة إلى الجذور الاجتماعية. فالباحث في التاريخ الاجتماعي، ومؤلف كتاب "أسرار عمّان: تحقيقات في ذاكرة المدينة"، محمد أبو عريضة، يبيّن في حديثه لـ "حفريات"، السياقات الاجتماعية - الاقتصادية في منطقة شرق الأردن، قبل تأسيس الإمارة (عام 1921م): "لقد كان هناك 3 أو 4 حواضر في شرق الأردن، وهي: الكرك، والسلط، وعجلون، ومعان، لكن لأنّها كانت على سَيْف البادية. كانت أقرب للتكوين الاجتماعي البدوي، هذه الحواضر، وبحكم التقسيم التاريخي الأفقي لبلاد الشام، كانت مرتبطة بحواضر أخرى في فلسطين، فعجلون كانت شقيقة جنين والناصرة، والسلط شقيقة نابلس، وكذلك الكرك والخليل".
ويتساءل: "لكن متى بدأت التحوّلات بشكل متسارع في شرقي الأردن؟ حدث ذلك تقريباً بُعَيْد منتصف القرن الـ 19، أو بالتحديد عام 1858م، مع إقرار وتفعيل قانون "الطابو" العثماني (قانون ملكية الأراضي الفردية)، وكان من أسباب إقرار القانون أنّ أكبر مشكلة كانت تواجه الدولة العثمانية في شرق الأردن هي سلامة قافلة الحج الشامي، والتي كانت تتعرّض للغزو والسلب، وكان نفاذ القافلة وسلامتها له أبعاد سيادية ودينية بالنسبة إلى الدولة، إذ إنّ أمان الطريق دلالة على سيادة الدولة ضمن أراضيها، وهنا جاء قانون الطابو العثماني ليعطي زعيم القبيلة 500 دونم، وزعيم العشيرة 100 دونم".
يتابع أبو عريضة: "دفع هذا القانون بعض القبائل لأن تتوطّن على سيف البادية، فحدث التحوّل من نمط البدو الرحل إلى الاستقرار والتوطّن، وتحوّل جزء منهم من رعي الماشية إلى زراعة الحبوب، ومن ثمّ تبعت ذلك تغيرات لاحقة؛ من بناء البيوت، والاشتغال بالتجارة، والذهاب إلى الأسواق في الحواضر القريبة؛ فمثلاً أهل البلقاء كانوا يذهبون للتبضع والمتاجرة في أسواق القدس.
وربما كان أفضل من صوّر هذه التحوّلات أدبيّاً هو طاهر العدوان، في روايته "وجه الزمان"، ومن ثمّ جاء التحوّل الاجتماعي التالي مع قرار الدولة العثمانية إرسال بعض العائلات التي لديها خبرات زراعية، وكانوا من الشركس الذين كانوا يتعرّضون للبطش من قبل الروس، فأرسلتهم إلى شرق الأردن، وهناك أقاموا عدة مستوطنات، كانت من بينها عمّان، التي توطّنوا فيها عام 1878، وبذلك بدأ عدد الحواضر يزداد شرق الأردن، تلا ذلك تحوّل آخر مهمّ، تمثّل في إنشاء الدولة العثمانية خطّ سكة حديد الحجاز (من دمشق إلى المدينة المنورة)؛ حيث أصبحت المحطات أنوية لتجمعات حضرية قامت حولها، على امتداد شرقيْ الأردن".
أمّا بخصوص الهوية والتركيبة الحضارية التي ميّزت منطقة شرق الأردن، فتقول الدكتورة هند أبو الشعر، الأديبة والمؤرخة، ومؤلفة كتاب "تاريخ شرقي الأردن في العهد العثماني"، في حديثها لـ "حفريات": "تشكّلت تركيبة المجتمع الأردني بصورة تراكمية، وما نراه اليوم على أرض الأردن لا يرتبط بمرحلة تاريخية واحدة ولا بحدث سياسي أو اقتصادي أو إداري، وإنما يمثل تركيبة حضارية تقوم أساساً على وحدة بلاد الشام التي استمرت عبر العصور، ومن المعروف أنّ حركة أهالي بلاد الشام يومية، وموسمية أيضاً، قامت على قوافل التجارة وقافلة الحج الشامي".
د. هند أبو الشعر لـ"حفريات": الدولة الأردنية التي قامت على حلم تشكيل دولة عربية واحدة في المشرق العربي، تمثل خلاصة تطلعات رجالات النهضة العربية
وتضيف: "كان الحراك السكاني من شرق الأردن إلى حواضر سوريا وفلسطين، أو حراك أهالي حواضر بلاد الشام من دمشق، وحلب، وحمص، ومن سهل حوران وجبل العرب، ومن جبل لبنان، ومن بيروت، وطرابلس، وبعلبك، ومن كلّ أجزاء فلسطين، إلى أراضي شرق الأردن دائماً، ممّا أدى إلى تكوّن مجتمع متنوع، كما أنّ أراضي الأردن تعرّضت لهجرات خارجية كبيرة، ومنها هجرة أهالي القوقاز، من شراكسة وشيشان، وداغستان، وأرمن، في القرن الـ 19 ومطلع القرن الـ 20".
قيام الإمارة
وصل الأمير عبد الله (ابن الشريف حسين) بالقطار إلى معان (جنوب الأردن اليوم)، بتاريخ 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 1920، وكان السبب المعلن لوصوله إلى بلاد الشام هو استرداد مُلك أخيه فيصل. إثر ذلك، خاطبت الحكومة الفرنسية الحكومة البريطانية لممارسة ضغوطها على الشريف حسين لإيقاف ابنه عبد الله، وقد استجابت بريطانيا وقامت بالتوسّط لدى الشريف حسين لمنع الأمير عبد الله من التقدم، وذلك مقابل التزام بريطانيا بإقامة حكم لأهالي شرقيّ الأردن تحت حكم الأمير عبد الله. وبناء عليه، تمّ إيفاد وزير المستعمرات ونستون تشرشل لمقابلة الأمير عبد الله في القاهرة، في 12 آذار (مارس) 1921، وهناك تمّ الاتفاق على تأسيس الإمارة، وبالفعل، وفي 11 نيسان (أبريل) 1921، أعلن قيام إمارة شرق الأردن، وبذلك حُلّت الحكومات المحلية، واندمجت في ظلّ حكومة واحدة هي حكومة إمارة شرقي الأردن.
إمارة الشرق العربي
تسمّت الإمارة الناشئة بـ "إمارة الشرق العربي"، وتعليقاً على هذا الاسم ودلالاته، يقول الدكتور زيدان الكفافي، أستاذ علم الآثار ورئيس جامعة اليرموك السابق، وصاحب مؤلّفات: "الأردن في العصور الحجرية"، و"الأردن في العصور القديمة"، لـ "حفريات": "بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى خسرت الدولة العثمانية أراضيها في منطقة الهلال الخصيب، وفي الوقت نفسه كانت هناك حركة النهضة العربية وثورة الشريف حسين، وكان من المؤمل أن تكون هناك دولة عربية موحدة على كامل المشرق العربي، وهو ما جاء بداية مع تأسيس المملكة العربية السورية برئاسة الملك فيصل، حيث كان الهاشميون هم من قام على تأسيسها، وكانت أول دولة تؤسس على أراضي سوريا الطبيعية، إلّا أنّ هذا المشروع واجه مجابهة استعمارية من قبل بريطانيا وفرنسا، فقد قضوا على هذا التوجه وهذا الأمل، ومن ثم كان قيام إمارة شرق الأردن، والتي تسمّت باسم إمارة الشرق العربي، استئنافاً للمشروع العربي؛ إذ حمل هذا الاسم دلالات على أنّها كانت دولة قومية عربية بالمقام الأول".
التحولات الاجتماعية - السياسية المصاحبة لتأسيس الدولة
نتج عن تأسيس الدولة الأردنية، عام 1921، تحوّلات عميقة في البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية شرق الأردن. ويرى أبو عريضة أنّ التحوّل الأهم تمثّل في أنّه "قبل قيام الدولة الأردنية كانت السلطة السياسية بيد العشائر، فكان كُلّ زعيم عشيرة لديه سجن، وكان الآمر الناهي في عشيرته، وهو الذي يحكم، ويطرد، وينفي، ويقرّب، ولمّا قامت الدولة، كان لا بُدّ من تأسيس عقد اجتماعي جديد، بحيث تنازلت العشائر عن جزء من سلطتها لصالح الدولة، مقابل أنّ الدولة تحافظ على أمنها وكينونتها".
أمّا على المستوى الاقتصادي، فيوضح أبو عريضة أنّ "التحوّل الأهم تمثّل في زيادة الحاجة للنقد والاعتماد عليه في المعاملات، وانتهاء كافّة أشكال الاقتصاد البضاعي التبادلي"، ويشير إلى أنّ "التحوّل من الاقتصاد البضاعي إلى الاقتصاد النقدي كان قد بدأ منذ منتصف القرن الـ19، مع بدايات توطّن البدو، وبالتزامن مع نمو المصابن في نابلس إثر التحوّل نحو زراعة الزيتون في فلسطين بشكل موسّع، والتخلي عن زراعة القطن، عقب تطور تلك الزراعة في مصر، وكان البدو يجلبون نبات "الحمض" المنتشر في بادية الشام، وهو اللازم في صناعة الصابون، ومن ثم يبيعونه مقابل ثمن نقدي لمصابنيّة نابلس، ما وفّر النقد بين العشائر. ومع تأسيس الدولة زادت الحاجة للنقد وأصبح هو الخيار الوحيد في التعاملات وانتهت كافّة أشكال المقايضة".
د. زيدان كفافي لـ"حفريات": لا شكّ في أنّه لا بدّ من تطوير المنظومة التشريعية، ووجود تشريعات جديدة تحكم كيفية مواكبتنا للتطوّرات
مرحلة البناء
استتبع تأسيس الدولة الانتقال إلى مسيرة ممتدة من البناء الشامل. ويرى الدكتور زيدان الكفافي؛ أنّه "مع وجود دولة كان لا بُدّ من وجود مؤسسات، وكانت في مقدمتها مؤسسة الجيش، الضامنة للأمن والاستقرار في البلاد، ومن ثم كانت الثورة الشاملة على صعيد التعليم وتأسيس المدارس ومحو الأميّة؛ إذ إنّ الناس قبل قيام الدولة كانوا يتوجهون إلى الكتاتيب، وبأعداد قليلة جداً، وكان الشائع أنّ الناس لا يتعلمون في الغالب. وفي عهد الملك طلال تحقّق المنجز القانوني الأهم المتمثّل في المصادقة على الدستور (عام 1952)، وفي عهد الملك حسين كان الشعار "الإنسان أغلى ما نملك" هو العنوان، وتجسّد في التركيز على الطاقة والموارد البشرية، وتأهيل الإنسان لخدمة الوطن، فكان النهوض والتوسّع بالمؤسسات الصحية والتعليمية، بما في ذلك إنشاء الجامعات، بداية من الجامعة الأردنية، التي افتتحت عام 1962".
ويؤكد كفافي؛ أنّ "وجود القيادة السياسية الحكيمة هي الأساس في استمرارية بناء الوطن، وهي قيادة مقبولة جداً من قبل جميع الأطراف المحلية، وأيضاً دولياً لها شأن كبير، ولا أدلّ على ذلك من جنازة الملك حسين، التي جمعت الزعماء والقادة من حول العالم".
الدكتور المؤرخ جورج طريف، يلخص في حديثه لـ "حفريات"، مسيرة البناء الممتدة على عهد 4 ملوك: "الأمير عبد الله الأول بذل جهوداً مضنية لتأسيس الدولة الأردنية على نهج الحداثة والنهضة، تحقيقاً للأهداف التي كانت تسعى لها الثورة العربية الكبرى، واستطاع تحقيق الاستقلال عام 1946، ويُعدّ الدستور الأردني، الذي صدر عام 1952، من منجزات الملك طلال، وتحقق الكثير من الإنجازات على مختلف الصعد في عهد الملك الحسين، إذ شهد الأردن نهضة علمية وصحية وعمرانية واقتصادية كبرى، حتى أطلق على الحسين "الملك الباني"، وذلك رغم ما شهده الأردن من تحديات محلية، وإقليمية عديدة؛ مثل حرب العام 1967، والحرب العراقية-الإيرانية، وحروب الخليج، خلال فترة حكمه، ويسير الأردن في عهد الملك عبد الله الثاني على نهج والده في البناء والتقدم، وخصوصاً في المجالات العلمية والتكنولوجية، وقد استطاع تجاوز تداعيات احتلال العراق (عام 2003)، والحرب على الإرهاب، وأحداث الربيع العربي".
د. جورج طريف لـ"حفريات": اللحظة التي تمثلها مئوية الدولة الأردنية تحمل معاني الكبرياء والاعتزاز بما تحقق من منجزات وطنية في شتى الحقول
7 عقود من التحوّلات المتواصلة
استمرت التحوّلات الاجتماعية المتسارعة في مرحلة ما بعد استقلال المملكة الأردنية (عام 1946)، بحسب أبو عريضة: "حيث صاحبت استقلال المملكة، وما تلاها من أحداث نكبة عام 1948، ومعاناة الهجرة واللجوء، والمد القومي خلال الخمسينيات والستينيات؛ إذ صار ابن المدينة يتعامل مع طيف أوسع من الناس، وحدثت تحولات مركّبة، اجتماعية وثقافية واقتصادية، مع ظهور مهن وخبرات جديدة، وكذلك ظهور أيديولوجيات ومنظومات فكرية مستجدّة أوجدت انقسامات وشروخاً عمودية داخل النخب والمجتمع".
ويتابع أبو عريضة: "عام 1974؛ طرأ تحوّل آخر مهم، تمثّل في تضاعف أسعار النفط عقب قرار الدول العربية المنتجة للنفط حظر تصدير النفط أثناء حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، ما أدّى إلى تشكل فائض نقديّ هائل بقيمة تلك الأيام، هذا الفائض وصل إلى الأردن عبر المساعدات وعبر حوالات العاملين في دول الخليج، الذين تضاعفت أعدادهم، كلّ ذلك صنع تراكمات نقدية، وأبعد الناس أكثر وأكثر عن الزراعة، وأصبح العمال الزراعيون بالأردن يأتون من مصر، وكذلك عمال البناء، بعد أن كان البناؤون المحليون هم فقط من يعملون بالبناء، كلّ هذا حصل بسبب الطفرة النفطية وآثارها، وترتّب على ذلك تشكّل نمط استهلاكي؛ إذ بات سكان الأردن يعيشون ضمن نمط معيشة دولة نفطية مع أنّ الدولة لا تنتج النفط".
اقرأ أيضاً: مئوية الدولة الأردنية.. عقود من الصبر والإنجاز
بالوصول إلى عقد التسعينيات، يقول أبو عريضة: "جاءت الهزّة الأخرى الكبيرة، عام 1990، مع احتلال العراق للكويت، ومغادرة 400 ألف أردني من الكويت إلى الأردن، جاؤوا بأموالهم وأنماطهم الاجتماعية والمعيشية، وبتنا نرى ظواهر مستجدّة تنتشر، مثل استقدام عاملات المنازل.
ويمكن القول إنه بعد عام 1990 انتهى وجود الحرفيين والمزارعين تقريباً بالأردن، وحدث تحول عميق نحو نمط استهلاكي أكثر ترفاً، ثمّ جاء تحوّل ما بعد حرب الخليج الثالثة عام 2003، مع هجرة العراقيين بأعداد كبيرة، ونسبة كبيرة منهم كانت من الفئات المقتدرة مادياً، ما عزّز من الأنماط والمظاهر الاستهلاكية، ومن ثمّ بدأت تظهر بوادر الأزمات الاقتصادية الخانقة، في ظلّ تداعيات الأزمة المالية لعام 2008، وما تبعها من تبعات سياسية، كان من بينها أحداث ما سُمّي "الربيع العربي" (عام 2011)، وترافق كلّ ذلك مع شيوع وسائل التواصل والانفجار الإعلامي والمعلوماتي، كلّ ذلك أدّى إلى خلخلة أعمق أعماق بنى المجتمع الأردني، النفسية والثقافية والاجتماعية".
من جهة أخرى، ترى الدكتورة هند أبو الشعر؛ أنّ الهجرات كانت أحد أهمّ عوامل تشكيل المجتمع الأردني، وتبيّن أنّ "الهجرة الكبيرة التي غيّرت من واقع المجتمع الأردني كانت هجرة الأهل من فلسطين عام 1948، عندما اقتلعت دولة إسرائيل الجديدة الشعب الفلسطيني من أرضه، وتبعتها هجرة عام 1967، ولم تتوقف الهجرات في النصف الثاني من القرن الـ 20 من البلدان العربية المحيطة بالأردن؛ من العراق، ولبنان، وسوريا، وليبيا، واليمن، وقد فتح الأردن أرضه لاستيعاب كلّ هذه الهجرات".
وتضيف أبو الشعر: "بالتأكيد الدولة الأردنية التي قامت على مبادئ النهضة العربية الكبرى، تستوعب كلّ هذه المتغيرات؛ لأنّ الثورة العربية الكبرى قامت على وحدة سوريا، وحلم تشكيل دولة عربية واحدة في المشرق العربي، هذا المجتمع الذي تشكل على أرض الأردن يمثل خلاصة لتطلعات رجالات النهضة العربية الذين عملوا مع الشريف حسين بن علي والأمير فيصل، والأمير عبد الله بن الحسين، تحقيقاً للنهضة العربية وحلم الوحدة في دولة المشرق العربي".
اقرأ أيضاً: الأردن: مسيرة ديمقراطية وظروف صعبة
إلى أين؟
يصف الدكتور جورج طريف اللحظة التي تمثلها مناسبة مئوية الدولة بأنّها "تحمل معاني الكبرياء والاعتزاز بما تحقق من منجزات وطنية في شتى الحقول؛ الاقتصادية، والاجتماعية، والتعليمية، والصحية، تعزّزت فيها قيم المحبة والأخوة بحرص واهتمام من القيادة والشعب، رغم التحديات الخارجية والصعوبات الداخلية التي واجهت قيام الدولة، يأتي في مقدمتها شحّ الموارد، وبشكل خاص في مجالي المياه والطاقة، وانتشار الأميّة، في الوقت الذي كانت فيها منطقة شرق الأردن تخضع للانتداب البريطاني الذي كان يسعى لتنفيذ سياسته الرامية إلى إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وتسخير كلّ إمكاناته لتحقيق هذا الهدف".
أمّا عن المستقبل، فيتساءل الدكتور زيدان كفافي: "هل نبقى على ما نحن، أم يجب أن نتطور مع تطور العلم الحديث، خاصة مع الثورة الرقمية؟ لا شكّ في أنّه لا بدّ من تطوير المنظومة التشريعية، ووجود تشريعات جديدة تحكم كيفية مواكبتنا للتطوّرات. الآن، ونتيجة للجائحة، تغيّر التعليم في كلّ العالم، وانتقلنا للتعلّم الإلكتروني عن بُعد، وهو ما يلزمه أيضاً تطوير للأدوات والبنية اللازمة لذلك، وقد قطعنا شوطاً في ذلك.
لقد دخلنا المئوية الثانية بقدم جديدة فعلاً، ونحن في حاجة إلى التواؤم مع هذه التطورات، لكن يبقى التساؤل: من الذي سيقوم بالتنفيذ؟ هل هم الشباب، أم الخبرات؟ ويبقى المؤكّد أننا في حاجة إلى صياغة تصوّر جديد يضمن التطوّر المستمر للدولة الأردنية في مئويتها الثانية".