هل تولّى العرب مناصب قيادية في الدولة العثمانية؟

هل تولّى العرب مناصب قيادية في الدولة العثمانية؟


31/12/2020

جاء اسم الدولة العثمانية نسبة إلى الأسرة الحاكمة فيها، ولم يكن بذلك معبّراً عن عرق بعينه، إلا أنّه دائماً ما أقيم الارتباط بينها وبين العنصر التركي حصراً، وعند النظر إلى العنصر العربي، أحد أكبر مكونات تلك الدولة، فإنّه عادة ما ينظر إليه باعتباره كان دائماً في موقع المحكوم، لكنّ شيئاً من الحفر في التاريخ، يظهر لنا أسماء عدّة لقادة عرب تولوا مناصب قيادية في الدولة، ونذكر تالياً قصة وخبر خمسة من أبرزهم:

 

أحمد عزت باشا العابد.. أمين سرّ السلطان
ولد العابد بدمشق، عام 1852، وبدأ عمله كاتباً في مجلس إدارة ولاية دمشق، ثم ما لبث أن تولى رئاسة محكمة التجارة المختلطة في دمشق، ترقى العابد بعدها إلى أن تولى رئاسة محكمة الحقوق بسوريا، وبعدها عُين رئيساً لجميع المحاكم في بلاد الشام، لينتقل بعدها إلى أقصى غرب الدولة، ويعين مفتشاً عاماً لمحاكم ولاية "سلانيك"، نُقل بعدها إلى العاصمة إسطنبول، رئيساً لمحكمة الاستئناف بها، ثم رُقِّي ليصبح رئيساً لمحاكم التجارة المختلطة فيها.

اقرأ أيضاً: بنو عثمان والتُرك.. مقدمات الطوفان العثماني
في إسطنبول؛ أصبح العابد واحداً من أقرب المقربين للسلطان عبد الحميد الثاني، وعينه عضواً في مجلس شورى الدولة، ثم جعله السلطان ثاني أمناء سرّه، وأنعم عليه برتبة "الوزارة"، أعلى رتبة في الدولة العثمانية، ووصفه السلطان في مذكراته، قائلاً: "الصديق الحميم الذي وجدته في النهاية". 

تحت لواء الجيش العثماني قاد السعدون حملات عسكرية عدّة وكان أبرزها الحملة على الإحساء عام 1871

استمرّ العابد ملازماً للسلطان عبد الحميد حتى الانقلاب عليه وعزله، عام 1909، وفي هذه الأعوام سعى العابد لإقامة وتدشين مشروعات كبرى، على مستوى البنية التحتية في بلاده، سوريا، فكان من أهم المقترحين والداعمين، وبعد ذلك المشرفين على إنشاء خطّ سكة الحديد الحجازي، حتى أنفق عليها من ماله الخاص، وكذلك أشرف على تنفيذ مشروع خط التلغراف بين إزمير وبنغازي، وبين دمشق والمدينة المنورة، كما دعم تنفيذ مشروع مدّ خطّ حافلات الترامواي بدمشق، وإنارتها بالكهرباء.
وبعد خلع السلطان عبد الحميد، عام 1909، غادر إلى مصر، وبقي فيها حتى وفاته، عام 1924، وعام 1932، أصبح ابنه، محمد  العابد، أول رئيس لسوريا بعد قيام الجمهورية فيها.

أحمد عزت باشا العابد وظّف علاقته بالسلطان لدعم العديد من المشاريع المهمّة في بلاده

ناصر باشا السعدون.. الأمير القبلي الذي أصبح والياً
تشكّل حلف "المُنتفق" القبلي في وسط وجنوب العراق منذ دخول الدولة العثمانية وحكمها له، مطلع القرن السادس عشر الميلادي، وكان للحلف أمراء يتعاقبون على حكمه، وكانت علاقتهم مع الدولة العثمانية في إطار التبعية، إلى أن جاء الأمير، ناصر السعدون، ليبرز ويصبح رقماً صعباً في الدولة.

بعد بروزه، عُين أسعد العظم حاكماً على ولاية صيدا ونال لقب الباشا ثم نقل إلى حماه ونال رتبة الوزارة

ولد ناصر السعدون عام 1815، ونشأ في مضارب المنتفق، في كنف عائلة السعدون التي لها إمارة الحلف، وعندما أصبح أميراً كان السياسي العثماني الإصلاحي المشهور، مدحت باشا، قد أصبح والياً على بغداد، عام 1869، فأراد التعامل مع نفوذه المتصاعد من جهة، وإرساء الاستقرار في جنوب العراق من جهة أخرى، وذلك بعد حالة الاضطراب التي عرفها إثر تزايد الغارات والهجمات التي شنتها القبائل القادمة من البادية على مدن وقرى جنوب العراق.
استقدم مدحت باشا السعدون، شيخ المنتفق وأميرها إلى بغداد، فور تولّيه ولايتها، وشرح له رغبته في تحويل مشيخته إلى متصرفية ضمن الدولة العثمانية، وهي رتبة إدارية دون الولاية وأعلى من القائم مقامية، وشمل العرض اقتراح بناء مدينة جديدة تحمل اسمه، لتكون عاصمة المتصرفية الجديدة، فكان أن قبل السعدون العرض، ونال بذلك رتبة الباشوية، وقام بتأسيس مدينة الناصرية جنوب العراق في العام ذاته، 1869، وكان الهدف الأساس بالنسبة للعثمانيين من إنشاء المتصرفية الجديدة هو التصدي لهجمات القبائل، مقابل مدّها بالسلاح والعتاد والمال اللازم.

اقرأ أيضاً: هل كانت الدولة العثمانية فردوس الخلافة المفقود؟
وتحت لواء الجيش العثماني، قاد السعدون حملات عسكرية عدّة، وكان أبرزها الحملة على الإحساء عام 1871، التي هدفت إلى فرض الأمن في أراضي نجد والأحساء، ومساعدة قائم مقامها الأمير عبد الله آل سعود، واستطاعت فرض ومدّ سيطرة الدولة على سواحل الخليج ووصولاً لقطر، كما حاولت السيطرة على جزيرة البحرين، لكن بريطانيا عرقلت ذلك؛ لأنّ السيطرة على البحرين كانت تعني السيطرة على الخليج كله.
وإثر تلك الحملة، تأسست ولاية البصرة، عام 1875، وتم تعيين ناصر باشا والياً عليها، وبعد توسّع نفوذه سمّاه الناس "الأمير الأول"، ما جعل الحكومة العثمانية تخشى اتّساع نفوذه وتوجه نحو الاستقلال، فعزلوه عام 1877، فكان أن حاول التمرد على الحكومة، فاستدرجته إلى إسطنبول بحجة تعيينه وزيراً للسلطة العثمانية، وبعد  وصوله، وُضع تحت الإقامة الجبرية حتى وفاته عام 1885.

ناصر باشا السعدون بعد أن كان شيخاً لحلف قبلي أصبح متصرفاً ووالياً في الدولة

يوسف فرانكو: دبلوماسي محنّك.. ورسام كاريكاتير
حلبي الأصل، قضى معظم حياته بين لبنان وإسطنبول، وتولّى مناصب إدارية عدة، كان أبرزها تعيينه حاكماً لمتصرفية جبل لبنان، عام 1907، وإلى جانب المناصب الإدارية برز اسم فرانكو في فنّ جديد على سكان البلاد في عصره.

كان يوسف فرانكو باشا الحلبي معتمداً من وزارة الخارجية العثمانية في أهم جلسات التفاوض الدولية لإتقانه عدة لغات

ولد يوسف فرانكو باشا في مدينة إسطنبول، عام 1856، لوالد حلبي يعمل في وزارة الخارجية العثمانية، وعندما أصبح عمره سبعة عشر عاماً، سار على خطوات والده وتولى منصباً في وزارة الخارجية، واستطاع يوسف باشا أن يدير أزمة جزيرة "مدللي" (تقع اليوم في اليونان) بذكاء، وهي الجزيرة التي طمعت فرنسا في سلبها من الدولة العثمانية في حينها، وبفضله بقيت الجزيرة عثمانية، فكان أن كرّمه السلطان عبد الحميد الثاني ومنحه لقب "سامي" وعينه حاكماً لمتصرفية لبنان، وكان ذلك عام 1907، وإلى جانب منصبه هذا، ظلّ يوسف فرانكو معتمداً من وزارة الخارجية العثمانية في أهم جلسات التفاوض الدولية، نظراً إلى حنكته الدبلوماسية وإتقانه العديد من اللغات الأوروبية.
ولم يقتصر بروز فرانكو على المستوى السياسي فقط، بل كان رساماً كاريكاتورياً، واعتبر من بين الأبرز في زمنه على مستوى العالم، وتركزّت رسوماته حول تناول الشخصيات الإدارية في الدولة بأسلوب ساخر وناقد، وتشير رسومه إلى أنّه لم يكن من المعارضين للسلطان، وإنّما كان تركيزه على طبقة موظفي الدولة، دون التعرّض لشخص السلطان نفسه.

من رسومات يوسف باشا الكاريكاتورية التي سخر فيها من الطبقة البيروقراطية العثمانية

أسعد باشا العظم.. السياسي المحنّك ورائد العمارة
بدأ حكم أسرة آل العظم في ولاية دمشق، بحدود عام 1717، مع تولّي إسماعيل باشا العظم حكمها وإمارة الحجّ فيها، في ذلك الحين، كان أسعد باشا، ابن إسماعيل، قد بلغ السادسة عشرة من عمره، وحين منحت الدولة العثمانية عمّه سليمان باشا العظم حكم حماه وتوابعها، رافق أسعد عمّه سليمان، وهناك بدأ بروزه في مجال العمارة فأشرف على بناء قصر العظم في حماه، وتعمير الكثير من الدور والخانات والحمامات العامّة.

اقرأ أيضاً: "ممالك النار".. دراما عربية تكشف المسكوت عنه في التاريخ العثماني
وبعد بروزه، عُين أسعد العظم حاكماً على ولاية صيدا ونال لقب الباشا، ثم نقل إلى حماه، ونال رتبة الوزارة وأصبح حاكماً لها عام 1743، قبل أن يعين في العام نفسه والياً على دمشق بعد وفاة عمّه سليمان باشا العظم.
خلف أسعد باشا عمه سليمان باشا العظم في ولاية دمشق، لتزدهر وتنشط حركة العمارة والتجارة في المدينة، وليصبح من كبار ولاة الدولة العثمانية في عهد السلطان العثماني، محمود الأول، وكان من أبرز آثار وأعمال أسعد باشا التي اشتهر بها، المنجزات المعمارية، وأشهرها بناء قصر العظم بجوار المسجد الأموي، وخان أسعد باشا في سوق البزورية الدمشقي، أما على الصعيد العسكري؛ فقد شارك في التصدي لأمير الجليل، ظاهر العمرو.

قصر العظم في دمشق الذي بناه أسعد باشا

سامي باشا الفاروقي.. آمر اللواء الموصلي
برز اسمه على الصعيد العسكري مع مطلع القرن العشرين، مع وصوله إلى رتبة آمر اللواء وقيادته عدداً من الحملات العسكرية داخل الدولة وعلى تخومها، ولد سامي باشا في مدينة الموصل شمال العراق، عام 1847، وهو من الأسرة الفاروقية العمرية إحدى أعرق عائلات المدينة.
انتسب سامي الفاروقي إلى السلك العسكري وتخرج من الكلية الحربية العالية في إسطنبول برتبة ضابط "أركان حرب"، وتخطى مراحل الترفيع في الخدمة ووصل إلى رتبة فريق أول، ومن ثم أصبح آمر لواء، تحت الإمرة المباشرة للصدر الأعظم في الدولة العثمانية.
وكانت الحملة العسكرية الأولى التي قادها سامي باشا، تلك التي توجهت، عام 1906، لنجدة ابن الرشيد،  أمير نجد، فقاد فرقة عسكرية سارت من بغداد إلى حائل، وكانت مهمة هذه الحملة الوقوف إلى جانب آل رشيد في حربهم مع آل سعود، إلا أنّ الحملة فشلت في تحقيق هدفها؛ بسبب تمكّن آل سعود من قطع الطريق عليها والاستيلاء على المؤونة والذخيرة المرسلة لآل رشيد.
وفي عام 1910؛ قاد الفاروقي حملة إعادة النظام والسيطرة على تمرد الدروز في السويداء وجبل العرب. وبعدها، وفي العام نفسه، توجه على رأس حملة إلى الكرك، إثر تصاعد أحداث الاضطراب فيها، التي تصاعدت بسبب تصرفات قائم مقامها، صلاح الدين بك، فسار سامي باشا إليها، وبسط سيطرة الدولة عليها من جديد.

اقرأ أيضاً: تركيا في القرن الأفريقي: حنين العثمانيين الجدد للهيمنة

ويرى الأستاذ شعبان صوّان، الباحث في التاريخ العثماني، ومترجم كتاب "البلدان العربية في ظلّ الحكم العثماني؛ 1516-1800" لمؤلفته جين هاثاواي، في تعليقه لـ "حفريات" حول مسألة تولي العرب المناصب القيادية في الدولة العثمانية؛ أنّه "عند الحديث عن إدارة الدولة العثمانية لا يمكننا تمييز قومية فوق أخرى"، وهنا يستشهد الأستاذ بأقوال مؤرخين أجانب، ومنها قول المؤرخ الأمريكي، زاكري كارابل في كتاب "أهل الكتاب: التاريخ المنسي لعلاقة الإسلام بالغرب"، يقول: "هيئة الإدارة البيروقراطية العثمانية، بدورها، لم تمارس التمييز بناء على الدين أو العرق، كان ثمة خليط عجيب من التتار، والصرب، واليونان، والعرب، والبربر، والأقباط، والأرمن، واليهود، ومن المسلمين السنّة والشيعة، والدروز، والنوبيين، والسلاف، والهنغار، والكرج الجورجيين، وبالطبع من الترك، يؤلفون جميعاً مهرجاناً من اللغات والعادات والطقوس".
ويضيف الأستاذ: "في كتاب "مرآة الشام: تاريخ دمشق وأهلها" وضعنا مؤلفه الأستاذ عزيز العظمة، أخو الشهيد يوسف العظمة، أمام تطبيق عملي على الجانب العربي من الدولة العثمانية في عهدها الأخير، فعدّ عشرات الوزراء والعسكريين والعلماء العرب الذين نالوا أعلى المناصب في الدولة منذ زمن السلطان عبد المجيد (تولى 1839)، ويقارن ذلك بأسى واضح مع ما ساد في عصر الاستعمار الذي عاش فيه".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية