الزحف البطيء.. كيف بدأ المشروع الصهيوني الاستيطاني في العهد العثماني؟

الزحف البطيء.. كيف بدأ المشروع الصهيوني الاستيطاني في العهد العثماني؟

الزحف البطيء.. كيف بدأ المشروع الصهيوني الاستيطاني في العهد العثماني؟


13/11/2023

تصاعدت عام 1859 أعمال الشغب بين اليهود في مدينة أوديسا الروسية، وجاء ردّ الروس بحملة من القمع، نجم عنها مقتل أعداد من اليهود، ودفع هذا التصعيد باليهود في روسيا إلى البدء بالبحث عن ملجأ آمن، ومكان جديد للاستقرار، وكانت فلسطين، في العهد العثماني، أحد الأهداف المقترحة، فكيف كان الحال في فلسطين آنذاك؟ وهل كانت ثمة ظروف وعوامل مساعدة على استقبالهم؟ وفي أيّ اتجاه تطوّر مشروعهم؟
الملكيات الكبيرة.. العامل المساعد الأهم
طوال قرون، كانت فلسطين، كما سائر بلاد المشرق العربي، خاضعة لنظام الإقطاع العسكريّ؛ يتقاسم مُلكيّة الأراضي فيها قادة عسكريون، وهو ما تطوّر لاحقاً في القرن الثامن عشر إلى الإقطاع المدنيّ، بعد إقرار نظام "المالكانة"؛ الذي أتاح لرجال الدولة والمتنفذين امتلاك الإقطاعيات والقرى.

استطاعت عائلات شاميّة وبيروتيّة أن تستحوذ على مساحات شاسعة في فلسطين خلال القرن التاسع عشر

وبعد حرب "القرم"، عام 1856، ومع استمرار تراجع الدولة، لجأت الدولة العثمانية لإقرار عدد من الإصلاحات، كان من أهمها؛ إصدار قانون "الطابو" (عام 1858) لتنظيم الأراضي وإقرار ملكياتها للأفراد والقضاء على الإقطاع، لكنّ القانون الجديد لم يحقق النتائج المرجوَّة منه؛ إذ إنّ الفلاحين كانوا يخشون أيّ اتصال مباشر مع السلطات التركيّة، وهو ما كان يعني بالنسبة إليهم تجنيد الدولة لأبنائهم في حال تسجيلهم الملكيات بأسمائهم، كما كانوا يخشون فرض المزيد من الضرائب، فعمدوا إلى إنكار ملكيتهم واللجوء إلى الأفنديّة وأصحاب النفوذ، طالبين منهم تسجيل قطع الأراضي بأسمائهم، واعتبار أنفسهم أجراء عندهم في الأرض، فكانت نتيجة القانون الجديد أن تسارعت عملية تركيز الأراضي بأيدي قلّة من فئة كبار المُلّاك.

 

مُلّاك كبار.. من خارج فلسطين
يشير الباحث الألماني، ألكزاندر شولش، في كتابه "تحوّلات جذريّة في فلسطين؛ 1856-1882"، إلى أنّ النصف الثاني من القرن التاسع عشر شهد تحوّلات اقتصاديّة واجتماعيّة مهمّة في فلسطين وبلاد الشام، بفعل تضاعف حجم الرأسمال الأجنبي وتحوّل البلاد إلى مصدر لتزويد الصناعة الأوروبيّة بالمواد الخام، وهو ما نجم عنه ورافقه نشوء فئات من البرجوازية التجاريّة والماليّة، خاصّة في المدن الساحليّة، وقد استحوذت نسبة منهم على مساحات شاسعة من الأراضي المحيطة بالمدن، لا سيّما في فلسطين المعروفة بازدهار النشاط الزراعي فيها آنذاك، وكان الاستحواذ يتم عن طريق الشراء المباشر أو الربا، مستفيدين من تشريعات الأراضي الجديدة؛ وهكذا استطاعت عائلات شاميّة وبيروتيّة أن تستحوذ على مساحات شاسعة في مناطق شمال فلسطين والسهل الساحلي منها.

تعود عملية الاستملاك الأولى المقترنة بالنشاط الاستيطاني اليهودي إلى عام 1878

ووفق ما وثّقه أكرم حجازي، في كتابه "الجذور الاجتماعيّة للنكبة؛ 1858-1948"، فقد امتلكت العائلات اللبنانية حوالي نصف مليون دونم في فلسطين، وكانت أشهرها عائلات: شهاب، فرح، سلام، سرسق، طيّان، دبكي، مارديني، وغيرها، أما العائلات الشاميّة؛ فتملّكت نحو (60) ألف دونم، وأشهرها: العمري، فاعور، شامان، فضل، ورثة الأمير عبد القادر الجزائريّ.
ويصف الرحالة الإنجليزي، لورانس أوليفانت، في رحلته إلى بلاد الشام عام 1880، حجم أملاك عائلة سرسق، فيقول: "هؤلاء البنكيّين كانوا يحكمون ما يزيد على خمسة آلاف شخص، يعيشون في ثلاثين قرية".
وكانت مثل هذه الفئات الثريّة من الملاكين تعيش في المدن بعيداً عن الأرياف، ولم يكونوا يعملون بالزراعة مباشرة، وإنما كانوا يستعينون بوكلاء لرعاية أعمالهم؛ لذا فإنّهم عند قدوم المهاجرين اليهود، وتقديم المؤسسات الصهيونية بالعروض المغرية لشراء الأراضي منهم؛ فإنّهم لم يقيموا أيّة اعتبارات تتعلق بقيمة الأرض وسكانها، وبالأبعاد والمحاذير السياسية، وإنما كان يعنيهم الربح والثروة فحسب.

متحف سرسق في بيروت.. وهو منزل للعائلة بني في القرن التاسع عشر وأعيد ترميمه مؤخراً

الصهيونية العمليّة وبداية المشروع الاستيطاني
بعد اغتيال القيصر الروسي، ألكساندر الثاني، عام 1881، واتهام اليهود بالوقوف وراء الحادثة، قامت مجموعات من المسيحيين بالهجوم على تجمعات اليهود في عدد من المدن الروسيّة، وقاموا بحرق المنازل وتشريد أعداد كبيرة منهم، وفي عيد الفصح، بتاريخ 15 نيسان (أبريل) 1881، توجهت وحدات من الجيش القيصريّ لإخماد أعمال شغب قام بها اليهود غرب البلاد، سرعان ما تحوّلت إلى حملة للإبادة، وتلتها مجزرة أخرى مع ثورة اليهود في كييف (عاصمة أوكرانيا اليوم) بعدها بأيام.

خطّط المهاجرون اليهود الأوائل لخلق تجمعات أولى من الممكن أن تؤدي إلى إقامة مقاطعات يهوديّة ذاتية الحكم

وعام 1882؛ أصدرت القيصريّة قانوناً خاصاً، عُرف بـ "قانون مايو"، حظر على اليهود ممارسة أيّ نشاط سياسي، لتتعزز بذلك سياسة التمييز والإقصاء، كلّ ذلك دفع بأعداد كبيرة متزايدة من اليهود للهجرة، وكانت الغالبية العظمى منهم قد اختارت التوجّه إلى الولايات المتحدة، إلّا أنّ نسبة منهم قررت المواصلة في المغامرة الصهيونية، والاتجاه نحو جنوب سوريا، إلى أرض فلسطين، أو ما أسموها "أرض الميعاد".
عُرفت حركة الهجرة اليهودية إلى فلسطين في أواخر العصر العثماني بـ "الصهيونية العمليّة"، وكانت عبارة عن سعي وتخطيط لخلق تجمّعات أولى من الأراضي المملوكة لليهود، والتي من الممكن أن تؤدي إلى تشكيل وإقامة مقاطعات يهوديّة ذاتية الحكم داخل الدولة العثمانيّة، وترافق ذلك مع بداية نشوء مؤسسات صهيونيّة تولّت مهمة استملاك الأراضي في فلسطين، وإنشاء مستعمرات زراعيّة يهوديّة فيها.

اقرأ أيضاً: هكذا استفادت الحركة الصهيونية من تحولات قوانين الأراضي العثمانية
وكانت جمعيّة "أحبّاء صهيون" أولى هذه المؤسسات، وهي عبارة عن تجمّع لمجموعة من المنظمات التي بدأت بالظهور عام 1881، بعد المذابح التي تعرّض لها اليهود في روسيا، وتشكّلت رسمياً كجمعية عام 1884، بعد انعقاد مؤتمر تأسيسي في مدينة كاتوفيتسه الألمانية (تقع في بولندا اليوم)، وعام 1890؛ تأسست في روسيا "لجنة أوديسا من أجل فلسطين" بغرض العمل على دعم مشاريع استملاك الأراضي وبناء المستوطنات في فلسطين، وفي هذه المرحلة أيضاً؛ برزت جهود البارون اليهودي الفرنسي، إدموند دي روتشيلد، الذي بدأ بتمويل عمليات استملاك الأراضي وقدّم الرعاية الكاملة للمستوطنات الزراعية اليهودية الأولى في فلسطين.

المشاركون في مؤتمر كاتوفيتسه الذي نجم عنه تأسيس جمعية أحبّاء صهيون

أولى المستوطنات
توثّق عملية الاستملاك الأولى مع جهود السير البريطاني اليهودي، موسى مونتفيوري، في الخمسينيات من القرن التاسع عشر، عندما قام بشراء قطعة أرض قرب يافا لتكون مكاناً لتدريب اليهود على النشاط الزراعي الإنتاجي، ثم قام بتأسيس نواة الحي اليهودي في القدس، خارج أسوار المدينة القديمة، ولكنّ عملية الاستملاك الأولى المقترنة بالنشاط الاستيطاني تعود إلى عام 1878، عندما اشترى مهاجرون يهود أراضي في قرية ملبّس قرب يافا، أقيمت عليها مستوطنة أطلقوا عليها اسم "فتحة الأمل" (بتاح تيكفا)، لتكون بذلك أول مستوطنة زراعيّة يهوديّة في فلسطين، وبالقرب من يافا أيضاً، اشترى المهاجرون أراضي في قرية "عيون قارة" عام 1882، باعها لهم كلّ من موسى ومصطفى الدجاني، من عائلة الدجاني المتنفذة والغنيّة، وأُقيمت عليها مستوطنة "ريشون لتسيون" (وتعني: الأوائل لصهيون)، وهي كذلك من أقدم المستوطنات التي ما تزال قائمة حتى اليوم.

اقرأ أيضاً: الأطماع العثمانية في الزراعة اليمنية .. أردوغان يعيد محاولات نهب بلاد "سبأ"
وفي العام ذاته كذلك؛ أُقيمت مستوطنة "زخرون يعقوب" على أراضٍ في قرية "زمارين"، ومستوطنة "روش بينا" على أراضٍ في قرية "الجاعونة"؛ وبذلك بدأت عملية الاستملاك وبناء المستوطنات الزراعيّة، وحتى عام 1890 وصل مجموع حيازات اليهود من الأراضي إلى حوالي مئة ألف دونم.

ريشون لتسيون من أقدم المستوطنات تعدّ اليوم أحد أكبر التجمعّات الحضرية المحيطة بتل أبيب

التطوّر إلى مشروع سياسي
استمرّت عمليات الاستملاك وإنشاء المستوطنات الأولى، ولكنها بقيت مشتتة ومكلفة وغير مؤطّرة، حتى عام 1897؛ حين انعقد مؤتمر بازل، المؤتمر الأول للحركة الصهيونية ليعلن بدء مرحلة جديدة من المشروع الصهيوني؛ حيث بات هناك هيكل وإطار سياسي للمشروع، لتبدأ بذلك مرحلة استيطانيّة أشدّ بإشراف "المنظمة الصهيونية العالمية" التي تأسست إثر المؤتمر، ومن انضوى تحتها من مؤسسات ومنظمات صهيونية، أُنشئت لغايات دعم النشاط الاستيطاني في فلسطين، وحشد الدعم والاعتراف الدولي به، فأُنشئت مؤسسات مالية للدعم والتمويل، كان منها: الصندوق القومي اليهودي (كيرن كييمت) عام 1901، ثم تأسس (عام 1902) صندوق الائتمان اليهودي للاستعمار، وفي العام ذاته أيضاً تأسّس البنك البريطاني الفلسطيني في لندن، وفي عام 1908؛ أسّس الاقتصادي الصهيوني آرثر روبين "شركة تطوير أراضي فلسطين"، وهكذا إلى أن تأسست الوكالة اليهودية، عام 1929، لتكون الذراع التنفيذي للمنظمة الصهيونية العالمية.

اقرأ أيضاً: من يسهّل غزو "العثمانيين الجدد" للمغرب ثقافياً واقتصادياً؟
وكان جوهر نشاط المؤسسات المالية يتركز حول توفير الأموال اللازمة لشراء الأراضي في فلسطين، ومن ثم بيعها للمستوطنين بأسعار زهيدة، وعلى أقساط وفترات سداد طويلة.

آرثر روبين أحد أبرز مهندسي عمليات الاستيطان الزراعي اليهودي في فلسطين

ومع قيام الحرب العالمية الأولى عام 1914 توقفت مشاريع الهجرة والاستيطان اليهودي بسبب الحرب، وكان عدد اليهود في فلسطين آنذاك، حسب المصادر الصهيونية، قد وصل إلى نحو (85) ألف يهودي، ووصلت مساحة الأراضي التي بحيازتهم إلى (418) ألف دونم، أقيم عليها (44) مستعمرة زراعية. وبحسب تقارير مكتب الإحصاءات المركزي في الوكالة اليهودية فإنّ نحو 25% من الأراضي التي اشتراها اليهود خلال الفترة (1878-1914) كانت من ملاكين كبار غير فلسطينيين، و25.4% - خلال الفترة ذاتها - من ملاكين كبار فلسطينيين، و37.1% من مصادر أخرى كالحكومة والكنائس والشركات الأجنبية، مقابل 12.5% فقط من الفلاحين الفلسطينيين.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية