لا يكاد يشك مُنصف أو دارس مُطّلع على تاريخ جماعة الإخوان المسلمين في أنّ تلك الجماعة تتخذ من فنّي المراوغة والانتهازية سلاحاً ووسيلة لاكتساب قواعد جديدة في الأوساط السياسية والاجتماعية المختلفة، مع تطعيم هذين الفنّين بفنون أخرى مساعدة؛ كالكذب والخداع والتحايل، وتزييف الحقائق وإطلاق الشائعات والتباكي والنشيج على الأحوال والمآلات.
اقرأ أيضاً: "يثرب الجديدة": الإخوان المسلمون بين منعطفين
ولعل هذين الفنيْن هما أظهر الفنون التي تجيدها تلك الجماعة منذ تأسيسها في مصر على يد حسن البنا، في العام 1928، خصوصاً مع انبهار كثير من الناس بهيئاتهم وشعاراتهم وخطابهم الذي يجمع في طيّاته مزيجاً من الشعارات السياسية والدينية والنفسية، التي تنطلي على الكثير من الأشخاص، ممن لا يُدرِكون أنّ جماعة الإخوان لا ترى في طريقها سوى الوصول إلى كرسي السّلطة، مهما كلّفها الأمر من دمار ودماء، ومهما كانت التحديات.
مراوَغات الإخوان
بعد تنحي الرئيس المصري الأسبق، محمد حسني مبارك، في أعقاب ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني (يناير) 2011، تعهّد الإخوان المسلمون بعدم ترشيح قيادات إخوانية لرئاسة مصر، لكنهم سرعان ما نكثوا عهدهم فقاموا بترشيح نائب مرشدهم، "خيرت الشاطر" أصلياً و"محمد مرسي" مرشحاً احتياطياً، ثم رفعوا –مراوغة- شعارهم الزائف "مشاركة لا مغالبة"، كما لو كانوا مؤمنين بقيم الديمقراطية الحقيقية، وما إن فازوا في الانتخابات الرئاسية حتى انقلبوا على شعارهم، فسعوا إلى تأميم مناحي الحياة السياسية في مصر بشكل لا يسمح لغيرهم بالمشاركة أو إبداء الرأي، ليستحيل شعارهم الزائف هذا إلى وضع مقلوب: "مغالبة لا مشاركة"، وهذا بالطبع أحد المواقف التي تثبت انتهاج تلك الجماعة فن المراوغة والخداع؛ للوصول إلى الحكم، باستخدام مفردات الديمقراطية كلما أحسّوا بأنّ قواعد اللعبة وتكتيكها يستلزم ذلك.
يرفض الإخوان الديمقراطية ومفرداتها السياسية والاجتماعية كلها كتداول السلطة سلمياً والمواطنة واحترام الآخر والحرية الفردية
وهذا ليس أمراً مستحدثاً أو جديداً، لكنه قاعدة رئيسة من قواعد اللعبة السياسية التي يجيدها الإخوان، فهم في حقيقة الأمر يرفضون الديمقراطية ومفرداتها السياسية والاجتماعية كلها، كتداول السلطة سلمياً، والمواطنة، واحترام الآخر، والحرية الفردية، لكنهم يجدون أنفسهم مدفوعين إلى الالتزام الظاهري بذلك كله حين لا يجدون مناصاً من ذلك، فهم في حقيقة الأمر يرون الديمقراطية مظهراً غربياً دخيلاً على الإسلام، بل مظهراً كافراً شِركياً؛ لأنه لا يتسق ومبادئ الإسلام، من وجهة نظرهم؛ إذ إنّهم يعتقدون بمبدأ الحاكمية الذي يرفض أي مظهر بشري من مظاهر الحكم بغير ما أنزل الله تعالى، وهو ما أسّسه مرشدهم الأول حسن البنا، عندما أعلن صراحة في رسالة "المؤتمر الخامس للإخوان"، عام 1938، أنّ منهجهم كله ورسالتهم من الإسلام، وأنّ أي انتقاص من هذا المنهج إنما هو انتقاص من الإسلام ذاته، ما يؤكد أنّ فكرة الحاكمية لها جذور وأصداء عند المؤسس الأول قبل أن يذيعها فيهم سيد قطب.
من البنا إلى الهضيبي
أما عن الانتهازية، فهناك لمحة موجزة في تاريخ تلك الجماعة، تلقي الضوء على مدى ما وصلوا إليه من أفعال ومواقف قائمة على الكذب واستغلال أي فرصة تقرّبهم من سدة الحكم، فعندما قامت ثورة مصر في 23 تموز (يوليو) عام 1952، كان مرشدهم الثاني حسن الهضيبي، الذي منحه الملك فاروق لقب (حسن بك)، في مصيفه بالإسكندرية، وفي اليوم الأول من أيام تلك الثورة رفض الهضيبي إصدار بيان باسم جماعة الإخوان لتأييد الثورة ورجالاتها ومبادئها وأهدافها، قائلاً: إن الله مع الصابرين (..)، ليس بالطبع من باب الإيمان بل من باب التأني والخوف من فشل الثورة، وما يعقب ذلك من مآلات وتبعات يخشاها الرجل، الذي كان حليفاً للقصر وسيده "وليّ النعم" أو "حامي المصحف"، كما جاء على لسان حسن البنا ناعتاً الملك فاروق عام 1937، وبعد أن استتبّ الأمر ومرت بضعة أيام على الثورة مؤذنة برحيل الملك فاروق، غادر الهضيبي مصيفه مسافراً إلى القاهرة قاصداً زيارة رجال الثورة، معلناً تأييده لهم، بعد نحو أسبوع من اندلاع الثورة.
اعتمد الإخوان على مجموعة من الوسائل المراوغة للوصول إلى سدة الحكم والسيطرة على الحياة السياسية ومجالها العام
لا مراء في أنّ جماعة الإخوان اعتمدت طوال تاريخها على طائفة من الوسائل المراوغة حتى تستطيع الوصول إلى سدة الحكم، والسيطرة على الحياة السياسية ومجالها العام، ويبدو سلاح المراوغة –تحديداً- سلاحاً ناجعاً في أيديهم، فكل مواقفهم ومبادراتهم التي يطلقونها بين حين وآخر جزء أصيل من هذا السلاح المعتمد لديهم منذ سنوات التأسيس الأولى؛ فعلى الرغم من أنّ حسن البنا قد أكد مراراً أنّ الإخوان ليسوا حزباً سياسياً، ولا يطمعون في الوصول إلى السلطة، بل هم جماعة دعوية اجتماعية صوفية، بيد أنّه خالف ذلك كله في العام 1945، فدخلوا العمل السياسي من أوسع أبوابه، بذريعة الاختلاف والتنازع السياسي بين الأحزاب، مصرحاً بأنه في حال ما إذا تخلف الزعماء السياسيون عن تولي الأمور فإنّه سيتقدم ليقود الشعب، لتفضحه بعد ذلك تصريحات صهره ووكيله وشريكه في التأسيس، أحمد السكري، التي أكد فيها انتهازية حسن البنا ونفاقه السياسي بحسب الحكومة التي تتولى السلطة، ومدى قربها أو بعدها من القصر والملك، لتثبت كذب تصريحات البنا الأولى ومنهجه الانتهازي في السياسة.
اقرأ أيضاً: دعاة أم قضاة؟ .. الإخوان المسلمون وجدل الذات والموضوع
إنّ أسلحة جماعة الإخوان ليست أسلحة حقيقية ملؤها الرصاص والبارود والدخان فحسب، بل هي أسلحة من ممارسات مراوغة متجذّرة منذ التأسيس، حتى إنها لتغدو قواعد أصيلة في المنهج الإخواني القائم على الزيف والخداع والكذب، ومن قبل ذلك المراوغة والانتهازية السياسية المفرطة.