أبو الأعلى المودودي: الديمقراطية الإلهية وآليات الوصول إلى "التمكين"

أبو الأعلى المودودي: الديمقراطية الإلهية وآليات الوصول إلى "التمكين"


23/07/2018

المنطق التكفيري عند المودودي

إنّ المتخصص في الحركات الدينية المتطرفة، مطالب، أكثر من غيره، بسبر أغوار الفكر التكفيري والوقوف على سياقات تبلوّر هذا الفكر، ومن ثمّ رسم معالم إستراتيجية المواجهة في أبعادها التكتيكية والإستراتيجية بما في ذلك البعد الأبستمولوجي.

وهنا يفترض على الباحث في شؤون الأمن القومي والتخطيط الإستراتيجي، دراسة البيئة التي أنجبت مثل هذه التنظيمات، وكذا الإحاطة بالسياقات التاريخية التي ساعدت على تبلور هذه الظاهرة مع محاولة تلمّس الخيط الناظم الذي أطّر لتطور الفكر التكفيري المتطرف.

ينطلق المودودي في التأصيل لأطروحته الفكرية باعتماد منطق غريب للطرح التأويلي لمجموعة من الآيات القرآنية

إنّ دراسة تمظهرات الفكر المودوديّ (نسبة إلى أبي الأعلى المودودي) ستمكّن الباحث في شؤون التيارات الدينية، بشقّيها؛ السلفي والسياسي، من الوقوف على أحد أهم المراجع الفكرية والسياسية لهذه التنظيمات، والتي أعادت بلورة البناءات الفقهية للمدارس التقليدية التي قعّدت لمنظومة التكفير على قاعدة تقسيم التوحيد، وأنشأت مفاهيم جديدة/ قديمة، مرتبطة بمفاهيم الحاكميّة والجاهليّة التي كانت الملهم الرئيسي للفكر القطبيّ بعد ذلك بسنوات قليلة.

اقرأ أيضاً: المودودي: الحاكمية غطاء الانفصال والتمايز

لقد التقت الأسس الأيديولوجية للتيارات التكفيرية مع البناءات الفكرية لأبي الأعلى المودودي، خصوصاً في الزوايا المرتبطة بـ"المصطلحات الأربعة"، كما اعتبرت كتابات المودودي حول النظرية السياسية في الإسلام مصدر إلهام ودستوراً عملياً لتيارات الإسلام السياسي، وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين، من خلال اعتماد الديمقراطية كآلية من الآليات المتاحة للوصول إلى الحكم بعد استكمال الدعوة والانتشار الأفقي في صفوف الجماهير، ومن ثمّ استثمار هذا الانتشار على مستوى صناديق الاقتراع للوصول إلى الحكومة الإسلامية عبر منظومة "الديمقراطيّة الإلهية"، وفق تعبيرات أبي الأعلى المودودي.

منطق تأويلي غريب ومستبعد

ينطلق المودودي في التأصيل لأطروحته الفكرية باعتماد منطق غريب ومستبعد للطرح التفسيري أو بالأحرى "التأويلي" لمجموعة من الآيات القرآنية محاولاً "تطويعها" لما يخدم طرحه السياسي لنظرية الحكم في الإسلام كما يراها هو؛ فيُسلِّم المودودي بالقول إنّ: "الإله" و"الربّ" و"الدين" و"العبادة" هي أساس المصطلح القرآني وقوامه، والقطب الذي تدور حوله دعوة القرآن، فجماع ما يدعو إليه القرآن الكريم هو أنّ الله سبحانه وتعالى هو الإله الواحد الأحد والرب الفرد الصمد، لا إله إلا هو، ولا ربّ سواه، ولا يشاركه في ألوهيته ولا في ربوبيته أحد، فيجب على الإنسان أن يرضى به إلهاً وأن يتّخذه دون سواه ربّاً، ويكفر بألوهية غيره ويجحد ربوبية من سواه، وأن يعبده وحده ولا يعبد أحداً غيره، ويخلص دينه لله تعالى ويرفض كل دين غير دينه سبحانه"[1].

حسم المودودي مصير جمهور المسلمين وحكم عليهم "بالشرك" وبأنّ "غالبيتهم" خارج نطاق الإسلام

ويمكن أن نربط، بسهولة، بين الطرح الفقهي للمودودي والتأصيلات  الفقهية عند كل من ابن تيمية من خلال عقيدة "تقسيم التوحيد" التي أنتجت لنا مفاهيم الحاكمية والجاهلية عند المودودي.

في هذا السياق، قام تقي الدين بن تيمية بإنتاج اصطلاحات جديدة في الدين لم يسبقه إليها أحد، من خلال اعتبار "لا إله إلا الله" هي نفي وإثبات؛ نفي لأيّ صفة من الصفات الإلهية لغيره تعالى وإثبات الألوهية والربوبية له وحده، وهي المفاهيم التي أنتجت لنا الأضلع الثلاثة لتقسيم التوحيد عند ابن تيمية: توحيد الربوبية، توحيد الألوهية ثم توحيد الأسماء والصفات.

جمهور المسلمين على الشرك!

انطلاقاً من هذا التأصيل، انفرد المودودي بوصم عامة المسلمين، وليس غيرهم، بكلام غاية في الخطورة نورده نصّاً لوضع المتأمل في سياقات فهم المودودي لمبدأ "الحاكمية" حيث يقول: "إذا كان مفهوم تلك المصطلحات غامضاً متشابهاً في ذهن الرجل وكانت معرفته بمعانيها ناقصة، فلا شكّ أنّه يلتبس عليه كل ما جاء به القرآن من الهدى والإرشاد، وتبقى عقيدته وأعماله كلها ناقصة مع كونه مؤمناً بالقرآن، فإنه لن ينفك يلهج بكلمة لا إله إلا الله ويتخذ مع ذلك آلهة متعددة من دون الله...إنه يجهر بكل صدق وإخلاص بأنّه لا يعبد إلا الله تعالى ولا يخضع إلا له، ولكنه مع ذلك يكون عاكفاً على عبادة آلهة كثيرة من دون الله. وكذلك يصرح بكل شدة وقوة أنّه في حظيرة دين الله.. لكن تكون له آلهة كثيرة وأرباب متعددة من حيث المعاني التي وُضعت لها هاتان الكلمتان، والمسكين لا يشعر أصلاً أنّه قد أشرك بالله آلهة وأرباباً"[2].

لعل أخطر ما توصّل إليه المودودي اتّهامه الأمة بعدم الفهم وغياب القدرة على استيعاب تعاليم القرآن الكريم

من خلال هذا الطرح حسم المودودي مصير جمهور المسلمين وحكم عليهم "بالشرك"، وبأنّ (غالبيتهم) خارج نطاق الإسلام؛ حيث لا يخفى على المسلم البسيط أنّ الشرك مرادف للكفر بصريح قوله تعالى: "إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ"[3]. كما أنّ المودودي طرح فكرة تُعتبر من أخطر التأصيلات التي اعتمدتها التنظيمات الراديكالية في تكفير المجتمعات ألا وهي أنّ المسلم يمكن أن يكفر ويخرج عن دائرة الإسلام حتى ولم يشعر بذلك أو يتوفر شرط النية القلبية، ويستدلّون على ذلك بما طرحه المودودي انطلاقاً من تأويل غريب للآية القرآنية الكريمة التي يقول فيها المولى عز وجل: "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ"[4].

أمة جاهلة بالقرآن!

ولعل أخطر ما توصّل إليه المودودي من نتائج فقهية هو اتهامه الأمة بعدم الفهم وغياب القدرة على استيعاب تعاليم القرآن الكريم، ذلك أنّه "قد خفي على الناس معظم تعاليم القرآن، بل قد غابت عنهم روحه السامية وفكرته المركزية لمجرد ما غشي هذه المصطلحات الأربعة الأساسية من حجب الجهل، وذلك من أكبر الأسباب التي قد تطرق لأجلها الوهن والضعف إلى عقائدهم وأعمالهم على رغم قبولهم دين الإسلام وكونهم في عداد المسلمين"[5].

اقرأ أيضاً: حوار متخيّل مع المودودي.. ملهم الجماعات التكفيرية

إنّ المودودي، بهذا الطرح، يصادر حق الأمة في الفهم والاستيعاب ويتأوّل على كلام الله تعالى الذي جعل الدين في متناول جميع البشر على اختلاف تكويناتهم الفكرية وقدراتهم العقلية وإلا سيكون الله تعالى، وحاشاه ذلك، يُحمّل الناس بما لا تطيق. وفي هذا يقول جل وعلا في محكم تنزيله: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ"[6]، حيث يقول ابن كثير في تفسيرها إن الله جلّ شأنه "بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بشرع عظيم كامل شامل لجميع الخلق، فيه هدايتهم، والبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم، والدعوة لهم إلى ما يقربهم إلى الجنة، ورضا الله عنهم، والنهي عما يقربهم إلى النار وسخط الله"[7].

والثابت أنّ تفسيرات المودودي تخالف الحقيقة العلميّة والعقيدة الدينيّة، وهي أنّ هذه الأمة لم تتلقَّ الدين في صورة الكتاب فحسب؛ بل ظلّت تتناقله عبر الكلمات والمعاني والمفاهيم من جيل إلى جيل، وظلت تتوارثها الأجيال، حتى التطبيق العملي أيضاً، فضلاً عن أنّه ينافي وصف الله تعالى لهذا الكتاب بالإبانة والوضوح في غير ما موضع من القرآن.

المودودي نصّب نفسه على معتنقي الإسلام لتنقيته مما قد يعلق به من بقايا الجاهلية الأولى

وفي نقده لكتابات المودودي، يقول المرشد العام الثاني لجماعة الإخوان المسلمين ،حسن الهضيبي، في كتابه الشهير "دعاة لا قضاة": "إنه لمّا كان العرب قبائل شتى متفرقة ومختلفة، ولكل منها لهجتها، لا تجمعها رئاسة أو ثقافة أو معتقدات موحّدة، وكانوا أمة أميّة، ندر فيهم من ألمّ بالقراءة وبالكتابة، يكسوهم الجهل والانحطاط، ليس لهم كتاب أو إحاطة بعلم أو فن.. لمّا كانوا كذلك كان مفهوم كلمات "الإله" و"الرب" و"العبادة" و"الدين" شائعاً بينهم، معروفاً لدى كل امرئ منهم على حد سواء وعلى صفة معينة محددة.. فلمّا نزل كتاب الله بالذكر المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، مشتملاً على البيان الجليّ والإيضاح الشامل، يتعبّد الناس بتلاوته آناء الليل وأطراف النهار، ويجهرون به في صلوات تقام جماعة في المساجد وغيرها، ضاعت تلك المعاني واندثرت، ولم تعد شائعة بين الناس بمثل ما كانت شائعة بينهم في الجاهلية، أيصحّ ذلك وكتاب الله محفوظ بين المسلمين ولو قرأ أيُّهم الفاتحة أو قل هو الله أحد، أو المعوذتين، أو سمعها، لاطّلع وعرف وأبصر ما لم يكن يعرف الجاهليّ عنه شيئاً"[8].

اقرأ أيضاً: "الخلافة والملك" للمودودي: تجميل أزمة تداول السلطة

غير أنّ هذا الردّ لمرشد الإخوان يجب أن يُفهم في سياقه التاريخي، حيث جاء في سياق الردّ على الكتاب الذي نشره سيد قطب "معالم في الطريق"، حيث حاول الهضيبي دفع تهمة التكفير عن الجماعة، رغم أنّ تاريخ صدور الكتاب واكب تأسيس التنظيم الإخواني المسلح، الذي عُرف إعلامياً بتنظيم 1965 أو تنظيم سيد قطب، وكان يخطّط لعمليات تخريبية ضخمة في مصر بمباركة شخصية من حسن الهضيبي وهو المعطى الذي يُقرّ به سيد قطب نفسه في كتابه "لماذا أعدموني؟".

من هذه المنطلقات، بدأ المودودي تأصيلاته الفقهية بإنكار حالة الفهم والإدراك للمفاهيم القرآنية عند غالبية المسلمين وحكم بالجاهلية الدينية ونصّب نفسه وكيلاً عن فهم وتِبيان هذا الدين لمعتنقيه من أجل تنقيته مما قد يعلق به من بقايا الجاهلية الأولى، لتفوز "العصبة المؤمنة" بإفراد الحاكمية لله تعالى وحده.

هوامش:


[1] - أبو الأعلى المودودي: المصطلحات الأربعة في القرآن الكريم. دار الفكر، دمشق. 1967م.ص 4

[2] - المرجع السابق. ص 5/6

[3] - سورة النساء. الآية 48

[4] - سورة التوبة: الآيات 65/66

[5] - المرجع السابق. ص 9

[6] - سورة الجمعة. الآية 2

[7] - تفسير ابن كثير للقرآن الكريم. الجزء الثامن. ص 116

[8] - حسن الهضيبي: دعاة لا قضاة. ص 25


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية