"الخلافة والملك" للمودودي: تجميل أزمة تداول السلطة

"الخلافة والملك" للمودودي: تجميل أزمة تداول السلطة


22/04/2018

"يقول القرآن إن الحاكم الحقيقي للإنسان هو نفسه حاكم الكون، وحق الحاكمية في الأمور البشرية له وحده وليس لأية قوة سواه".. و"أنّه لا بد من اتباع قانونه وحده، وحرام على المرء أن يترك هذا القانون ويتبع قوانين الآخرين أو شرعة ذاته ونزوات نفسه".

يبدأ أبو الأعلى المودودي كتابه "الخلافة والملك" بالتأكيد على مبدأ الحاكمية في كل شأن من شؤون الحياة، داعياً إلى تحكيم شرع الله، وعدم اتباع القوانين الوضعية التي تتعارض معها، ويستشهد شأن من سبقوه على هذا القول بالآيات الكريمة "ومن لم يحكم بما أنزل الله.." و"أفحكم الجاهلية يبغون.."، موضحاً أنّه لا يحق لمسلم أن يصدر من نفسه حكماً في أمر أصدر الله ورسوله فيه حكماً، ويبدو المودودي حتى الآن متسقاً في كلامه مع السياق اللغوي للآيات بأنّه من حكم بغير ما أنزل الله فيما لم ينزل الله فيه تشريعاً فليس عليه من حرج.

لكن مؤسس "الجماعة الإسلامية" ما يلبث أن يقول إنّ "الشكل الصحيح لحكومة البشر في نظر القرآن هو أن تؤمن الدولة بسيادة الله ورسوله القانونية، وتتنازل لهما عن الحاكمية وتؤمن بأن تكون "خلافة" نائبة عن الحاكم الحقيقي تبارك وتعالى وسلطاتها في هذه المنزلة لا بد أن تكون محدودة بتلك الحدود التي ذكرتها"، ومكمن المشكلة في هذا القول التأسيسي للحاكمية التي يدعو إليها أنّ "الخلافة النائبة" فشلت باعترافه في أن تستمر أكثر من 30 عاماً، رغم محاولاته التبريرية لتجميل هذا الطرح.

القول التأسيسي للحاكمية التي يدعو إليها عبر الخلافة النائبة يصطدم باعترافه بفشله بالاستمرار أكثر من 30 عاماً

مثالية "الخلافة الجماعية"

يبدأ كلام المودودي، في كتابه الصادر العام 1967 والواقع في 244 صفحة، بأخذ طابع طوباوي عند تعرضه لموضوع "الخلافة الجماعية"؛ إذ يقول: "إنّ من تناط به الخلافة الشرعية ليس فرداً أو أسرة أو طبقة، إنما هو الجماعة بجملة أفرادها- التي تؤمن بالمبادئ السالفة الذكر وتقيم دولتها على أساسها"، موضحاً أنّ "ألفاظ الآية 55 من سورة النور "ليستخلفنهم في الأرض" صريحة في توضيح هذا الأمر، فكل فرد في جماعة المؤمنين شريك في الخلافة من وجهة نظر هذه الآية وليس لواحد من البشر أو طبقة من الطبقات أي حق في سلب سلطاتهم في الخلافة وتركيزها في يديه".

وقبل أن يدفعنا التفاؤل المتسرع إلى الاعتقاد أنّ الرجل بهذا الكلام يروّج للديمقراطية بمعناها المحدث الذي حسمت فيه الدولة الحديثة آليات تداول السلطة، يفاجئنا المودودي بقوله "غير أنّ هناك فرقاً جوهرياً بينها وبين الديمقراطية الغربية التي تقوم على مبادئ الحاكمية الشعبية، أما في خلافة الإسلام الديمقراطية فالشعب يسلم بحاكمية الله ويجعل سلطاته محدودة بحدود قانون الله برضاه ورغبته"؛ إذ سيبين هو نفسه أنّ تحقيق هذا الشرط (خلافة الإسلام الديمقراطية) يكاد يكون مستحيلاً.

غلاف الكتاب

الشورى والانتخاب

ينتقل المودودي إلى موضوع غاية في الأهمية ألا وهو "حدود إطاعة الدولة" والغريب أنّه يمر عليه مرور الكرام ويقتصر كلامه فيه بقوله: "والدولة التي تقوم لتسيير نظام الخلافة هذا تجب على الشعب إطاعتها في المعروف فقط، فلا طاعة لها ولا تعاون معها في المعصية (كل ما يخالف شرع الله وقانونه)"! ثم يفرد حيزاً مهماً من الكتاب لـ"الشورى"، ويرى أنّ عمل الدولة كله يتم ابتداء بتأسيس وتشكيل أول لبنة فيها، ثم انتخاب رئيس الدولة وأولي الأمر، وانتهاء بالأمور التشريعية والمسائل التنفيذية؛ "على أساس تشاور المؤمنين فيما بينهم بصرف النظر عما إذا تمت المشورة مباشرة أم عن طريق نواب منتخبين انتخاباً صحيحاً". والسؤال المطروح: ألم يكن يجدر بالمودودي أن يدلّل على هذا الأمر الإجرائي الحاسم في اختيار الحاكم عملياً من واقع التاريخ الإسلامي، بدلاً من محاولاته تسمية الأشياء بغير مسمياتها كما سنرى؟

رغم أهمية موضوع الشورى وما رافقها من لغط يحتاج إلى توضيح يضع النقاط على الحروف، ينتقل المودودي لتفصيل أمر آخر هو "صفات أولي الأمر"؛ إذ يرى وجوب ملاحظة عدة أمور في انتخاب أولي الأمر لتسيير نظام الدولة: أن يكونوا مؤمنين بالمبادئ التي توكل إليهم مسؤولية تسيير نظام الخلافة وفقها، وألا يكونوا ظالمين فاسقين فاجرين غافلين عن الله متعدين لحدوده.. "وإذا تسلط ظالم أو فاسق على منصب الإمارة أو الإمامة فإمارته باطلة في نظر الإسلام"، داعياً إلى ألا يكون من يتولى هذا الأمر جهلاء سفهاء بل علماء رشداء على فهم وبصيرة، وأن يكونوا أمناء حتى يمكن إلقاء المسؤوليات عليهم بثقة واطمئنان، دون أن يحدد هنا أيضاً المعايير التي يمكن من خلالها الحكم على انطباق هذه الشروط.

الشعب ليس مطلق العنان بحيث يكون قانون الدولة ومبادئ حياتها وتخطيط سياساتها تابعاً لهواه ومزاجه

مبادئ الدستور الأساسية

وتحت عنوان "مبادئ الدستور الأساسية" الذي يعد من أهم ما ورد في الكتاب يرى المودودي أن الآية (59) من سورة النساء تشتمل على هذه المبادئ  (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا﴾، ويستنبط منها أنّ: "طاعة الله ورسوله مقدمة على أي طاعة أخرى، طاعة أولي الأمر تأتي تحت طاعة الله ورسوله، أن يكون أولو الأمر من المؤمنين، وللناس حق منازعة الحكام والحكومة (أي مقاضاتهم)، وأنّ الفيصل في النزاع هو قانون الله ورسوله، وضرورة أن توجد في نظام الخلافة هيئة مستقلة عن نفوذ الشعب وتأثير الحكام لتقضي في النزاعات طبق القانون الأعلى (قانون الله ورسوله)".

ويعترف المودودي في كلامه هذا ضمناً بأحد أهم مبادئ الدولة الحديثة ألا وهو الفصل بين السلطات؛ إذ يؤكد على أن تكون سلطات الهيئة التنفيذية محدودة بحدود الله وألا تتأسس إلا عن طريق الشورى –يعني الانتخاب على حد قوله- وهذا يشمل الهيئة التشريعية "أما الأمور التي لم يصدر المشرِّع الأعلى (الله) فيها أحكاماً قاطعة أو يقرر فيها مبادئ أو يحدد لها حدوداً ففي مقدور الهيئة التشريعية أن تشرع لها قوانين تطابق روح الإسلام ومبادئه العامة لأن سكوت الشارع عن إصدار حكم فيها يدل على أنّه تركها لبصيرة المؤمنين الصائبة"، وهو ما يفصل فيه في كتابه الآخر "الحكومة الإسلامية"، وبالنسبة للهيئة القضائية يشدد على أن تكون حرة مستقلة عن أي تدخل أو ضغط أو نفوذ.

ثم يشرع المودودي بتعداد الحقوق الأساسية لرعايا الدولة الإسلامية من المسلمين وغيرهم، كحماية الروح وحقوق الملكية والكرامة والحياة الخاصة.. ولكن ما يوجب منها التوقف "حرية الاجتماع" إذ يشترط المودودي أن تستخدم في الخير والحق وألا تصبح سبباً في بث الفرقة بين أبناء المجتمع أو باعثاً على إحداث الاختلافات الأساسية، ومن الواضح أنّ هذا الكلام الفضفاض يعطي للسلطة الحاكمة حق الوصاية على نوايا الناس، وحرية التعبير وفق رؤيتها.

أزمة طروحات المودودي تبدأ عند محاكمتها في صدر الإسلام التي يُفترض أن تقدم المثال الذي يُحتذى

وحين يأتي على ذكر "خصائص الدولة الإسلامية" يقول "أن تكون الحاكمية فيها خالصة لله وحده إلى حد يتفق والنظرية الثيوقراطية (اللاهوتية)" موضحاً أن الاختلاف يكمن في عدم تركز السلطة بطبقة من الكهنة أو الشيوخ، ويعود ليؤكد أنّ "خلافة الله في الدولة الإسلامية من حظ المؤمنين أجمعين"، وأنّ خصائص الدولة الإسلامية "تتفق ومبادئ الديمقراطية في ضرورة أن تتكون الحكومة أو تتغير أو تسير برأي الشعب"، مستدركاً أنّ الشعب ليس مطلق العنان فيها بحيث يكون قانون الدولة ومبادئ حياتها وتخطيط سياساتها تابعاً لهواه ومزاجه.

رغم ما يبدو في بعض هذا الكلام من مثالية يصعب ردّها، وهي تقترب من مبادئ الدولة الحديثة وخاصة في موضوعي حدود تركز السلطة والشورى، إلا أنّ أزمة طروحات المودودي تبدأ عند محاكمتها مع الواقع العملي؛ أي "الخلافة الصحيحة" على حد وصفه في صدر الإسلام التي يُفترض أن تقدم المثال الذي يدعو إلى الاقتداء به.

الخلط بين الانتخاب والبيعة

يصف المودودي خلافة أبي بكر الصديق بأنّها "خلافة انتخابية" عندما رشّحه عمر بن الخطاب "فقبله أهل المدينة –وكانت لهم في الحقيقة صفة تمثيل البلاد بأكملها- وبايعوه برضاهم واختيارهم دون قهر أو ضغط"، ولا ندري على أي أساس أعطى المودودي لأهل المدينة حق الوصاية على بقية المسلمين، وهو القائل كما رأينا سابقاً إنّ "كل  فرد في جماعة المؤمنين شريك في الخلافة"، فإذا كان ذلك قد تعذر تحقيقه في صدر الإسلام، وهذا أمر طبيعي، فكيف يمكن تحقيقه في هذا العصر!

والغريب أن صفة الانتخاب يطلقها المودودي أيضاً على استخلاف أبي بكر لعمر، وهو القائل: "وقد "أوصى" أبو بكر عند وفاته بالخلافة لسيدنا عمر بن الخطاب وجمع الناس في المسجد النبوي وقال لهم: "أترضون بمن أستخلف عليكم فإني والله ما ألوت من جهد الرأي ولا وليت ذا قرابة وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا" فقال الناس "سمعنا وأطعنا".

أما عن حيثيات خلافة عثمان بن عفان فلم يخرجها أيضاً عن قاعدة الانتخاب التي قرّرها، "وبمقتضى هذه القاعدة التي شرحها في خطبته (يعني عمر بن الخطاب) كوّن مجلساً انتخابياً قبيل وفاته ليفصل في أمر الخلافة.. وفي النهاية قر قرار المجلس على إسناد أمر اختيار الخليفة إلى عبدالرحمن بن عوف.. وعلى هذا انتخب خليفة للمسلمين وبويع أمام الناس في مجلس عام".

ويقول في موضع آخر: "والقرآن لا يقرر أشكالاً وصوراً محددة بشأن الشورى والانتخاب وإنما يضع مبدأً عاماً وقاعدة عريضة، ثم ترك سبل تنفيذه وأشكال إجرائه ليقررها الناس في الأزمنة المختلفة وفق ضرورات مجتمعهم وظروف بيئتهم".

المشكلة لدى المودودي أنّه يأبى الاعتراف أنّ قضية تداول السلطة لم تأخذ طابعاً مؤسسياً واضحاً، حتى في عصر الخلافة الراشدة، وأنّ المسألة كانت اجتهادية تستهدف المصلحة العامة وفق المعطيات المتوافرة للصحابة في ذلك الوقت، بدليل أنّ كل خليفة من الخلفاء الراشدين وصل إلى السلطة بآلية مختلفة في كل مرة، وفق ما يذكر هو نفسه، وما محاولته لوصف ما جرى بالانتخاب الجماعي إلا نوعاً من التلفيق والخلط ما بين الانتخاب والبيعة.

وفي هذا السياق يذكر أنّ الناس بعد مقتل عثمان أرادوا أن يولّوا علياً بن أبي طالب فقال لهم: "ليس ذلك إليكم إنما هو لأهل بدر فمن رضي به أهل الشورى وأهل بدر فهو الخليفة فنجتمع وننظر في هذا الأمر"، ثم يروي ما ذكره الطبري من قول علي "إنّ بيعتي لا تكون خفياً ولا تكون إلا عن رضا المسلمين"، ولا يخفى في هذا الكلام من تعريض بالآلية التي تم بها استخلاف من سبقوه، ولكن المودودي تجاوزه هذا المعنى في سبيل يصل إلى الصورة المثالية التي يريدها، ويصر عبثاً على القول: "يتضح لنا من هذه الوقائع أنّ الخلفاء الراشدين وصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا يرون الخلافة منصباً انتخابياً لا بد من الفصل فيه برضا المسلمين ومشورتهم فيما بينهم، أما الوراثة أو اغتصاب الحكم عنوة فلم يكن لديهم "خلافة" بل "ملكاً".

ولم يوضح لنا المودودي –كمعظم منظري الإسلام السياسي- من هم "أهل الرأي" الذين ما يفتأ يتحدث عنهم، فهم حسب ما ذكر نقلاً عن علي آخر الخلفاء الراشدين أهل بدر (الذين لم يكونوا منتخَبين بطبيعة الحال كما يدعو هو)!

 كمعظم منظري الإسلام السياسي لم يوضح المودودي من هم "أهل الرأي"

بداية الخلل

رغم ما أورده المودودي من تزكية لفترة الخلفاء الراشدين وبأنّ اختيارهم (أو انتخابهم) جميعاً تم على المنهاج الصحيح، نجد أنّ ذلك لم يشكل ضمانة لأن تسير الأمور على ما يرام؛ إذ يقول: "غير أنّ سيدنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- حين خلفه أخذ يحيد عن هذه السياسة رويداً رويداً فطفق يعهد إلى أقاربه بالمناصب الكبرى ويخصهم بامتيازات أخرى اعترض الناس عليها"، ثم يورد مجموعة من الأخبار على هذه التجاوزات، وخاصة انتقاده لتعيين معاوية على ولاية أهم مناطق الدولة الإسلامية (الشام) مدة طويلة حتى غدت دولة داخل الدولة، فضلاً عن تعيين مروان بن الحكم في أهم منصب في "سكرتارية" الخلافة والدور الذي لعبه في استغلال طيبة الخليفة وإفساد علاقته بالناس.

ورغم ادعائه أنّ جميع الخلفاء الأربعة لم يكونوا يبرمون أمراً يتعلق بضبط الحكومة أو التشريع ونحوه دون مشورة أهل الرأي من المسلمين، فإنّه يتجاوز عن حقيقة مهمة، وهي أنّ هذه المشورة لم تكن ملزمة للخليفة "مؤسسياً"، وبذلك يطوي صفحة خلافة عثمان دون أن يحلّل هذا الخلل رغم أنّ خلافته تمّت، كما يقول، حسب الأصول الإسلامية، محملاً المسؤولية للأخطاء التي ارتكبها الخليفة الثالث لا النظام الشمولي نفسه الذي يروّج له.

ثم ينتقل إلى خلافة علي بن أبي طالب، التي رأى أنّ أموراً ثلاثة حالت دون رأب الصدع أو "سد الثغرة الخطيرة التي حدثت في نظام الخلافة الراشدة" في عهد عثمان، وهي: أن انتخاب علي اشترك فيه المتمردون الذين قتلوا عثمان، ووقوف بعض أكابر الصحابة (الذين لم يسمّهم) موقف الحياد في بيعة علي، وأخيراً المطالبة بدم عثمان من فريقين أحدهما فيه السيدة عائشة وطلحة والزبير والثاني يتزعمه معاوية.

المودودي يأبى الاعتراف أنّ قضية تداول السلطة لم تأخذ طابعاً مؤسسياً واضحاً حتى في عصر الخلافة الراشدة

ويظهر المودودي مرة أخرى جرأة كبيرة حين ينتقد ما أقدم عليه جميع المطالبين بدم عثمان، واصفاً ما قاموا به بأنّه "يستند إلى النظام القبلي المعهود عن الجاهلية".. "فلعمري أنّ هذا لسبيل لا يمكن اعتباره إجراء شرعياً لا في نظر قانون الله فقط بل حتى في نظر أي قانون من القوانين الدنيوية"، ولكن مع ذلك يبدو البديل الذي اقترحه مغرقاً في المثالية حين يذكر أنّه كان يجدر بهم "التوجه إلى المدينة ورفع دعواهم هناك حيث يقيم الخليفة والمجرمون وورثة المقتول".

وبعد سرد تاريخي للأحداث المعروفة التي آلت إثرها الأمور إلى معاوية بن أبي سفيان، يصرّح المودودي أنّ امتلاك معاوية لأعنّة الحكم مثّل "مرحلة انتقالية على طريق تحوّل الدولة الإسلامية من الخلافة إلى المُلك"، موضحاً أنّ "أصل المسألة ليس انعقاد الخلافة في ذاته إنما الأسلوب الصحيح لانعقادها أهو الأسلوب الذي اتبعه الخلفاء أم الذي سار عليه معاوية ومن جاء بعده؟".

ويتابع المودودي سرد أهم التغيرات التي حصلت منذ تولي معاوية التي حوّلت الخلافة إلى مُلك: التغير في قانون تنصيب الخليفة، وطريقة عيشه، ووضع بيت المال، وزوال حرية الرأي، وانتهاء حكومة الشورى، وأخيراً ظهور العصبيات القومية والزندقة.

 

 

قيادتان في الدولة الإسلامية

ورغم كل هذه السوداوية التي يصف بها المودودي الحياة السياسية لمعظم حياة الدولة الإسلامية منذ عثمان بن عفّان وحتى سقوط الدولة العثمانية، إلا أنّه يرى أنّه "من الخطأ الشديد أن نظن أنّ هذه التغيرات السياسية قد قضت على نظام الحياة الإسلامي كلّه قضاءً تاماً؛ إذ إنّ بعض الناس طالعوا التاريخ مطالعة سطحية ثم قرّروا أنّ الإسلام لم يعش غير ثلاثين عاماً انتهى بعدها تماماً".

ويدافع المودودي عن طرحه هذا –وهو ما يتفق جزئياً مع ما ذهب إليه وائل حلاّق في كتابه "الدولة المستحيلة"- بأنّ ما حصل هو انقسام قيادة المسلمين إلى قيادتين: القيادة السياسية التي تولّت الأمور بناء على الأمر الواقع، والقيادة الدينية التي شكّلت جماعتهم للمسلمين -رغم اختلافها في الجزئيات والتفاصيل- قيادة فكرية وأخلاقية واحدة، "فانفصل طريق القيادة الدينية عن طريق القيادة السياسية منذ منتصف القرن الأول الهجري".

ورغم الفرق الإسلامية التي ظهرت بدءاً من الخوارج والشيعة والمرجئة والمعتزلة، يرى المودودي أنّه لم يتأثر من المسلمين بهذه التفرقة "غير ثمانية أو عشرة بالمئة، أما بقيتهم الباقية فكانت على مذهب الجمهور" وفي هذا السياق يعرض المودودي لأبي حنيفة واصفاً إياه بأنّه "أول من دوّن عقيدة أهل السنة والجماعة في مواجهة هذه الفرق الدينية في كتابه الفقه الأكبر"، رائياً أنّه ملأ باجتهاده وقوته الخاصة ذلك الفراغ العظيم الذي حدث في نظام الإسلام القانوني بانسداد باب الشورى بعد الخلافة الراشدة، بعد أن شكّل هيئة تشريعية غير رسمية من تلامذته فصلت في 83 ألف مسألة فقهية تضم حالات مفترضة.

يعترف المودودي ضمناً بأحد أهم مبادئ الدولة الحديثة ألا وهو الفصل بين السلطات

الخروج على الحاكم

يبدو اختيار المودودي لأبي حنيفة أنموذجاً للفقيه الأمثل مثيراً للحيرة وليس الشافعي مثلاً، مؤسس علم أصول الفقه، ولكن هذه الحيرة ما تلبث أن تزول عندما نرى أنّ هذه الانتقائية تحقق له ضالته في مسألة "الخروج على الحكومة الظالمة"؛ فرغم اعتراف المودودي أنّ "جماعة كبيرة من أهل الحديث (والصحيح معظمهم) تقول بجواز الاعتراض على الإمام الظالم الفاسق دون الثورة عليه"، إلا أنّه يتجاهل رأي الجماعة، أو الإجماع الإسلامي، الذي طالما أكد على اتباعه، ويدعو إلى اتباع رأي أبي حنيفة الذي يقول إنّ "إمامة الظالم ليست باطلة فحسب، وإنما تجوز الثورة عليه أيضاً، بل وينبغي ذلك بشرط أن تكون ثورة ناجحة مفيدة تأتي بالعادل الصالح مكان الظالم الفاسق، وبشرط أن لا تكون نتيجتها مجرد تبديد القوى وضياع الأنفس والأرواح".

انتقائية المودودي لأبي حنيفة أنموذجاً للفقيه الأمثل تحقق له ضالته في مسألة "الخروج على الحكومة الظالمة"

ولكن ما يلبث أن يتحسس المودودي الحرج فيما ذهب إليه بأنّ إجماع العلماء اتجه لعدم جواز الخروج على الحاكم، وفي ذلك يقول: "ثم بدأ يظهر فيما بعد ذلك الرأي الذي يسمى الآن "رأي جمهور أهل السنة" وليس سبب ظهور هذا الرأي العثور على نصوص قطعية بشأنه كانت خافية على أكابر القرن الأول"، ويدّعي المودودي أنّ ذلك عائد لسببين: "الأول أنّ الجبابرة لم يتركوا أي طريق مفتوح أمام التغيير بطرق ديمقراطية سليمة، والثاني أنّ المحاولات التي كانت تتم لإحداث التغيير عن طريق السيف أسفرت عن تلك النتائج المتوالية التي لم يبق بعد رؤيتها توقع صدور الخير عن هذا الطريق أيضاً".

رغم ما أبداه المودودي في هذا الكتاب من صراحة في انتقاد النظام السياسي الإسلامي الذي فشل في المحافظة على أسس الخلافة الإسلامية وانتهى بتحويلها إلى ملك دنيوي، إلا أنّه ظلّ أسير منظومته المعرفية التي تأبى الخروج من عباءة "مثالية" النظرة إلى التراث الإسلامي، ومحاولة استنقاذه بأيّ ثمن في سبيل تأصيل مشروعه للإسلام السياسي الشمولي.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية