في زمن الأعياد تبرز حاجة الإنسان إلى استذكار جذوره وانتماءاته

في زمن الأعياد تبرز حاجة الإنسان إلى استذكار جذوره وانتماءاته

في زمن الأعياد تبرز حاجة الإنسان إلى استذكار جذوره وانتماءاته


25/12/2022

مشير باسيل عون

من أجمل أوقات العيد تلاقي أعضاء العائلة المقيمين والمغتربين، وتحلقهم حول شيوخ الأسرة من نساء ورجال طبعوا حياة عيالهم بجليل تضحياتهم. حين ينظر المرء في سلوك الناس المحتفلين بأعيادهم، يتبين له أنهم، في قرائن الحضارة المسيحية على سبيل المثال، يجتمعون اجتماعاً عائلياً في الميلاد، ويلتئمون التئام الأصدقاء والأصحاب والخلان في رأس السنة. في كلتا الحالتين، يسعى الناس إلى اختبارات وجودية عميقة يتجاوزون بها اضطرابات الأزمنة العصيبة وإرباكات الأيام الرتيبة.

لا بد إذاً من النظر في معاني السلوك العيدي الاحتفالي الذي يهب الحياة الإنسانية الفردية والجماعية أبعاداً جديدة يستخرجها الناس من صميم تطلعاتهم وطموحاتهم وآمالهم. فالعيد عيد بما يختزنه من طاقة على استشراف الآفاق المضيئة، إذ يعتقد جميع الناس اعتقاداً صادقاً أن الاحتفال يغير الواقع، ولو لبرهة خاطفة. الغالب أنه يغير حياتنا تغييراً رمزياً، على سبيل الوعد الذي يستثيره في وعينا. فالعيد مستودع الوعود البهية، لذلك نستعد له بالزينة والتبرج والنضارة المبتسمة، ونفرش له بساط الألوان الزاهية التي تمحو إلى حين سواد الوقائع المحزنة.

لا ريب في أن غزارة الرموز التي تحتشد في تضاعيف العيد ما برحت تستنهض همم الباحثين لكي ينظروا نظراً متجدداً في معانيها ودلالاتها وآثارها التغييرية الإبهاجية. فإذا بسبل التناول والتحليل تتنوع وتتشعب، وإذا بعلماء الأنثروبولوجيا والاجتماع والنفس والفلسفة واللاهوت يكبون على استجلاء المضامين الثقافية التي تنطوي عليها تصرفات الناس في الأعياد. من الواضح أن أبرز المعاينات التي يجمعون على صحتها ترابط الأبعاد الدينية والثقافية في الظاهرة العيدية، إذ ليس كل شيء في الأعياد نازلاً من السماء! غالب المظاهر الاحتفالية في أعياد الناس تنطبع بالثقافة المحلية والحس التذوقي الجمالي المشترك. فالعيد الديني، على تنوع تسمياته، لا يقتصر على أبعاده اللاهوتية، بل يتشح بأبعاد ثقافية أنثروبولوجية اجتماعية نفسية اقتصادية سياسية.

التعبير عن الانتماء وتفعيل الهوية الذاتية الجماعية

فضلاً عن ذلك، يختبر الناس في الأعياد السليمة والسلمية دفقاً متوهجاً من الدفء الوجداني يجعلهم يحسون أن الحياة، على غرابتها اللغزية وصقيعها الجليدي، ما انفكت تختزن شرارات ملتهبة من الوصال الصادق بين الناس يتقد وهجها اتقاداً مشعاً في أثناء الالتئام العيلي العيدي. من الطبيعي، والحال هذه أن يتنادى الناس إلى محاضنهم العيلية بحثاً عن مشاركة وجدانية أضعفتها المسافات الفاصلة، أو غيبتها الانقطاعات الاضطرارية. غالباً ما يفقد الإنسان المنغمس في مشاغل الحياة حس المشاركة الوجدانية الشفافة. فإذا بالتلاقي الاحتفالي يستثير فيه ما أوشك أن يخبو وينطفئ ويموت، عنيت به جذوة الاستمتاع بالمكاشفة الصادقة بين الناس الأقربين. لا شك في أن أحوال الطقس العاصف في فصل الشتاء تحول أعياد الميلاد ورأس السنة، على سبيل المثال، إلى ملتقى الدفء الجسدي والنفسي الأمثل، وقد تحلق أعضاء الأسرة حول النار المتراقصة في المدافئ الحطبية تبعث النور في العيون الناظرة والحرارة في القلوب الخاشعة. ليس كالنار المتوهجة في المواقد المشتعلة والأخدار الجوانية المضطرمة مما يذيب صقيع التباعد وجليد التجافي، لذلك يتكل معظم الناس على لقاء العيد لكي يتجالسوا ويتنادموا ويتصارحوا ويتكاشفوا ويتقابسوا، وفي يقينهم أن الاحتفال لا تكتمل فرحته إلا حين تحتفي الذات باستضافة الأقربين في خدرها المنيع.

الأمان الوجودي في اختبار البقائية والخلود

بفضل المشاركة الوجدانية هذه، يختبر الناس في العيد الأمان الوجودي الذي يمنحهم إياه ظهور الحياة على وجهها المضيء، ذلك بأن العيد لا يستنقذ الحياة الإنسانية من الملل والسأم والتضجر فحسب، بل ينتشلها أيضاً من براثن اليأس والخيبة والعبث. العيد عيد، إذ يضمن للحياة منعتها، ولو على فترات متقطعة، ويهب الإنسان الأمان الكياني الذي يحرره من إرباكات النفس المضطربة. الحقيقة أن الناس يختبرون قبل العيد وأثناءه وبعده الضمانات الوجودية التي تمنحها الحياة في تدفقها الحر المجاني المعطاء. قبل العيد، يتلهف الإنسان إلى زمن الاحتفال ويحلم بأبهى صور التلاقي الوجداني. أثناء العيد، يطمئن إلى المشاركة الهنية الصادقة التي يجتهد جميع أعضاء الأسرة في عقدها وتعزيزها، على رغم المصاعب والاحترازات والمضايق، ذلك بأن الاجتماع العيلي يفرض، من تلقاء ذاته، روحية التغافر والتجاوز والتسامي. بعد العيد، يحصد الإنسان مكتسبات الابتهاج التشاركي الكياني، ويجمع ثماره في أهراء وعيه الباطني، وهو يدرك أن بين العيد والعيد تنبسط أمامه مسالك وعرة من النضال الذي يستوجب الاغتراف من المخازن الوجدانية المنعشة من أجل المواظبة على الاضطلاع بمسؤوليات الحياة الجسام. وعليه، يتحول العيد إلى منتج الموارد النفسية الإحيائية الأساسي ينهل منها الإنسان ما يساعده على تعزيز شعور الأمان والسلام. لا ريب في أن مثل هذا الشعور يضمن للناس تماسك المعنى الحياتي الأعمق، ويجعلهم يثقون بخلود الاختبار التأسيسي هذا، على رغم انعطابية الجسد، وانجراحية الوجود، وهشاشة التاريخ.

تغيير الواقع رمزياً بإعادة تأويله

لا بد أيضاً من اختبار وجه آخر من وجوه الاحتفال العيدي، ألا وهو القدرة الاستثنائية على استعادة الماضي وتغييره، على رغم من حدوثه وتكونه وانعقاده على هيئة الأثر المنقضي. فكيف نستطيع في العيد أن نغير الواقع؟ يقترح علينا الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (1913-2005)، في كتابه "الذاكرة، التاريخ، النسيان" (Mémoire، histoire، oubli)، أن نستثمر قدرة الكلمات من أجل أن نغير نظرتنا في الحياة، ذلك بأن الإنسان اقتدار تأويلي فاعل، والتاريخ منبسط حر يطيق جميع ضروب المعاني التي نسندها إليه. ليست الحياة من يفرض علينا معناها، بل نستودعها المعاني التي نستخرجها من نضالاتنا الوجودية الإصلاحية وجهاداتنا المسلكية التغييرية.

بفضل الطاقة الوجدانية العظيمة التي يختبرها الإنسان في العيد، يمكنه أن يستعيد الماضي ويصوره على هيئة أخرى، أي يفسره تفسيراً مختلفاً تسود فيه قيم التسامح والتجاوز والتعالي، بحيث يدركه إدراكاً جديداً يلبسه حلة أنصع وأبهى وأرقى. إذا اتفق المحتفلون بعيدهم على إعادة تفسير الدوافع والبواعث والنوازع التي أفضت بهم في الماضي إلى التباغض والتباعد والتحارب، استطاعوا لا أن يغيروا ما بأنفسهم فحسب، بل أن يغيروا الواقع المنقضي أيضاً، وذلك على قدر ما يجددون حمولته ويبدلون مضامينه. ومن ثم، يضحى العيد أيضاً مصنع المعاني الجديدة التي ننسبها بحريتنا وتوبتنا الكيانية إلى الماضي وإلى الحاضر وإلى المستقبل.

كما أن المادة الفيزيائية، في صميمها، حقل من الطاقة المتناثرة، كذلك الواقع مستودع من الاختبارات والمعاينات والأقوال التي تنشئه إنشاء رمزياً. فالواقع يحتضن مشاعرنا وأحاسيسنا وانفعالاتنا احتضاناً يحوله إلى صورة منسوخة عن وجودنا التاريخي، لذلك كان، في معظمه، تأويلات وتفسيرات وتخمينات معنوية، في حين ما برح القليل منه منعقداً على صورة الأحداث الصلبة الصم. ليس الخارج الحدثي سوى صورة الداخل الإنساني الذي يخلع عليه انطباعات الوجدان. ومن أبلغ من النفس المبتهجة في العيد تصف الواقع وتغيره بحسب ما تختبره من طاقة مضطرمة على الانعتاق من قيود الإخفاق العلائقي والتصارع المنفعي والتغالب الإقصائي!

احتضان الحصاد المنجز واستشراف الغد المقبل

ينطوي العيد أيضاً على فسحة التأمل الاسترجاعي والتبصر الاستشرافي، ذلك بأن الناس المحتفلين المبتهجين لا يكتفون بالتلذذ بأطايب الموائد الشهية، واقتطاف ثمار التلاقي المنعش، والاستمتاع باسترخاء العطالة الإلهامية، بل يعمدون أيضاً إلى النظر في الماضي المنقضي واستطلاع المستقبل الآتي. فيحيون حياة الماضي في الحاضر على قدر ما يستجلبون الماضي إلى حاضرهم ويعيدون تفسيره بالاستناد إلى نضج وجدانهم الحالي، ويحيون حياة المستقبل في الحاضر على قدر ما يعتزمون الارتقاء بواقعهم إلى مصاف الأصالة والصدق والإتقان والتألق. في كلا الاختبارين يكتنز حاضر العيد بعبر الماضي ووعود المستقبل، فإذا به حاضر احتفالي يتخطى حدود العيد لكي يفيض بالمعنى الوجودي الأرحب.

الحقيقة الأعمق أن الناس حين يجتمعون للاحتفال بالعيد، إنما يختبرون امتلاءً في حقائق الوجود لم يعهدوه من ذي قبل، فتنشرح صدورهم وتتشرع آفاقهم وتتسع منفتحات وعيهم، بحيث يتراءى لهم أنهم ينفصلون عن الواقع أو يتعالون عليه أو يتجاوزونه من غير أن يخرجوا منه. مثلهم كمثل الذي استوقد نار الابتكار في عقله، فبنى قصراً من الأحلام وانتقل إليه انتقالاً افتراضياً. غير أن اختبار امتلاء المعنى العيدي لا يعني أن الناس يحيون في زمن الأعياد حياة الوهم والضلال، بل يدل على أن الواقع الذي يكتنفهم أضحى مكتنزاً بأغلى ما أفرجت عنه نفوسهم المتوهجة، ومداركهم المتقدة، وأحاسيسهم المترفعة. من مزايا الاختبار الوجودي العيدي هذا أن الناس المحتفلين بحقائق حياتهم يحيون في وصال وثيق بالمعنى الإنساني الأرحب الذي به يعتصمون في زمن الشدائد، وإليه يركنون في أثناء الالتئام الاحتفالي. جراء ذلك كله، يحول العيد وجودنا إلى شجرة سامقة بهية الطلعة تشبه شجرة الميلاد في زينتها المستخرجة من لآلئ الوجدان التائق إلى استصلاح تربته، وترميم بنيته، وتعزيز طاقات الخير المزروعة فيه.

عن "اندبندنت عربية"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية