النهضة والمنظومة القديمة.. الاستيلاء والتماهي

النهضة والمنظومة القديمة.. الاستيلاء والتماهي


16/01/2021

عبدالجليل معالي

التونسيون الذين انتفضوا على نظام زين العابدين بن علي، وتهيأ لهم أنهم ثاروا عليه، اعتقدوا أنهم بمجرد امتطاء بن علي طائرة الخروج من تونس، قضوْا على المنظومة القديمة للنظام.

لكن عشر سنوات مضت من عمر الثورة، أكدت أنه لم يتم القضاء على المنظومة القديمة فحسب، بل إن الأخطر من ذلك أن حركة النهضة نجحت في الاستيلاء على كل أجهزة النظام السابق وعقليته وتراثه، إلى أن أصبحت المنظومة القديمة في تونس هي حركة النهضة ذاتها.

بنت حركة النهضة كل سردياتها السياسية والتعبوية والدعائية على العداء لنظام بن علي، وللمنظومة القديمة، وروجت خلال عقود ضربا من المظلوميّة الفكرية والسياسية التي استبطنتها فئات واسعة من التونسيين. مظلوميّة تقوم على تضخيم ما تعرض له عناصر النهضة وقياداتها من سجن وملاحقات وتضييق وقمع وغير ذلك، مع تجاهل متعمد لكون النهضويين لم يناضلوا يوما سواء في زمن بن علي، أو خلال حقبة الزعيم الحبيب بورقيبة، من أجل أهداف اقتصادية أو اجتماعية أو من أجل الديمقراطية، بل كانت كل تحركاتهم محكومة بهدف وحيد هو الوصول إلى السلطة بأقصر الطرق وهو الانقلاب.

العقل النهضوي الذي وفر بعملياته الإرهابية القديمة، السابقة لوصول بن علي إلى الحكم، كل المقدمات الفكرية والتنظيمية لظهور إرهاب ما بعد 14 يناير 2011، كان أيضا مستعدا لتقديم كل التنازلات والمقايضات بعد مفصل 14 يناير. هنا يمكن فهم كل التحالفات التي عقدتها النهضة مع أكثر من طرف سياسي وتأصيلها، وانتهت جميعها بالوبال على حلفاء النهضة، بدءا من المؤتمر من أجل الجمهورية (حزب الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي) وحزب التكتل من أجل العمل والحريات (حزب مصطفى بن جعفر رئيس المجلس الوطني التأسيسي)، مرورا بحزب نداء تونس (حزب الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي) وصولا إلى التحالفات الراهنة مع قلب تونس وائتلاف الكرامة، دون إهمال تحالفات ظرفية تكتيكية جرت خلال أوقات سابقة.

خلال السنوات العشر الماضية، كانت تجري عملية هيمنة مستمرة ودؤوبة على كل أجهزة الدولة، وعلى كل مقدرات البلاد، واستنسخت حركة النهضة أسوأ ما في حزب بن علي المنحل (التجمع الدستوري الديمقراطي) من صفات: التداخل بين الحزب والدولة، وتوظيف كل أجهزة الدولة ومؤسساتها لخدمة الحزب.

في قصة استيلاء النهضة على المنظومة القديمة مسارات فكرية وسياسية متقاطعة. مفيد التذكير بأن النهضة الوفية لمناهلها الإخوانية القديمة، سعت منذ اللحظات الأولى لتحولها إلى حزب سياسي (1 مارس 2011) إلى التسرب في كل المؤسسات والهياكل والإدارات التونسية، وكان ذلك التسرب قائما على مبررين ومنطلقين: منطلق أيديولوجي يقوم على الالتزام بقواعد التمكين وفق ما ورد في رسائل حسن البنا، والتمكين يقوم على نشر الرجال، ثم نشر الأفكار، وأخيرا تنفيذ الأفكار. أما المبرر فهو موجه لعموم الناس من خارج قواعد الحركة، وفيه استدعاء لسردية المظلومية، ومن خلاله روجت النهضة لفكرة "العفو التشريعي العام" الذي يمثل تحيلا سياسيا تُسوّغ من خلاله انتداب وتوظيف أبناء الحركة في الهياكل الرسمية لتعويضهم عن سنوات الهرسلة والتضييق والقمع.

تضافر دوافع التمكين مع سردية المظلومية وفر للنهضة فرصة سانحة لتسريب عشرات الآلاف من قواعدها وقياداتها في كل مؤسسات الدولة. عامل كان له أثر مهم ومحوري أولا في وجود الحركة داخل كل مفاصل الدولة، وثانيا في تجديد الولاء بينها وبين قواعدها، وثالثا في إعادة إنتاج التماهي القديم بين الحزب الحاكم والدولة كما كان يحصل في العلاقة بين التجمع المنحل والدولة.

البعد السياسي لاستيلاء النهضة على المنظومة القديمة كان يقوم على وضع هدف محدد عنوانه المركزي تأبيد البقاء في السلطة، بصرف النظر عن تغير التوازنات السياسية، وعلى ذلك كانت النهضة لا ترى ضيرا في التحالف مع أي حزب يخدم هذا الهدف، ولا تهتم في سبيل ذلك بالبرامج أو بمناويل التنمية، وتدير ظهرها للتباينات الأيديولوجية بينها وبين حلفائها. نجحت حركة النهضة في أن تظل حاضرة في كل الحكومات التي تعاقبت على حكم البلاد منذ عام 2011، والتي منيت جميعها بفشل ذريع على جميع الأصعدة، لكن النهضة لم تكن آبهة لأسئلة الاقتصاد والمجتمع بقدر حرصها على البقاء في السلطة، وكانت تمارس أثناء ذلك سياسة تقوم على "خصخصة الأرباح وتعميم الخسائر"، بمعنى أنها كانت تلقي بالفشل على حلفائها، في حين تسارع إلى تبني أي نجاح ولو كان نسبيا، وإن كان تصريح وزير أو فتح ملف أو تدشين جسر.

بهذه الطريقة توصلت الحركة إلى ضرب عصافير كثيرة بحجر واحد؛ نجحت أولا في دفع كل حلفائها إلى منحدر النهاية السياسية (أحزاب التكتل والمؤتمر ونداء تونس وغيرها أمثلة دقيقة على ذلك)، وتوفقت ثانيا في ترويج تبرير مستمر يقوم على أن عدم نجاح الحكومة عائد إلى الأزلام وأعوان النظام وأعداء الثورة، وتوصلت ثالثا إلى أن تظل مهيمنة على مؤسسات الدولة والمناصب العليا في البلاد.

وفي عمق تحول النهضة إلى منظومة قديمة، صلة أخرى بثورة 14 يناير نفسها. مفيد الإشارة هنا إلى أن الثورات عموما تتخذ عادة مسارات ثلاثة: مسار فكري تنويري، ومسار سياسي ديمقراطي، ومسار اقتصادي واجتماعي. وإذا كانت النهضة، بفكرها وتاريخها، تقبع خارج كل هذه المسارات، بمعنى أنها غير قادرة على توفير خطاب فكري حداثي يؤمن بالمساواة والحقوق والحريات، وهي أيضا عاجزة عن صياغة تصور اقتصادي بديل عن منوال التنمية المعتمد زمن بن علي والذي انتفض ضده الشعب التونسي، وهي أيضا غير قادرة على المضي في مسار سياسي ديمقراطي وطني يؤمن بالديمقراطية مناخا لا مجرد صندوق اقتراع، فإنها ستكون خارج مضامين الثورة التي لم تطرح يوما شعارات دينية أو هوياتية، وتبعا لذلك فإن حركة النهضة، ستكون بالضرورة في صف أعداء الثورة، مهما ادعت وسوقت أنها من روادها ومن فاعليها. وبهذا المعنى فإن الحركة الإخوانية هي في حالة تناقض فكري وسياسي مع مضامين الثورة وشعاراتها.

عشر سنوات مرت على ثورة 14 يناير 2011 في تونس، وكان الاعتقاد السائد في البداية لدى أغلب المشاركين فيها أو المؤمنين بها، أنه يكفي إبعاد المنظومة القديمة وأحزابها وشخوصها عن الحكم، حتى تنطلق الثورة نحو تحقيق أهدافها، لكن مياها أخرى جرت تحت جسر الأحداث، ليتبين للجميع ممن كانوا يعتقدون أن المنظومة القديمة مجرد حزب ورئيس، أن المنظومة يمكن أن تُورّثَ أو أن يُستولى عليها بكل جذورها وعلاقاتها وامتداداتها وثقافتها وعقلياتها. هنا كانت حركة النهضة متوثبة لالتقاط اللحظة السياسية، واتكأت على إرث فكري وسياسي كان ينتج انتهازية واضحة صنعت حالة يجوع فيها الذئب ويشتكي فيها الراعي.

أدمنت النهضة وصف حزب التجمع المنحل بالاستبداد وواظبت على وصف مرحلة حكمه بمرحلة القمع والدموية، لكنها في الآن نفسه اعتبرت التجمعيين الذين دخلوا بيت النهضة رجال دولة وطنيين، في حين واصلت اعتبار من يعارضها منهم بأزلام النظام القديم الذين يريدون استعادة زمن الإقصاء والاستئصال. في هذا الباب كثفت النهضة من حملاتها على عبير موسي، رئيسة الحزب الحر الدستوري، بتعلة أنها امتداد للنظام القديم، لكن راشد الغنوشي لم ير ضيرا في انتداب محمد الغرياني، آخر أمين عام للتجمع المنحل، في منصب المستشار الخاص لرئيس مجلس النواب، للاستفادة من خبراته وعلاقاته وضرب عبير موسي في الآن نفسه.

لم تحقق ثورة 14 يناير 2011 شيئا من أهدافها الاقتصادية والاجتماعية، وحتى هامش الحريات الذي تحقق كان بفضل ضغوط المجتمع المدني الذي مازال أغلبه خارج مربع هيمنة النهضة. الدرس المستفاد الذي يمكن استخلاصه اليوم في تونس هو أن العودة إلى مسار الثورة وتحقيق أهدافها لا يكون سوى بمقاومة المنظومة القديمة الحقيقية، بما تعنيه من تشابكات سياسية وفكرية عميقة، وهي اليوم منظومة النهضة. 

عن "سكاي نيوز عربية"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية