
وسط تحضيرات لتشكيل وزاري جديد يقوده الجيش السوداني من بورتسودان، برزت محاولات واضحة لتخطيط نظام الإخوان لاستعادة القوى داخل النقابات العمالية، عبر قرارات متسارعة تهدف إلى إحياء إرث نظام المؤتمر الوطني البائد.
ووفق تقرير لمركز (عاين)، فقد بدأت الحركة بعد انقلاب البرهان في تشرين الأول (أكتوبر) 2021، ثم تصاعدت في نيسان (أبريل) الماضي بمنهجية "توفيق أوضاع" المكاتب التنفيذية للنقابات، تمهيدًا لإجراء انتخابات خلال أسابيع، قبل أن تتوقف وسط جدل واسع.
في أيار (مايو) الماضي قررت مسجّلة تنظيمات العمل آمنة الصادق كبر حلّ الدورة الانتخابية الحالية، بحجة انتهاء المدد القانونية وحماية ممتلكات النقابات، رغم أنّ الأخيرة تشكلت وفق قانون البشير (2010) وتم تجميدها بعد الثورة، ثم أُعيد تدشينها بعد الانقلاب. وبررت كبر قرارها بأنّه يهدف إلى حماية أموال وممتلكات النقابات، في ظل النزاع المسلح وما خلفه من فوضى.
المكاتب التنفيذية للنقابات والاتحادات التي تعمل حاليًا هي مورثة منذ عهد نظام الرئيس المخلوع عمر البشير والحركة الإسلامية، وانتخبت بموجب قانون النقابات للعام 2010م، وجرى حلها بعد ثورة كانون الأول (ديسمبر)، قبل أن يعيدها البرهان عقب انقلابه العسكري على الحكومة الانتقالية.
وأكد المركز أنّ قوى الثورة كانت تخطط لسنّ قانون جديد يقرّ نقابة المهنة، بمعنى أن يكون لكل قطاع مهني، من "أطباء، وصحفيين، ومهندسين وغيرهم" نقابة خاصة بهم، وتحقيق حرية الحركة النقابية، وهو النظام الذي كان سائدًا في البلاد قبل أن يقوم نظام الرئيس المخلوع عمر البشير بانقلاب عسكري في حزيران (يونيو) 1989، واستبداله بنقابة المنشأة.
وحول الموضوع أشار الخبير القانوني والنقابي محمد التوم إسماعيل إلى تضارب واضح في قرار مسجل تنظيمات العمل مع قرارات سابقة لمجلس السيادة بعد انقلاب البرهان قضت بحل وإعادة النقابات والاتحادات، وفي ذلك أخطاء وتناقض بين الجهات الرسمية يعكس عيبًا قانونيًا.
وأضاف إسماعيل، في مقابلة مع (عاين)، أنّ الهدف الحقيقي من كل هذه القرارات هو إعادة نظام المؤتمر الوطني البائد بشكل رسمي، ممّا يقضي على كل المكتسبات النقابية وضياع حقوق العاملين، لكون التشكيل النقابي القادم سيستند إلى قانون العام 2010 المعيب، الذي يتعارض مع الاتفاقيات العمالية الدولية التي صادق عليها السودان.
المكاتب التنفيذية للنقابات والاتحادات التي تعمل حاليًا هي مورثة منذ عهد نظام البشير والحركة الإسلامية.
من جهته، اعتبر عضو لجنة المعلمين السودانيين علي عبيد قرار حل النقابات الحالي بمثابة كلمة حق أريد بها باطل، فالنقابات التي حُلت فاقدة للشرعية بانتهاء مدتها منذ (4) أعوام ماضية، كما أنّها تشكلت بموجب قانون 2010 الذي سنّه النظام البائد، والذي يخالف الاتفاقية (87) الدولية التي صادق عليها السودان، بالإضافة إلى ذلك فإنّ هذه النقابات تمّ حلها إجرائيًا عقب الثورة وتجميد قانونها.
وقال عبيد في مقابلة صحفية: "الهدف من هذا القرار هو الالتفاف على العمل النقابي بتحويل النقابات السابقة إلى لجان تمهيدية، تعمل على بناء نقابات سلطة، تمامًا كما كان الحال قبل الثورة".
وفيما يتعلق بكيفية التعامل مع هذا القرار، ذكر عبيد (3) خطوات رئيسية: أوّلها الطعن القانوني في عدم قانونية تدخل مسجل عام تنظيمات العمل لفرض لجان تمهيدية، ثانيًا الطعن في هذه الإجراءات لمخالفتها الاتفاقية (87) التي صادق عليها السودان ووقعها، ثالثًا مخاطبة منظمة العمل الدولية بهذه المخالفات، داعيًا إلى مخاطبة كافة القطاعات المهنية للتمسك بحقها القانوني.
وكانت تنسيقية المهنيين والنقابات قد أعلنت رفضها قرار مسجل التنظيمات، واعتبرته محاولة مفضوحة لتمرير أجسام نقابية تابعة للنظام البائد وللحركة الإسلامية، تحت غطاء "لجان تمهيدية"، توطئة لإعادة تمكين أدوات القمع النقابي التي لفظتها الثورة، وأسقطها الشعب السوداني بثمن باهظ من الدماء والتضحيات”، حسب وصفها.
وأكدت التنسيقية في تصريح صحفي أنّ النقابات التي نشأت تحت مظلة التمكين الإنقاذي لا شرعية لها، وأنّ سقوط النظام البائد أسقط معها شرعية أدواته، وأنّها لن تقبل إعادة تدويرها تحت أي مُسمّى أو تبرير.
وقالت: "أيّ عملية تنظيم للعمل النقابي يجب أن تتم تحت مظلة مدنية ديمقراطية، وبإرادة القواعد النقابية، لا بقرارات فوقية صادرة عن أجهزة دولة مختطفة، ولا عبر أجسام مفروضة دون انتخابات حرة ونزيهة"، وحذّرت من استغلال القرار في تكوين لجان تمهيدية مسيّسة تُكرّس للعودة إلى قبضة السلطة على النقابات.
ودعت التنسيقية قواعدها في كل النقابات المهنية إلى الوقوف صفًا واحدًا لإسقاط هذه المحاولات، وعضدت دعوتها بأنّ القرار الصادر من مسجل تنظيمات العمل يمثل تجاوزًا واضحًا للنقابات المنتخبة والمعترف بشرعيتها من قواعدها، بنقابة الصحفيين السودانيين، واللجنة التمهيدية لنقابة الأطباء، ونقابة الدراميين واللجنة التمهيدية لنقابة التمريض.
ورأت أنّ تجاوز هذه الكيانات يمثل انتهاكًا واضحًا لاستقلالية التنظيم النقابي، ومحاولة لفرض وصاية الدولة على النقابات. وشددت التنسيقية على قوى الثورة الحية، والقواعد النقابية الديمقراطية، داعية إلى إعلان موقف واضح وموحد ضد هذا القرار، والعمل المشترك لوقف محاولات اختطاف العمل النقابي.
بدوره، يقول الخبير القانوني المعز حضرة: "هذا قرار خاطئ من حيث الزمان والمكان، فالسودان يعيش حالة حرب، وأولوية الشعب هي وقف القتال وتوفير العلاج والطعام والأمن، كذلك يفتقد الإجراء للقانونية والشرعية، وأصدرته سلطة لا تملك أيّ شرعية".
وبحسب حضرة، فإنّ القرار يهدف إلى إعادة تمكين عناصر النظام السابق في اللجان التسييرية للنقابات، واستئناف تحكمهم السابق في القطاع النقابي والعمالي.
حضرة: "هذا قرار خاطئ من حيث الزمان والمكان، فالسودان يعيش حالة حرب، وأولوية الشعب هي وقف القتال وتوفير العلاج والطعام والأمن".
بدوره أكد الخبير النقابي محجوب كناري أنّ المرسوم الدستوري الخاص بحل النقابات ليس قانونًا، بل هو محاولة لطمس أخطاء قرار المسجل وإعادة النقابات السابقة. ويرى أنّ هذا القرار والمرسوم يهدفان إلى إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل كانون الأول (ديسمبر) 2019.
وأضاف كناري أنّ القرار "معيب"، ويتناقض مع قانون النقابات لعام 2018 وقانون النقابات لعام 2022 الذي أقرّه مجلس الوزراء، ولم يُجَز في جلسة مشتركة مع مجلس السيادة. كما يتناقض أيضًا مع الاتفاقية (87) لعام 1948 التي وقعت عليها الحكومة السودانية. وأشار إلى أنّ إنهاء الدورة النقابية يتم بوساطة الاتحاد وليس المسجل.
هيمنة نظام البشير على النقابات: تحالف السلطة والنفوذ الإخواني
منذ انقلاب 30 حزيران (يونيو) 1989 الذي أوصل عمر البشير إلى الحكم بدعم من الجبهة الإسلامية القومية (الذراع السياسية للإخوان المسلمين في السودان)، عمل النظام الجديد بسرعة على تفكيك الحركة النقابية المستقلة، وإحلال نقابات خاضعة لسلطته مكانها.
واستبدل النظام ما كان يُعرف بـ "نقابة المهنة"، وهي: (الأطباء، الصحفيون، المهندسون...)، بـ "نقابة المنشأة"، وهي نموذج مصمم خصيصًا لتفتيت الكتلة النقابية وجعل كل مؤسسة لديها نقابة منفصلة.
هذا الأسلوب مكّن الحكومة من تفكيك التضامن النقابي، وإخضاع كل نقابة للسلطة التنفيذية والإشراف الأمني.
وأبرز هذه القوانين هو قانون النقابات لعام 2010، الذي حدّ من استقلالية النقابات، ومنع قيام كيانات نقابية لا تخضع لإشراف الحكومة أو جهاز الأمن، وصُمم القانون لشرعنة وجود النقابات الموالية للنظام، وتمكين رموز الإخوان داخلها.
هذا، واستخدمت جماعة الإخوان (بنسختها السودانية داخل "المؤتمر الوطني") النقابات كأداة لتجنيد الأعضاء، وبسط النفوذ على المؤسسات العامة والقطاع المهني.
وارتبط العمل النقابي في عهد البشير بجهاز الأمن والمخابرات، الذي أدار تعيينات واختيارات المكاتب التنفيذية، وأقصى المعارضين وأصحاب التوجهات الديمقراطية. وحتى الترشح في الانتخابات النقابية كان يتطلب موافقة أمنية غير معلنة، ممّا حول العملية برمّتها إلى "مسرحية سياسية".