إعادة النظر في الثورة الروسية: محاولة لفهم التحوّلات الثورية

إعادة النظر في الثورة الروسية: محاولة لفهم التحوّلات الثورية


02/01/2019

ترجمة: محمد الدخاخني


تمرّد كرونستادت
يروي س. أ. سميث،  في كتابه "روسيا في الثّورة: إمبراطوريّة في أزمة 1890-1928"، أنّه في 27 و28 شباط (فبراير) 1921، كان بحّارة كرونستادت، وهي مدينة محصّنة وقاعدة بحريّة تقع على جزيرة في خليج فنلندا على بعد حوالي عشرين ميلاً غرب بتروغراد، قد انزعجوا من قمع إضرابٍ عامّ اندلع مؤخّراً في بتروغراد، فحملوا السّلاح ضدّ الحكومة.

اقرأ أيضاً: إعادة النظر في الثورة الروسية.. أسئلة السلطة والحرب
وعند الاستيلاء على القاعدة البحريّة، قدّم المتمرّدون للحكومة سلسلةً من المطالب تتضمّن في المقام الأول إنهاء الشّيوعيّة الحربيّة، خاصّة في الجبهة الاقتصاديّة، وعودة السّوفيتات المنتخبة بحرّيّة المفتوحة للمنافسة بين جميع الأحزاب اليساريّة. ودعوا أيضاً إلى حرّيّة التّعبير والصّحافة والجمعيّات، وإلغاء الشيكا (البوليس السّريّ) وجميع الامتيازات الّتي يحظى بها الشّيوعيّين، وتفكيك دولة الحزب الواحد. في الواقع، أيّد ما يقرب من ثلثي أعضاء الحزب الشّيوعيّ في القاعدة التّمرّد.

اقرأ أيضاً: إعادة النظر في الثورة الروسية.. القمع الثوري
لبضع من الوقت، يمكن وصف السّياسة المتغلّبة في كرونستادت بأنّها يساريّة مُفرطة على نحو ثوريّ. وكما نوقش الأمر في كتابتي "قبل الستالينيّة"، لم يكن البلاشفة في يوم من الأيّام يشكّلون أغلبيّة في كرونستادت خلال عهد السّوفيتات متعدّدة الأحزاب، ولا حتّى في كانون الثّاني (يناير) 1918، عندما وصلوا إلى أعلى الأصوات بنسبة 46 في المائة. وقد عكست سياسات البحّارة المتمرّدين هذا الاتّجّه العام. وبالتّالي، دعموا بالتّأكيد ثورة تشرين الأوّل (أكتوبر) ولم تدع مطالبهم إطلاقاً إلى الإطاحة بالحكومة السّوفيتيّة. كما لم يتذرّعوا أبداً بشعار "سوفيتات بدون شيوعيّين" الّذي نسبه إليهم تروتسكي.
ردّاً بما وصفه سميث بالتّعنت النّاجم "ليس عن الثّقة ولكن عن الخوف"، سحقت الحكومة البلشفيّة التّمرّد، وحكمت بالإعدام على 2,103 سجناء - بالرّغم من أنّ عدّة مئات فقط قد أعدموا بالفعل رمياً بالرصاص - وأصدرت أحكاماً بالسّجن على 6,459 من المتمرّدين، وهؤلاء أُطلق سراح 1,464 منهم بعد فترة وجيزة. بالإضافة إلى ذلك، قُتل حوالي سبعمائة جندي سوفيتيّ في المواجهة وأصيب 2,500 شخص. ويشير سميث إلى أنّ استجابة الحكومة غير المرنة والقاسية كانت الأكثر لفتاً بالنّظر إلى حقيقة أنّها كانت على وشك التّخلي عن الشّيوعيّة الحربيّة، وهذا من بين أهم مطالب المتمرّدين، لاستبدالها بالسّياسة الاقتصاديّة الجديدة.
الثّورة البلشفيّة عام 1917

السّياسة الاقتصاديّة الجديدة
وصف لينين السّياسة الاقتصاديّة الجديدة بأنّها "تراجع" عن الشّيوعيّة الحربيّة. كانت محاولة لتهدئة السّكان من خلال زيادة الإنتاج وإتاحة الغذاء وما هو أساسيّ من السّلع الاستهلاكيّة المصنّعة. وكان من المقرّر أن يتحقّق هذا عن طريق السّماح للفلّاحين بالدّخول في التّجارة الخاصّة (مع الخضوع لضريبة عينيّة)، وبالتّالي استبدال عمليّات المصادرة الّتي حكمت سياسات الشّيوعيّة الحربيّة، وتعزيز إنتاج وتوزيع السّلع من خلال تقديم تنازلات إلى الرّأسماليّين المحليّين والأجانب والتّجار الخاصّين في المناطق الحضريّة.

إنّه من المهم دراسة أيّ أشكال القمع الثّوريّ تتوافق مع اشتراكيّة من أسفل تعدّ ديمقراطيّة وإنسانيّة

كان "التّراجع" مصحوباً بسياسة التّحرير الثّقافيّ الّتي سمحت بدرجة كبيرة من الحرّيّة الفنّيّة والإبداعيّة. ومع ذلك، كان هذا التّحرير في المجال الفنّي مصحوباً بمزيد من القيود السّياسيّة، ممّا حوّل القمع المنتشر على نطاق واسع ولكن المؤقّت إلى حدّ ما لسنوات الحرب الأهليّة إلى قمعٍ ممنهج للأحزاب المعارضة في وقت السّلم.
بالنسبة إلى سميث، حقّقت السّياسة الاقتصاديّة الجديدة العديد من أهدافها. فهو يبيّن بالتّفصيل كيف تحسّنت الاقتصاديّات الزّراعيّة والصّناعيّة في ظلّ تأثير هذه السّياسة. ويجادل بأنّها تمكّنت من تهدئة الفلّاحين. ومع ذلك، فيما يخصّ الطّبقة العاملة، يخلص سميث إلى أنّ السّياسة الاقتصاديّة الجديدة كان لها تأثير معقّد: فقد حسّنت مستوى معيشة العمّال؛ ولكن بما أنّ شركات الدّولة مُنحت درجة معقولة من الاستقلاليّة (وسمح لها بالاحتفاظ بأرباحها)، وعادت السّلطة الإداريّة إلى العمل، فقد جرى القضاء على فكرة سيطرة العمّال وانتهت في مزبلة التّاريخ. وفي الوقت نفسه، كما يُظهر سميث، جرى استعادة حقوق المساومة النّقابيّة - بما في ذلك الحقّ في الإضراب -، مع وقوع إضرابات بلغت ذروتها في عام 1922، حيث وقع 431 اعتصاماً شارك فيهم 197,215 مُضرباً.

اقرأ أيضاً: اهتمام أمريكي بمئوية الثورة البلشفية: الشمولية تبعث روسيا مجدداً
ومع ذلك، كان التّأثير الاقتصاديّ للسّياسة الاقتصاديّة الجديدة أكثر تعقيداً ممّا يسلّم به سميث. فقد تضمّنت إحدى مشكلاتها الرّئيسة ما يسمّى بأزمة المقصّات حيث كان الفلّاحون يفتقرون إلى الوصول الكافي للسّلع المصنّعة بسبب سعرها المرتفع نسبةً إلى سعر المنتجات الزّراعيّة، ممّا حدّ من تحسّنهم الاقتصاديّ، وأثّر بدوره على وصول العمّال إلى الغذاء حيث قام الفلّاحون بخفض المواد الغذائيّة المسلّمة إلى المدن.
من المدهش أنّ سميث لا يهتمّ كثيراً بهذه القضيّة. لكن بالنسبة إلى العديد ممّن هم على اليسار، كانت هذه الأزمة مؤشّراً على ما اعتبروه استنفاداً للسّياسة الاقتصاديّة الجديدة كنموذج للنّمو الاقتصاديّ.
يجادل سميث بأنّه في حين من الصّحيح أنّ السّياسة الاقتصاديّة الجديدة كانت متناقضة للغاية بسبب التّعارض الحاصل بين تخطيط الدّولة والمنافسة في السّوق، فإنّ النّظام [الاقتصاديّ الّذي أسّست له] قد عمل ولم يصل إلى محطّته النّهائية عندما أعلن النّظام الستاليني نهايتها في 1928، بالرّغم من أنّه ما كان لها أن تدعم دَفْع ستالين للحصول على معدّل غير عادي للتّصنيع.

اقرأ أيضاً: هل يأتي يوم يحكم فيه الاشتراكيون أمريكا؟
ومن المهمّ أن نلاحِظ أنّه في أواخر العشرينيّات من القرن الماضي كان الحزب الشّيوعيّ يدرس بدائل لما تحوّل إلى نموذج ستالين. كان هناك "اليمين" الشّيوعيّ لبوخارين، الّذي اقترح نمواً اقتصاديّاً أبطأ وتسوية مع الفلّاحين، و"يسار" تروتسكي الّذي كان يجادل بدرجة أسرع في التّصنيع والنّمو الاقتصاديّ. في التّحليل الأخير، كانت هذه البدائل تعبّر عن نسختين مختلفتين من سياسة اقتصاديّة جديدة معدّلة، وكانت في الواقع أقرب إلى بعضها البعض من المسار الوحشيّ الّذي اتبعه "الوسط" المفترض الّذي يقوده ستالين بالاستغلال الفائق للطّبقة العاملة وملايين الأشخاص الّذين لقوا حتفهم نتيجة لعمليّة التّجميع القسريّ للفلّاحين، والّتي تضمّنت التّشجيع المتعمّد لمجاعة أوكرانيا في عامي 1932 و1933.
صحيح أنّ خصوصيات الثّورة الرّوسيّة لن تتكرر، لكن ما يزال بإمكاننا تبيّن أنماط التّنميّة الّتي قد تكون مفيدة في فهم تحوّلات ثوريّة أخرى. وهكذا، على سبيل المثال، قد نستنتج مبدئيّاً على أساس تجربة السّياسة الاقتصاديّة الجديدة الرّوسيّة أنّ أيّ تحوّل اشتراكيّ راديكاليّ يحدث في بلد حيث حصّة الأسد من الإنتاج الزّراعيّ، والصّناعيّ، والخدميّ، والتّوزيع لا تجريها شركات رأسماليّة صناعيّة كبيرة، سيحتاج حتماً، إذا كان لهذه الاشتراكيّة أن تكون ديمقراطيّة وإنسانيّة، إلى نسخةٍ ما من السّياسة الاقتصاديّة الجديدة لتتوافق مع إمكانات واحتياجات عدد كبير من صغار المنتجين، لا سيّما الأفراد والأسر. هذا لأنّه، كما أشار فريدريك إنغلز في كتابه "الاشتراكيّة الطّوباويّة والاشتراكيّة العلميّة"، لا يمكن بناء الاستيلاء الاشتراكيّ الكامل، والتّحكّم الدّيمقراطيّ، والتّخطيط إلّا على أساس إنتاج مندمج اجتماعيّاً.
تدخّل لينين مباشرة في حالات معيّنة وانتقد انتهاكاتها وحماقاتها

بصدد القمع الثوري
من بين أكثر القضايا إثارةً للجدل فيما يتعلّق بتبعات ثورة تشرين الأوّل (أكتوبر)، باستثناء الدّكتاتوريّة الستالينيّة والعمليّة التّاريخيّة الّتي أدّت إليها، كان القمع الّذي رافقها. من نواح عديدة، إنّه ذاك القمع العنيف هو الّذي، بالنسبة إلى الكثيرين، يرفد التّقييم الشّامل للثّورة.
كان الجهاز الرّئيس للقمع الثّوريّ في روسيا هو الشيكا. ووفقاً لسميث، قامت الحكومة، في نهاية عام 1917، بتأسيس هذا الجهاز بوصفه لجنة طارئة لتصفية الثّورة المضادّة والتّخريب. انتقد العديد من زعماء البلشفيّة الشيكا باعتبارها مؤسّسة خارجة عن السّيطرة، خاصّة خلال الحرب الأهليّة. وقد ندّد بها قادة سوفيتات المدن والأرياف في كثير من الأحيان بوصفها هيئةً مهيمنةً تحتقر سلطتهم. وقد باءت كلّ محاولة للحدّ من الشيكا بالفشل. وتدخّل لينين مباشرة في حالات معيّنة وانتقد انتهاكاتها وحماقاتها، لكنّه رفض دعم أيّ سيطرة "مؤسّسيّة" على عمليّاتها.

كانت مقاربة العقاب الجماعيّ لدى الحكومة البلشفيّة تستند في جزءٍ منها إلى تشويه صارخ للتّحليل الطّبقيّ الماركسيّ

بالرّغم من أنّ سميث ينتقد بوضوح انتهاكات الشيكا، فإنّه يسعى جاهداً نحو إحساس بالتّناسب، مشيراً إلى أنّه ليس واضحاً أنّ روسيا الّتي خرجت من الحرب الأهليّة في العشرينيّات كانت أكثر عنفاً من سابقتها الإمبراطوريّة القيصريّة بغزواتها الاستعماريّة، وقمعها الشّرطيّ، ومكافحتها للتّمرّد، ورعايتها للمذابح المعادية لليهود، وجلدها للسّجناء، وضربها للعمّال في أماكن العمل، إلى جانب العنف الاجتماعيّ المتأصّل الّذي انطوى على الإرهاب اليمينيّ واليساريّ، والعقاب الّذي لحق داخل المجتمعات الفلّاحيّة بأولئك الّذين انتهكوا قواعدها، وانتشار الإساءة في معاملة الأطفال، وضرب الزّوجات. كما يشير إلى أنّ "جميع" أبطال الحرب الأهليّة قد مارسوا العنف الشّديد.
وفي هذا السّياق، يصف الوحشيّة الّتي ارتكبها الفلّاحون بحقّ السّوفيت ومسؤولي الحزب مثل هجوم الفلّاحين في بينزا، في آذار (مارس) 1920، على شوفاييف، المفوض المحليّ، الّذي قطعوا أنفه وأذنيه ورأسه بالتّتالي، إحداهما تلو الأخرى. ويصف أيضاً كيف انتقم البلاشفة بلا رحمة، بأخذ الرّهائن ورمي الزّعماء بالرصاص، مشيراً إلى أنّ "الفلّاحين قد جرى تهدئتهم بمساعدة السّوط".

اقرأ أيضاً: الحياة السرية لزعماء الثورة في الاتحاد السوفييتي
وفي ضوء حتمية العنف في ثورة، لا سيّما ثورة اجتماعيّة، والجرائم المروّعة الّتي ارتكبت باسمها، فإنّه من المهم دراسة أيّ أشكال القمع الثّوريّ تتوافق مع اشتراكيّة من أسفل تعدّ ديمقراطيّة وإنسانيّة.
يأتي كمثال على ذلك العقاب الجماعيّ الّذي مارسه النّظام البلشفيّ في كثير من الأحيان - كما هو الحال في قمع الثّورات "الخضراء" في منطقة تامبوف في 1920-1921 والّذي أدّى إلى موت العديد من الفلّاحين. لقد اشتمل هذا العقاب الجماعيّ على الإجراءات العقابيّة المتعمّدة الّتي اتخذتها الحكومة ضدّ أشخاص عرفت أنّهم لم يشاركوا في أيّ نشاط معادٍ للثّورة ولكنّهم كانوا ينتمون إلى مجموعات معيّنة مشتبه بها من الجماعات الإثنيّة والإقليميّة والطّبقيّة مثل الفلّاحين. كان لهذه الممارسة عواقب وخيمة للغاية، ليس أقلّها صعوبة جعل الحكومة تقنع سياسيّاً تلك القطاعات الرّئيسة من السّكان.

اقرأ أيضاً: الاشتراكيون بين اليوم والأمس
ويمكن قول الشّيء نفسه عن الإرهاب الأحمر، الّذي أقامه لينين في أماكن مثل بتروغراد، كردّ على اغتيال زعماء بلاشفة رئيسين. كان الإرهاب الأحمر يستهدف النّاس على أساس "من هم"، بدلاً من "ماذا فعلوا" في الواقع، كما في حالة العديد من هؤلاء الّذين كانوا من خلفيّة برجوازيّة وكانوا يتعاونون في الواقع مع الحكومة البلشفيّة. وكما ذكر المؤرّخ ألكسندر رابينوفيتش في كتابه "البلاشفة في السّلطة"، فإنّ سياسات "الإرهاب الأحمر غير المُميِّزة" كانت معارَضة من جانب جزء كبير من القيادة البلشفيّة المحلّيّة في بتروغراد.
كانت مقاربة العقاب الجماعيّ لدى الحكومة البلشفيّة، على الأقلّ عند تطبيقها على الفلّاحين، تستند في جزءٍ منها إلى تشويه صارخ للتّحليل الطّبقيّ الماركسيّ، والّذي غيّر المفهوم الماركسيّ لهيمنة ومركزيّة الطّبقة العاملة، والّتي افترض ماركس أنّها ستصبح الغالبية العظمى من السّكان، إلى مفهوم مختلف جدّاً لما يمكن أن يسمّى سيادة الطّبقة العاملة.

 "جميع" أبطال الحرب الأهليّة قد مارسوا العنف الشّديد.
يشير مفهوم المركزيّة والهيمنة إلى الطّبيعة الفريدة تاريخيّاً للطّبقة العاملة الحديثة، الّتي تنطوي على إمكانيّة العمل الجماعيّ الثّوريّ الضّروريّ للاشتراكيّة من أسفل، ويضع هذه الطّبقة في موقع لعب الدّور "القياديّ" في التّحالفات الطّبقيّة الحتميّة مع الطّبقات والجماعات المضطّهَدة الأخرى، والّتي من المتوقّع حدوثها في الحركات الثّوريّة الجماهيريّة الأصيلة مثل ثورة تشرين الأوّل (أكتوبر). لقد  لعبت الطّبقة العاملة الدّور القياديّ في تلك الثّورة، لكنّها لم تكن لتنجح بدون تحالفٍ مع الفلّاحين، ومشاركتهم ودعمهم الّلذين لا غنى عنهما.
أمّا مفهوم سيادة الطّبقة العاملة فيشير إلى فكرةٍ مختلفةٍ سياسيّاً مفادها أنّ مصالح الطّبقة العاملة فقط متصوّرة بشكل محدود، لا سيّما عندما يشكّل العمّال جزءاً صغيراً من السّكان كما هو الحال في روسيا في عشرينيّات القرن العشرين، تؤخذ في الحسبان في عمليّة تحديد الاستراتيجيّة والتكتيكات الثّوريّة المناسبة، ممّا يقلّل من أهميّة التّحالفات الطّبقيّة بين المضطّهَدين.

اقرأ أيضاً: القرامطة سبقوا ماركس وأسسوا أول نظام اشتراكي منتخب
إنّ التّمييز بين هيمنة الطّبقة العاملة وسيادتها يصبح ذا أهمية خاصّة في سياق الانخفاض الدّراماتيكيّ في الطّبقة العاملة الرّوسيّة الّذي سبّبته الحرب الأهليّة. يُظهر سميث أنّه خلال ذلك الوقت، فرّ أكثر من مليون عامل من البلدات إلى القرى، وغادر عدّة مئات الآلاف للالتحاق بالجيش الأحمر، وتولّى عشرات الآلاف مناصب إداريّة في السّوفيت والنّقابات وأجهزة الحزب. وهكذا، بين عامي 1917 و1920، انخفض عدد عمّال المصانع والمناجم بنسبة 70 في المائة من 3.6 مليون إلى 1.5 مليون. وهذا الوضع جعل الوجود الفعليّ للطّبقة العاملة وحكم الطّبقة العاملة موضع شكّ.
وقد جادل بعض الماركسيّين بأنّ هذا برّر قمع الحزب الشّيوعيّ لجميع الأحزاب السّياسيّة الأخرى حتّى يتمكنوا من البقاء في السّلطة لإنقاذ، كما يفترض، ثورة الطّبقة العاملة. ومع ذلك، كان يمكن للشّيوعيّين أن يخرجوا من عزلتهم السّياسيّة عن طريق تبنّي توجّه جديد نحو الفلّاحين. لقد فعلوا ذلك في المجال الاقتصاديّ عبر سياستهم الاقتصاديّة الجديدة؛ لكن من النّاحية السّياسيّة، طوّقت الحكومة نفسها وبدلاً من محاولة كسب الفلّاحين، اقتصرت جهودها على التّهدئة والتّعايش مع الفلّاحين. وبدلاً من إضفاء الدّيمقراطيّة على حكمها، عزّزت الحكومة دكتاتوريّتها السّياسيّة المتمثّلة في حكم الحزب الواحد.

التّمييز بين هيمنة الطّبقة العاملة وسيادتها يصبح ذا أهمية خاصّة في سياق الانخفاض في الطّبقة العاملة الّذي سبّبته الحرب الأهليّة

إنّ المقاربة السّياديّة لدور الطّبقة العاملة في الثّورة الرّوسيّة تساعد على تفسير حرمان الفلّاحين من حقوقهم وخاصّة حقّ التّصويت، وهو الحرمان الّذي استندت إليه القيادة البلشفيّة في مرحلة مبكّرة من العمليّة الثّوريّة. لقد حدّدت المادة 25 من الدّستور السّوفيتيّ لعام 1918 عدد المندوبين إلى المؤتمر السّوفيتيّ لعموم روسيا بمندوب واحد لكلّ 25,000 ناخب للسّوفيتات الحضريّة ومندوب واحد لكلّ 125,000 ساكن للمجالس السّوفيتيّة الرّيفيّة. (كانت طبقات وجماعات أخرى - مثل أرباب العمل، والرِّيعيّين، والتّجار الخاصّين، والرّهبان، والكهنة، وضبّاط وعملاء الشّرطة السّابقة - محرومة تماماً من حقوقها). شرعنة لينين لهذا الحرمان حتّى عندما أوضح أنّه ليس عنصراً ضروريّاً أو محدّداً لدكتاتوريّة البروليتاريا، فتح الباب لأسوأ تطبيق من النّاحية النّوعيّة لهذه الممارسة. فبعد وفاته، حُرِم عدد متزايد من الفلّاحين من حقّ التّصويت.
يوضّح سميث تطوّر هذه العمليّة الاستبعاديّة بما في ذلك تحت حكم ستالين. وهكذا، في حين أنّه في عام 1926، جرى حرمان 1.04 مليون شخص من التّصويت، فإنّه بحلول عام 1929، ارتفع هذا الرّقم إلى 3.7 مليون. وبين سكّان المناطق الرّيفيّة زادت نسبة المحرومين بأكثر من الضّعف في تلك الفترة، حيث ارتفعت من 1.4 في المائة في عام 1924 إلى 3.5 في المائة في عام 1929. وعلاوة على ذلك، بعد عام 1928، استبعدت الحكومة المحرومين من تلقّي الحصص الغذائيّة، وبدلاً من تجنيدهم عسكريّاً حيث جميع الذّكور "الكادحين" الّذين تتراوح أعمارهم بين تسعة عشر وأربعين عاماً كانوا مطلوبين للخدمة، فإنّه قد جرى تسجيلهم في الحرس الوطنيّ ودفعوا ضريبة إعفاء كبيرة.

اقرأ أيضاً: هل تتخلى روسيا عن علاقاتها بحزب الله؟
كما يشير سميث أيضاً إلى أنّ عمليّة اتّخاذ القرار لتحديد من يُمنح ومن لا يُمنح حقّ الاقتراع كانت تعسّفيّة للغاية. ويكتب عن السّوفيتات المحلّيّة (الستالينيّة) الّتي حرمَت الفلّاحين المتوسّطين وحتّى الفقراء من التّصويت لقيامهم بتوظيف ممرّضات وعمّال أثناء موسم الحصاد، وهو الأمر الّذي من المفترض أنّ يحوّلهم إلى "مستغلِّين". وغالباً ما كان الانتماء الدّينيّ يقود فلّاحاً ليتمّ تصنيفه على أنّه "كولاك" (فلاح غنيّ) ويُحرم من الحقّ في التّصويت.
هناك اعتبار آخر يتعلّق بما إذا كان نوع معيّن من العنف يتوافق مع الاشتراكيّة ألا وهو حقيقة أنّه ليست كلّ أشكال العنف "محايدة" بمعنى أنّه يمكن استخدامها بشكل شرعيّ من قِبل أيّ طرف. في حركة السّلام البريطانيّة في أوائل السّتينات، والّتي كنتُ ناشطاً فيها عندما كنتُ طالب دراسات عليا في كليّة لندن للاقتصاد والعلوم السّياسيّة، دافعت بعض الجماعات على اليسار البريطانيّ عن حقّ الاتّحاد السّوفيتيّ في امتلاك السّلاح النّوويّ لمعادلة الطّاقة الذّريّة للولايات المتّحدة.

اقرأ أيضاً: الشيوعي المكسور
وقد أشار معارضوهم من اليساريّين إلى أنّه إلى جانب حقيقة أنّ الاتّحاد السّوفيتيّ لم يكن دولة عمّاليّة، فإنّ الأسلحة النّوويّة بطبيعتها لا يمكن أن تميّز بين العمّال والرّأسماليّين والمضطّهِدين والمضطّهَدين، وستمحو كلّ شخص دون تمييز. وتنطبق حجّة مماثلة، على سبيل المثال، على استخدام النّابالم، والمركّب الكيماويّ "إيجينت أورانج"، والنّجوع الاستراتيجيّة الّتي استخدمتها الإمبرياليّة الأمريكيّة في فيتنام: فهي ليست "محايدة" في طبقتها ومحتواها البشريّ وبالتّالي لا يمكن أن تكون جزءاً من صراعٍ تحرريّ.
تمثيل العمّال في مجالس الإدارة

إصلاحات وإصلاحيون وثوريون
مركّزاً على الوضع الّذي انتهت إليه ثورة تشرين الأوّل (أكتوبر)، عنيتُ الكابوس الستالينيّ، يفشل سميث في تقييم أهميّة هذا الحدث باعتباره أوّل ثورة اشتراكيّة ناجحة بقيادة طبقة عاملة منظّمة سياسيّاً. ومع ذلك، فهو يدرك أنّ الثّورة البلشفيّة قدّمت مساهمات مهمّة للتّقدّم الاجتماعيّ في التزامها، على سبيل المثال، بالتّمييز الإيجابيّ للأقلّيّات الإثنيّة، وجهودها لتحرير المرأة من النّظام البطريركيّ، في توقّع لمطالب حركات السّتينيّات.

اقرأ أيضاً: اليسار والدين في السودان: الحزب الشيوعي السوداني
وهو يرى أنّ هذه الثّورة قد أثارت تساؤلات جوهريّة حول التّوفيق بين العدالة والمساواة والحرّيّة، بالرّغم من أنّه يعتقد أنّ الإجابات البلشفيّة كانت معيبة. في عالم اليوم، كما يكتب، حيث يتآمر كلّ شيء على النّاس لجعلهم يقبلون بالأشياء كما هي عليه، فإنّ الثّورة البلشفيّة تدعم فكرة أنّه يمكن تنظيم العالم بطريقة أكثر عدلاً وعقلانيّة. مع الإقرار بجميع أخطائهم الكثيرة، يواصل قائلاً، "أطلق البلاشفة صيحة غضب ضدّ الاستغلال الّذي يقع في قلب الرّأسماليّة وضدّ القوميّة الحادّة الّتي قادت أوروبا إلى مذبحة الحرب العالميّة الأولى". إنّ الملايين في كافّة أنحاء العالم، الّذين لم يستطيعوا توقّع أهوال الستالينيّة، قد "احتضنوا ثورة 1917 كفرصة لخلق عالم جديد من العدالة والمساواة والحرّيّة".

اقرأ أيضاً: مائة سنة على نهايتها: الحرب العالمية الأولى من خلال الرواية
أخيراً، قد يستنتج الكثيرون أنّه بسبب عدم وجود ثورة اشتراكيّة على الأجندة السّياسيّة على المدى القصير والمتوسّط، فإنّ الأحداث الهائلة الّتي نوقشت في هذه الصّفحات لا علاقة لها بالسّياسة الأمريكيّة. ومع ذلك، فإنّ السّياسة الثّوريّة لا تدور فقط أو حتّى في المقام الأوّل حول الاستيلاء على السّلطة، ولكنّها في الأساس طريقة لتوجيه السّلوك السّياسيّ في كلّ من الأوضاع الثّوريّة وغير الثّوريّة، مع هدف إعداد اليسار، والطّبقة العاملة، والحركات الشّعبيّة للاستيلاء بنجاح على الفرص الّتي توفّرها الأزمات الاجتماعية كلّما حدث ذلك.
وهكذا، يناضل الثّوار من أجل الإصلاحات بطريقة مختلفة عن نضال الإصلاحيّين من أجل الإصلاحات. ويكمن الاختلاف الرّئيس بين هاتين المقاربتين في الإصرار الثّوريّ على ضرورة الحفاظ على الاستقلال السّياسيّ والتّنظيميّ للطّبقة العاملة والحركات الشّعبيّة بأيّ ثمن. وهكذا، على سبيل المثال، حتّى في أكثر الاضرابات نجاحاً، فإنّه من المهمّ أن يحتفظ العمّال بحرّيّة خوض المعارك في المستقبل.

اقرأ أيضاً: قرن على الحرب العالمية الأولى
ينطوي هذا، على سبيل المثال، على معارضة تامّة للعقود الطّويلة جدّاً الشّائعة الآن، ولجان إدارة العمل لتحسين الإنتاجيّة وضبط القوى العاملة، ناهيك عن تمثيل العمّال في مجالس الإدارة. بعبارة أخرى، ينبغي على الثّوريّين أن يعارضوا أيّ شيء يشجّع العمّال على تحمّل المسؤوليات دون سلطة حقيقيّة، ناهيك عن قيام العمّال باعتماد فكرة أنّ هذه "شركتنا"، أو أنّنا "كلّنا في هذا الأمر معاً".
كجزء من هذه المقاربة، هناك ذاكرة تسجّل الانتصارات والهزائم، والانعطافات الصحيحة والخاطئة. وكما وصفها سميث، فإنّ الثّورة الرّوسيّة لم تنته ليس فقط كهزيمة وإنّما ككارثة وحشيّة. والأمر متروك لنا لكي نتعلّم ونتذكّر السّبب، وندمجها في رؤيتنا السّياسية ونضالاتنا المستقبلية.

المصدر: صامويل فاربر، جاكوبين


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية