مناورة الملكة:كيف قوضت مصر جموح تركيا في شرق المتوسط؟

مناورة الملكة:كيف قوضت مصر جموح تركيا في شرق المتوسط؟


31/03/2021

إسلام أبو الغز

طغيان الصراع ما بين مصر وإسرائيل منذ تاريخ تأسيس الأخيرة وحتى ثمانينيات القرن الماضي، قد يوحي بأنه الصراع أو النزاع الوحيد والحصري الذي يستدعي تحرك الأولى بكافة الأدوات بمختلف تدرجاتها وأهمها القوة العسكرية؛ لكن مع التدقيق في تاريخ مصر المعاصر، ومنذ ما اصطلح عليه المؤرخون أنه تأسيس مصر الحديثة عام 1805 في عهد محمد علي باشا، نجد أنها بمحطات تأسيسها على مدار حكم الأسرة العلوية قد أثرت وتأثرت، بالمعنى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي، بما يقابلها على الضفة الأخرى للمتوسط، أي تركيا الحديثة 1923.

وذلك بالإضافة للمشتركات الثقافية والتاريخية التي فرضها واقع جيوسياسي وديموغرافي بين أكبر كتلتين بشريتين شمال وجنوب المتوسط، والتي في واقعها السياسي كانت الشراكة -ولو على أسس برجماتية- استثناء لقاعدة توظيفها كتوجه استعماري توسعي قائم على خطاب شعبوي يجمع ما بين القومي والديني، كانت ذروته معادة اجتماع دول المنطقة، وعلى رأسها مصر بعد 2011 بشكل خاص، تدحرج على مدار العشر سنوات لصدام عسكري وشيك في شرق المتوسط وليبيا.

خلفية قريبة

امتداد وتطور هذه العلاقة الجدلية ارتبطت بمختلف مراحل تاريخ المنطقة منذ الحرب الباردة وحتى الآن، والتي كانت بدايتها من منظور التنافس/الخصومة تالية على صراع القاهرة مع تل أبيب، وتموضع أنقرة كحليف إقليمي وحيد للثانية. وهو ما انتفى موضوعياً خلال الثمانينيات بعد اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، والتي كانت تركيا وقتها بمعزل عن طموح توسع خارجي شرقاً، والدفع بالتحاقها بالاتحاد الأوربي كعقيدة خارجية للجمهورية التركية منذ1924 وحتى 2002، وأنها جزء من الغرب، سواء بالمعنى الثقافي أو الجغرافي أو حتى السياسي والاقتصادي والعسكري، وهو ما كان يُفترض تتويجه بانضمامها للاتحاد الأوروبي، والذي كان وشيكاً في نهاية تسعينيات القرن الماضي.

 إلا أن هذا الاتجاه في السياسة الخارجية التركية لم يأتي ثماره، سواء بانتفاء الدور التركي الحيوي بالنسبة للولايات المتحدة والغرب في صراعها مع الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية، والتي كانت تركيا تمثل فيه جبهة متقدمة أمام السوفييت، وبالتالي بعد تفكك الاتحاد السوفيتي لم يكن هناك ضرورة لإدماج تركيا أو بالأحرى انتهى الأمر الذي كان من أجله تم تقريب تركيا واحتسابها على الغرب وأروبا؛ هذا بالإضافة إلى الإرث الثقافي والوعي الأوربي تجاه تركيا وما شكلته من مخيلة لدى عموم الأوربيين تجعل مسألة انضمامها للاتحاد الأوربي صعبة، ناهيك عن الأبعاد السياسية والاقتصادية التي يطول شرحها.

أي باختصار دخلت تركيا الألفية الجديدة وقد أغلق أمامها أي فرصة للتمدد غرباً؛ بمعنى الاندماج مع أوروبا والتأثير في محيطها الحيوي الأوربي سواء في البلقان أو جنوب غربها واليونان، وهو يعني أنها خسرت ما يفوق نصف فرصها بمعيار جيوسياسي وجيوستراتيجي متعلق بالمحيط الحيوي وكيفية استغلاله لأي دولة ترى أنه بمقدورها أن تصبح قوة إقليمية فاعلة.

شكلت آراء وتوجهات تتعلق بفرص تركيا في منطقة الشرق الأوسط وكونها أكبر من فرصها في القارة الأوروبية، سواء الاقتصادية أو السياسية والثقافية، وترجمة هذه الفرص على ضوء من دواعي جيوسياسية واستراتيجية. إلا أنه بالإضافة إلى السابق ورؤية أشخاص مثل رئيس وزراء تركيا الأسبق، أحمد داود أوغلو، فإن هناك دواعي سياسية أهم من كونها معطيات تحفيزية؛ فأولاً كان توجه تركيا نحو المنطقة من 2002  بمثابة حل وحيد أمام انسداد أفق المجال الأوربي أمامها، كذلك لا ينضوي هذا التوجه عن فائدة اقتصادية فقط، إذ قفزت بالاقتصاد التركي في العقد الأول من الألفية نحو أفاق جديدة مريحة.

ولكن أيضاً فائدة سياسية أهمها استقواء تركيا بنفوذها المزمع في المنطقة أمام القوى الأوربية، سواء كطرف فاعل في القضايا الإقليمية المتماسة مع القوى الأوروبية، أو كظهير ديموغرافي وجيوستراتيجي، والأمر نفسه كان بالنسبة لدول غرب ووسط آسيا من بوابة القومية التركية التاريخية أمام المنافس الإيراني أو الروسي، ولهذا التوجه ما يثمنه كخيار بديل عن التوجه غرباً الذي قوبل بالتجاهل والاستعمال الآني من جانب القوى الأوربية والأميركية.

 فناهيك عن المقومات الثقافية والتاريخية التي تمتلكها تركيا تجاه المنطقة، فإن هناك مقومات أيدلوجية أيضاً متمثلة في تماهي تيار الإسلام السياسي في معظم البلدان العربية مع تجربة «العدالة والتنمية» في تركيا، بصفة أن الحزب وريث رابح للتجربة الإسلامية هناك، ووصل إلى الحكم عبر الانتخابات.

من “صفر مشكلات” للأردوغانية

بالمقابل، ومع متغيرات السياسة الأميركية في المنطقة منذ بداية الألفية الجديدة، بداية بغزو العراق ثم محاولات الانسحاب منه، ومن ثم بطء استجابة أنظمة المنطقة وخاصة حلفاء واشنطن منهم لوتيرة تبدل الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، وهو ما شكل فرصة لشغل قوى إقليمية أخرى لهذا الفراغ الأميركي، وبالتالي مع المقومات التحفيزية السابقة لتركيا الخاصة بدول المنطقة وعلاقاتها التاريخية والثقافية والايدلوجية، لم يكن من الشاذ أن تستثمر أنقرة هذا الفراغ لصالحها.

خاصة وأن الدول العربية الأبرز، مصر والسعودية، لم ينظروا إليها على أنها منافس إقليمي بل كان على العكس، حيث مثلت أنقرة فرصة لضبط التجاذبات والتوازنات الإقليمية والدولية، وهو ما كان يتطابق مع ما تريده أنقره التي كانت تطبق سياسية »صفر مشكلات» مع دول الجوار، ولهذا لم يكن غريب أيضاً أن تشكل سوريا وقتها معبر أولي وأولوية للسياسات الخارجية التركية واتجاهها نحو المنطقة العربية، ومخاطبة وعي شعوب هذه الدول من على منبر القضايا القومية والإسلامية كقضية فلسطين، وتعزيز الخلفية الأيدلوجية عن «العدالة والتنمية» لدى نُخب وكثير من شرائح هذه الشعوب من بوابة التاريخ المشترك وكذلك الجغرافيا.

هذا كله بالإضافة إلى واقع التأثير الاقتصادي وفرص الاستثمار التي لم يكن من الممكن إغفالها من ناحية سوق كبير ومستهلك كالسوق العربي والخليجي، وهو في نفس الوقت ما وفر تعويضاً لخسارة تركيا لحصة مفترضة من السوق الأوربية.

سرعان ما تحول هذا التوجه “الناعم” لمحاولة هيمنة وإخضاع بعد متغيرات 2011، وذلك باستراتيجية توسعية متجاوزة حتى لأساسيات المنافسة الإقليمية، لمحاولة تفكيك وتركيب اجتماعات ودول المنطقة سواء عن طريق حلفاء محليين بشقيهم السياسي(الإخوان) والعسكري (داعش وأخواتها)، ثم لاحقاً بالتدخل العسكري عبر جماعات المرتزقة العابرين للجنسيات والحدود، وأخيراً القوات المسلحة التركية.

 شكلت هذه الاستراتيجية رافعة لطموح لعب تركيا في طورها الأردوغاني لدور دولي متجاوز لحدودها وجغرافيتها ومحيطها الحيوي حتى، وهو ما توازي أيضاً مع سلسلة تغيرات في بنية الحكم والإدارة للطبقة السياسية في تركيا بمختلف تنويعاتها، وغلبة التوجه الأردوغاني الصدامي الشعبوي على نظيره البراغماتي الواقعي حتى داخل التيار الإسلامي، وصولاً لانفراد كامل بالسلطة وإزاحة خصوم أردوغان ومنافسيه حتى داخل الحزب الحاكم.

امتدت هذه المتغيرات الأردوغانية لتبتلع باقي محددات السياسات الخارجية لأنقرة على مختلف الاتجاهات، والتي أصبحت بوصلتها مُلخصة في شخص وتوجهات أردوغان، وذلك كمحاولة منه لإدارة أزماته المركبة المتراكمة على مستوى الداخل وتصديرها للخارج، وكذلك اخفاقاته الخارجية المتنوعة، عبر جماعات ايدلوجية مدنية ومسلحة عابرة للجنسيات، خاصة بعد فقدان ظهيره الشعبوي الأهم في المنطقة العربية، متمثلاً في جماعة الإخوان المسلمين.

كبداية لعملية احتواء استراتيجية طويلة المدى لسياسات أنقرة التوسعية، وذلك  عبر سلم أولويات شكلت مصر ورؤيتها فيه مرتكز لمجابهتها سرعان ما تحول في الفترة ما بين 2014 إلى 2020 من مجرد احتواء وتفاعل دفاعي، لاستعادة المبادرة والمبادأة سواء في ليبيا أو في المتوسط، ومن ثم فرض ما عُرف بسياسة الخطوط الحمراء.

ليبيا..تحدي الاحتواء والاستجابة للمواجهة

 هندسة القاهرة للتحول السابق لم تأتي فقط كاستجابة ورد فعل على التصعيد التركي بمراحله وأهدافه المختلفة، ولكن صاحبها وعي بنمط التحركات الأردوغانية ودوافعها، التي ابتعدت بوتيرة طردية عن محددات وبديهيات اقتصادية وجيوسياسية، وذلك بالاستغراق في تصديق البروباغندا الدعائية والسرديات الشعبوية التي بموجبها تشكلت أجندة تركيا الخارجية، وليس طبقاً لبوصلة مصلحتها كدولة، ولكن لمصلحة منظومة حكم واستمرارية افرادها.

الشعور بفائض القوة هذه انعكس على مغامرات أردوغان منذ أواخر 2019 على مستوى البحر المتوسط، وذلك بعد إخفاقات ميدانية متعددة لوكلاء محليين لأنقرة والدوحة على الساحة الليبية، وهو ما دفع باستعجال التدخل التركي هناك، وفقاً لمقاربة تبتغي تكرار مسار الحل في سوريا واستنساخه في ليبيا، التي هي بالنسبة للسياسة الأردوغانية بمثابة ورقة متعددة الاستخدامات، وظفت خلال السنوات العشر الماضية كورقة ضغط وتفاوض وتوتير على مختلف الاتجاهات، سواء كان ذلك متعلق بعلاقة أنقرة بالاتحاد الأوروبي أو موسكو أو القوى الإقليمية في المنطقة.

فقد مثلت الساحة الليبية ومنذ 2012 قاعدة لوجستية لطموحات تركيا الأردوغانية الخارجية؛ ليس كساحة توسع ومد نفوذ مستندة على إحياء طموحات توسعية قديمة في جنوب المتوسط فحسب، ولكن كارتكاز ثانوي متعدد الاستخدامات طيلة السنوات الماضية لمختلف القضايا والملفات التي تشتبك وتتقاطع فيها أنقرة.

فسواء على مستوى قضايا اللاجئين والهجرة، أو اتخاذها مرتكزاً لانتقال العناصر المسلحة العابرة للحدود وتوظيفهم في مختلف الاتجاهات والساحات التي تشتبك فيها أنقرة وعلى رأسها الساحة السورية، وأخيراً تطوير استخدام هذه الورقة في نزاعات تقاسم الغاز وترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط، في إطار المساعي التركية لتحويل استراتيجية “الوطن الأزرق” لواقع فعلي .

يشكل إخفاق رهانات أردوغان في الانفراد بدور الوسيط الوحيد في عملية تدفق الغاز نحو أوروبا -وخاصة غاز المتوسط- وذلك عبر تسوية شاملة في سوريا، الدافع الرئيسي لتطوير الدور الوظيفي للساحة الليبية بالنسبة لأنقرة من ارتكاز ثانوي متعدد الاستخدامات لحامل رئيسي لإعادة التفاوض والمحاصصة على غاز شرق المتوسط، والذي تمثل في الاتفاقية التي وقعتها مع “حكومة الوفاق” مطلع العام الجاري بشأن ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا، والتي حسب الخرائط التركية تضرب مشروع خط “ميد إيست” الذي يهدف لنقل ما يزيد عن 10 مليارات متر مكعب سنويا إلى أوربا.

أي باختصار تتمثل استراتيجية أنقرة في المس بسيادة وأمن القاهرة سواء عبر دعمها وتوظيفها لجماعة الإخوان والعنف المسلح في الداخل المصري، أو أمنها القومي وأمن حدودها في ليبيا ومحاولات تمددها في البحر الأحمر عبر بوابة الخرطوم وبضوء أخضر من الرياض حتى الإطاحة بنظام عمر البشير، وهو ما كان يهدف في النهاية إلى ضغط لإعادة المحاصصة والتفاوض واعتبار تركيا في تفاهمات واتفاقيات التنقيب عن الغاز ونقله وترسيم الحدود البحرية الاقتصادية شرق وجنوب المتوسط.

توافق التصعيد في الساحة الليبية مع خطاب أردوغان السياسي وسرديته الدعائية الحاشدة العابرة للحدود، والتي فقدت كثيراً من مصداقيتها بين مؤيديه وحلفاؤه داخلياً وخارجياً بعد تسوية “الأمر الواقع” في سوريا مع أو عبر روسيا؛ وذلك على أرضية المصالح الاقتصادية المشتركة وتحديداً فيما يخص خطوط إمداد الغاز، التي أدت إلى تلاقي مرحلي مع موسكو فيما يخص مستقبل امدادات الطاقة نحو السوق الأوربية، وانخفاض نفوذ وسقف الفعل الموسكو في جنوب المتوسط ومع دوله -التي تحد سقف مناوراتها الانضواء تحت مظلة المصالح الأميركية- لضمان عدم تفعيل تقليص اعتماد أوربا على الغاز الروسي واستبداله بغاز المتوسط في المستقبل القريب، وهو الدور الاقتصادي الحيوي الذي سعت أنقرة للاستحواذ عليه خلال العقد الماضي، سواء استخراج وتوريد غاز المتوسط لأوربا، أو دور الوسيط المتحكم في “hub” الطاقة الأوربي سواء كان غاز المتوسط أو غاز الخليج أو الغاز الروسي.

وهنا يمكن ملاحظة أن بعض محددات التحرك المصري تجاه الأطماع الأردوغانية وخاصة في ذروتها الأخيرة مع بدايات 2020، لم تقف فقط عند حد انتظار استبيان ما سيحدث في واشنطن، ولكن بادرت ومن موقف دفاعي مشروع إلى تحريك أدوات قوتها العسكرية، متمثلة بشكل رئيسي في فاعلية أسطولها البحري في فرض السيادة على مناطق ترسيم الحدود بينها وبين اليونان وقبرص، كذلك التوسع في المناورات والتدريبات العسكرية بشكل منفرد أو مشترك مع مختلف الدول الأوروبية، وامتداد ذلك حتى البحر الأسود وليس فقط شرق وجنوب المتوسط.

 بتوقيت القاهرة

القاهرة بدورها وأمام هذا التصعيد التركي، وإدراك تضارب أولويات إدارته ما بين دواعي جيوسياسية واقتصادية، وما بين حسابات شعبوية ضيقة ترتبط بصراعات وتنافس في الداخل التركي بمختلف مستوياته، وأن الخرق التركي/القطري بمختلف تجلياته قد بُني على ثغرات ناتجة عن تباين أولويات وتقديرات القاهرة وحلفاءها الإقليميين، الذي جمعتهم سنوات ترامب في صيغة شراكة لدودة، كانت مفاعليها هي الأبرز على مستوى الملف الليبي، سواء من حيث إدارتهم للصراع هناك على أرضية أنه انعكاس للخلافات الخليجية الخليجية، أو عدم الاهتمام بل والانحياز في بعض المراحل لأنقرة والدوحة، وذلك ضمن سلسلة من مناورات الضغط والمساومة التي مارسها حلفاء القاهرة وفق أولوياتهم، وليس أولوياتها متمثلة في السيادة والأمن القومي، وهي المحددات التي أدارت الأخيرة صراعها مع أنقرة وفقها، وحشدت على أساسها بشكل تصاعدي مواقف أوربية ودولية متطابقة أو متقاطعة مع محدداتها التي هي كالآتي:

غاز المتوسط، ويرتبط بإسرائيل وشمال افريقيا ككل وامتداد ذلك بين روسيا وواشنطن والاتحاد الأوربي والتنافس على استخراج وتصديره إلى مختلف الأسواق الأوربية والعالمية.

رعاية ودعم تركيا أردوغان لجماعة الإخوان المسلمين واستخدامهم كورقة في صراعها مع مصر.

السياسات الإقليمية لتركيا في الخليج عبر قطر، وسياسة القضم المتبعة في العراق وسوريا، وهو ما تتقاطع معه القاهرة مع بعض حلفائها، وتتنافر مع بعضهم الأخر وذلك لاختلاف التقديرات والأولويات فيما بينهم، وعلاقة بعض من هؤلاء الحلفاء -وتحديداً الرياض- مع أنقرة والدوحة في سياق أولوية أهم تتمثل في المخاطر التي تراها السعودية فيما يخص إيران على مستوى إقليمي أو فيما يتعلق بمستقبل علاقاتها/نزاعها مع واشنطن.

دعم الإرهاب والجماعات المتطرفة ومظاهر المرتزقة العابرين للحدود والجنسيات، واستغلال أزمات اللاجئين وتوظيفها سياسياً على مختلف المحاور.

مثلت ليبيا الساحة المثالية لأنقرة لتفعيل السابق بوتيرة مختلفة تدرجت ما بين كونها ورقة متعددة الاستخدامات في نمط إدارة اردوغان لمختلف الملفات المتعلقة بالمنطقة أو بغيرها، وما بين كونها موطئ قدم متقدم تجاه القاهرة وإدارة الصراع معها بالتصعيد أو بالتهدئة، وهو ما قابلته القاهرة بسياسة المواجهة والانفتاح للحلول السلمية والتسوية ولكن شريطة أن لا تتجاوز التحركات التركية “خطوط حمراء” أعلنت عنها الحكومة المصرية بشكل واضح، ورسمتها ميدانياً وسياسياً عبر المحددات السابقة.

وانطلاقاً من أن أي حل في ليبيا يجب أن يراعي محددات الأمن القومي المصري، والتي يمكن إنجازها عبر انهاء نمط استخدام تركيا ومختلف الأطراف الإقليمية لليبيا كساحة لتصفية معاركهم وورقة متعددة الاستخدامات استغلالاً لغياب شكل الدولة هناك، وبالتالي كان التقاطع بين مقررات “إعلان القاهرة” وبين مسارات التفاوض الأممي، والتفاهمات الإقليمية والأوربية وخاصة مع فرنسا، تنطلق من هذه الأرضية التي بطبيعة الحال تصب في صالح مصر بتحقيقها.

إدراك الحكومة التركية لميل التوازن لصالح القاهرة في ليبيا من منظور جيوسياسي ولوجيستي يمكنها في الحد الأدنى من إطالة أمد الصراع لما يفوق سقف الفعل التركي، وخاصة أن المتغيرات السابق ذكرها جعلت إعادة ترتيب أولويات أنقرة يأتي من موقع الاستجابة وليس الفعل وحسب توقيت القاهرة وحلفائها وشركائها في مختلف الملفات الإقليمية، وخاصة مع حالة العزلة الخارجية التي تسببت فيها سياسات أردوغان، واستهلاك نمط تحميل وتصدير الأزمات الداخلية للخارج، ناهيك عن متغيرات أميركية ودولية تجعل الاستمرار في سياسة المساومة العابرة للحدود والمحيط الحيوي التي اتبعها مع القوى الكبرى غير مُجدية، وأضحى الاستمرار فيها في عهد بايدن نوع من المقامرة.

ولضمان تحقق ذلك دون أن تكون مناورة معتادة من أردوغان، سواء كتكتيك مؤقت، أو يهدف لتكرار سيناريو “استانة” وغيره من سيناريوهات الحل في سوريا بكل تفاصيلها المعقدة المتنامية، والمرتبطة بروافد إقليمية ودولية جعلت التسوية في سوريا ليست هي الأجندة ولكنها بند من أجندات أشمل وعلى محاور متعددة سواء الخاصة بالطاقة وإعادة الإعمار ومصير الجماعات الإرهابية وغيرها.

ولهذا اعتمدت القاهرة سياسة طويلة الأمد نسبياً تعتمد في التعاطي مع الاستدارة التركية وفق تدرج وفصل للملفات الخلافية بين البلدين، فمع إدراك مثلاً أن التصعيد التركي في ليبيا بمراحله كان يرتبط بحزمة أهداف متنوعة ومتغيرة ليست ليبيا والتسوية فيها محورها الأساسي، بل كساحة تصعيد أو تهدئة لأهداف أكبر مثل ترسيم الحدود البحرية وغاز المتوسط،، وهو ما تجنبت القاهرة التورط فيه بمنهجية التدرج المرحلي المتمهل في التحقق والتأكد من مجمل مفاعيل هذه الاستدارة التركية على مختلف المستويات الميدانية والاقتصادية والسياسية في ليبيا، ومن ثم مع إنجاز هكذا خطوة يمكن فيما بعد البدء في التطرق لباقي محاور الخلاف التركي المصري – رعاية أنقرة لجماعات العنف المسلح كمثال- وبتدرج مماثل الهدف منه بناء ثقة متبادلة لاستعادة حدود دُنيا من قنوات الحوار بين القاهرة وأنقرة، لا تعني حال تحققها انتهاء الصراع بين العاصمتين بين ليلة وضحاها.

محصلة واستشراف

تتيح المفارقة الخاصة بتحقق ذروة حجم التبادل التجاري، وكذلك ذروة التوتر السياسي والعسكري بين مصر وتركيا، في نفس الوقت، منظور واقعي لفهم حدود النزاع بين البلدين خارج منظور الاستقطاب الدعائي والشعبوي؛ فهذه المفارقة تدل أن هناك اتفاق ضمني بأن لا يمتد الخلاف السياسي إلى حرب اقتصادية ليس فيها فائز، وذلك لبديهيات تتعلق بطبيعة اقتصاد البلدين، وكذلك ظرف موضوعي يرتبط باضطرابات عميقة في الاقتصاد العالمي تقارب فترة الكساد الكبير.

وهو ما يفرض على كل من البلدين وخاصة مع تفشي وباء كورونا ضبط صراعهما ضمن سقف الممكن واقعياً وليس الاستغراق في البروباغندا وتحولها لبرنامج سياسي وحيد دون مقومات جيوسياسية ورؤية استراتيجية، وهو ما ألتزمت به القاهرة منذ 2014، وتأخرت عنه أنقرة حتى أواخر 2020.

بالإضافة إلى هذا فإن ثمة إشارات واضحة من منهجية مصر الخاصة بإدارة محاور صراعها مع تركيا والتي جوهرها التدرج وبناء الثقة وفصل الملفات، مفادها بخلاف استعادة المبادرة والمبادأة والإجماع الدولي والإقليمي، هو استعادة المؤسساتية في صنع واتخاذ القرار، وهو ما تقلص لحدود التلاشي في سياسات تركيا الأردوغانية لحساب الشراكاتية وشبكة مصالح مرتبطة بشخصيات، وحسب توقيتات انتخابية أو تحميل نتائج إخفاقات داخلية للخارج.

يفسر السابق تصريحات مصر الرسمية حول ما ردد مسؤولين أتراك عن المحادثات بين البلدين، ونفي وزارة الخارجية المصرية مثلاً عن وجود أي مفاوضات أو محادثات أو قنوات اتصال رسمية، وهو ما يدل على أن القاهرة ترمي إلى أن تسوية بخصوص أي من محاور خلافاتها مع أنقرة يجب أن تكون لها ضمانة مؤسساتية لا ترتبط بشخص أو حزب، بل بمؤسسات تشريعية ودستورية، خاصة مع السيولة المستمرة في الداخل التركي.

ويتناسق نمط إدارة الأزمات هذا مع ما يمكن اعتباره اهداف ذاتية خاصة بنظام الحكم في القاهرة من ناحية إثبات القدرة على التصدي للقضايا والتحديات مباشرة وليس عبر تسوية من طرف ثالث وخاصة مع غياب أميركي شبه تام عن ما يدور في ليبيا، وكذلك فرض الأولويات من منطلقات أمنية وسيادية انطلاقاً من مقدرات جيوسياسية وديموغرافية وعسكرية، وليس دعائية وشعبوية فقط، كبوصلة لإدارة صراع مع نظام الحكم في تركيا.

وهو ما أوضح باطراد أن الاستدارة التركية جاءت كإجبار وليس من بين خيارات متعددة، سواء فيما يتعلق بليبيا أو فيما يتعلق بغاز شرق المتوسط ومستقبل جماعات العنف المسلح التي ترعاها أنقرة، وهو ما يُعد سبق إقليمي في طريقة مجابهة وتقويض الطموحات والمغامرات الأردوغانية، التي تعتمد نمط إثارة المشاكل ومن ثم الضغط بها للتفاوض على ملفات أخرى، وهو ما حدث في ليبيا مع فارق إصرار القاهرة حدوث تقدم وفق رؤيتها النابعة من مصالحها في ليبيا، وملائمة ذلك التوجه لحسابات المجتمع الدولي -خاصة الاتحاد الأوربي- متعددة المحاور في شمال أفريقيا وجنوب المتوسط.

يمتد السابق إلى استثمار هذا التقدم المصري والتراجع التركي بشكل متعدد المحاور مع دول أوربية واقليمية وازنة عبر محاور لا تقتصر على غاز شرق المتوسط، وذلك عبر موقع الشريك وليس التابع، وهو ما يعد بشكل ما استعادة مصر لجزء من قدراتها على المبادرة والفعل بمنظور استراتيجي بعيد المدى، والتي كانت شهدت تدهوراً منذ مطلع الألفية الجديدة.

ومع غياب شبه تام لدور سياسي أميركي فيما يخص ليبيا وشرق المتوسط، فإن هناك ثمة فرصة للقاهرة لتعظيم مكسبها ليكون أحد محاور تطوير العلاقات بينها وبين واشنطن؛ حيث أن حزمة تحركات القاهرة بما فيها التلويح بالرد العسكري لم تتعارض مع تحولات السياسة الأميركية في المنطقة وخاصة في عهد إدارة الرئيس الجديد، جو بايدن.

فناهيك عن سوء العلاقات بين هذه الإدارة وأنقرة أردوغان فإن هناك مؤشرات تدل على  تموضع القاهرة مع سياسات إدارة بايدن بشكل أكثر ملائمة واستيعاباً  من كل من خصومها وحلفائها لسلم أولويات واشنطن في المنطقة، واستعادة المؤسساتية بعد 4 سنوات من شركاتية ترامب، وما يقارب عِقد قبله من التخبط وبحث محددات جديدة للعلاقات بين البلدين، وهو ما برز من خلال أولى قرارات الإدارة الجديدة الخاصة بمصر، وهو التصديق على صفقة أسلحة بحرية متقدمة من ضمنها صواريخ “رام”، التي تكرس ابقاء التوازن العسكري البحري في المتوسط لصالح القاهرة.

عن "مركز الإنذار المبكر"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية