حسن نافعة
م يكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مضطراً لاتخاذ قرار بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة في 24 حزيران (يونيو) الجاري، أي قبل نحو عام ونصف من موعدها المعتاد. لذا، يتوقع أن يترتب على إقدامه على اتخاذ قرار على هذا القدر من الشجاعة التي لا تخلو من أخطار تداعيات بعيدة المدى ليس فقط على مستقبله السياسي ومستقبل حزب العدالة والتنمية الذي يقوده، ولكن أيضاً على مستقبل الدولة التركية ذاتها وعلى دورها كلاعب مهم على الساحتين العالمية والإقليمية.
ففوزه في هذه الانتخابات سيؤدي ليس فقط إلى إعادة تجديد شباب حقبة أردوغانية كانت قد بدأت تظهر عليها أعراض الشيخوخة، ولكن أيضاً إلى تحويل تركيا إلى رقم صعب في نظام دولي يتسم بقدر كبير من السيولة وعدم اليقين. أما خسارته إياها فسوف يؤدي ليس فقط إلى تحويل هذه الحقبة إلى مجرد جملة اعتراضية في تاريخ حافل، وإنما أيضاً إلى تفاقم الصراعات داخل الدولة والمجتمع في تركيا، وربما تحولها سريعاً إلى حرب أهلية، الأمر الذي سيضيف إلى سلسلة الصراعات الممتدة بطول مــنطقة الشرق الأوسط وعرضها، حلقة جديدة أكثر خطورة.
ثلاثة عوامل ساعدت في وصول تركيا إلى هذا المفترق:
الأول: داخلي، يتعلق بتأثير التحولات الناجمة عن وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، بخاصة ما يتعلق منها ببنية النظام ودخول قضية الهوية طرفاً في صلب العملية السياسية الجارية في تركيا منذ فترة ليست بالقصيرة.
والثاني: إقليمي، يتعلق بتأثير التحولات التي طرأت على النظامين العربي والشرق أوسطي، بخاصة عقب اندلاع ثورات «الربيع العربي».
والثالث: دولي، يتعلق بتأثير التحولات التي طرأت على نظام دولي يبدو في حالة سيولة خطرة، خصوصاً بعد قرار روسيا التدخل عسكرياً في الأزمة السورية ووصول ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة الأميركية.
كان حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان، والذي يقود العملية السياسية في تركيا منذ ما يقرب من عقدين من الزمان، قد نجح في تحقيق ثلاثة إنجازات كبرى مكنته من الهيمنة على الحياة السياسية والحزبية في تركيا دون انقطاع طوال هذه الفترة:
الأول: استقرار سياسي أدى إلى ترسيخ دعائم النظام الديموقراطي بالتزامن مع تراجع دور المؤسسة العسكرية التي كانت قد دأبت على القيام بانقلابات دورية على الحكومات المنتخبة ديموقراطياً (بواقع انقلاب كل عشر سنوات تقريباً في 1960، 1971، 1980، 1997)
الثاني: ازدهار اقتصادي أدى إلى تحول تركيا إلى قوة اقتصادية واعدة، بعد أن أصبحت واحدة من أكبر القوى الاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط وأهمها، وبدأت تلج ساحة المنافسة على مواقع متميزة على قمة النظام الاقتصادي العالمي.
الثالث: استعادة هوية ثقافية وحضارية كانت قد فقدتها، هي الهوية الإسلامية العثمانية، وذلك بعد سنوات طويلة من علمانية معادية للدين بدت خلالها تركيا كأنها حسمت قضية الهوية فيها نهائياً وإلى الأبد لمصلحة الانتماء إلى الحضارة الأوروبية الغربية.
كان ذلك قبل وقوع الانقلاب العسكري الفاشل في منتصف عام 2016. فقد أدى وقوع هذا الانقلاب، وما أعقبه من عمليات انتقامية واسعة النطاق شملت اعتقال عشرات الآلاف من رجال القوات المسلحة والأجهزة الأمنية والقضاء والإعلام والمؤسسات التعليمية وغيرها من المؤسسات، إلى تدهور وانتكاس النشاط الاقتصادي وعودة الشعور بغياب الأمن وعدم الاستقرار السياسي، الأمر الذي ذكر الجميع بهشاشة دعائم النظام التركي الجديد وعدم رسوخها ومحدودية ما حققه من إنجازات على الصّعد السياسية والاقتصادية والثقافية كافة. صحيح أن أردوغان تمكن بأعجوبة من استعادة السيطرة على الأوضاع وأمسك بكل أطراف اللعبة السياسية من جديد، بل وراح يحدث تغييرات جوهرية في بنية النظام السياسي ذاته، حولته من نظام برلماني إلى نظام رئاسي، إلا أن سماته الاستبدادية والفردية المتنامية، خصوصاً بعد انفراد رجب طيب أردوغان بالهيمنة المطلقة على غالبية مفاصله، أدت إلى تأكّل شرعية نظامه بشدة في نظر العالم الخارجي، ومن ثم بدا كأن سقوطه بدا مسألة وقت. وأظن أن إدراك أردوغان هذه الحقيقة كان أحد الأسباب الأساسية التي دفعته إلى التعجيل بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة.
على صعيد آخر، يلاحظ أن أردوغان كان سعى باستماتة إلى الاستفادة من التحولات التي طرأت على النظام الإقليمي، خصوصاً في ظل تشرذم النظام العربي، من ناحية، واشتداد المنافسة بين القوى الشرق أوسطية الرئيسية على تقاسم النفوذ عليه. فقد تمكن أردوغان، حتى قبل اندلاع ثورات «الربيع العربي»، من توظيف الصراع العربي - الإسرائيلي للظهور بمظهر القائد الإسلامي المؤيد القضية الفلسطينية العادلة، الأمر الذي ساعد في مزيد من انكشاف النظام الإقليمي العربي، والذي بدا ليس فقط عاجزاً عن الدفاع عما يعتبره قضيته المركزية وإنما مساهماً أيضاً في تجويع الشعب الفلسطيني المحاصر في قطاع غزة. وحين جاءت ثورات «الربيع العربي»، حاملة جماعة «الإخوان المسلمين» إلى السلطة في عدد من الدول العربية، عبر موجاتها الأولى، بدا النظام التركي حينذاك، بإنجازاته التاريخية الباهرة، نموذجاً يحتذى من جانب شعوب عربية ثائرة وباحثة عن التغيير، بالتالي مؤهلاً في شكل طبيعي لقيادة المنطقة إلى بر الأمان. هنا بلغت طموحات أردوغان العثمانية عنان السماء، خصوصاً أنها بدت متناغمة مع طموحات دول أوروبية كثيرة راغبة في كبح جموح التطرف الإسلامي والساعية إلى بقاء منطقة الشرق الأوسط ليبرالية الهوى وأطلنطية في ارتباطاتها السياسية في الوقت ذاته. غير أن الانتكاسة التي شهدتها تلك «الثورات»، خصوصاً بعد سقوط حكم جماعة «الإخوان» في مصر وصمود النظام السوري عقب تدخل روسيا عسكرياً إلى جانبه، سرعان ما أطاحت هذه الطموحات ونحتها جانباً. وحين وقع الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا، بدا نظام أردوغان ذاته في مهب الريح وغير قادر على الصمود في وجه ما اعتبره البعض «ثورة مضادة» لإجهاض أحلام الربيع العربي! ومن الطبيعي، في سياق كهذا، أن يبدو قرار أردوغان اللجوء إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة كأنه محاولة ليس فقط لتأكيد شرعية نظامه المنقوصة في الداخل التركي وإنما أيضاً لاستعادة دور تركيا المتأكل على الصعيد الخارجي والولوج إلى حلبة المنافسة الإقليمية المحتدمة، مع كل من إيران وإسرائيل، لوراثة تركة نظام عربي راح يدخل بالفعل في غيبوبة الاحتضار.
على صعيد ثالث، يلاحظ أن تركيا الأردوغانية لم تكتف بمحاولة التأقلم مع التحولات التي طرأت على نظام دولي بدا في حالة سيولة خطرة، وإنما لعبت دوراً واضحاً في التعجيل بهذه التحولات. فقد رفضت مجاراة الاندفاع الأميركي الأحمق للرد على أحداث أيلول (سبتمبر) 2001، والتي سعت الولايات المتحدة إلى ااستخدامها ذريعة لشن «حرب كونية على الإرهاب»، وقاوم أردوغان بشدة ضغوط راحت إدارة جورج دبليو بوش الابن تمارسها لتحويل تركيا إلى قاعدة متقدمة للولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب، باعتبارها عضواً موثوقاً فيه في حلف شمال الأطلسي، ومن ثم رفض البرلمان التركي التصريح لهذه الإدارة باستخدام قاعدة أنجرليك العسكرية لغزو العراق وإسقاط صدام. وبعد أن كادت تركيا الأردوغانية تتصادم عسكرياً مع روسيا البوتينية على الأراضي السورية، بخاصة بعد إسقاط إحدى المقاتلات الروسية على الحدود مع سورية، إذا بها ترد على التقارب المتزايد للولايات المتحدة مع منظمات كردية مسلحة تعتبرها تركيا منظمات إرهابية بالتحالف مع كل من روسيا وإيران والسعي إلى ضبط الأوضاع في سورية وضمان عدم انفلاتها من جديد. هكذا، راحت تركيا تتصرف بحرية وفي استقلال نسبي كأنها ليست عضواً مهماً وفاعلاً في حلف دولي تقوده الولايات المتحدة. ولا شك في اندفاع ترامب وراء شعار «أميركا أولاً» وإصراره على مطالبة حلفائه بتحمل جانب كبير من نفقات الأمن، على إحداث تقارب أكبر مع روسيا إلى حد عدم التردد في إبرام صفقة تسلح ضخمة للحصول على منظومة الدفاع الجوي الروسية المعروفة باسم إس 400. في سياق كهذا، يبدو قرار أردوغان إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة كأنه يستهدف توسيع نطاق هامش المناورة لتمكينه من التعامل باستقلالية أكبر مع تحولات النظام الدولي.
تشير استطلاعات الرأي إلى أن فرص أردوغان في الفوز بالمقعد الرئاسي، وكذلك فرص حزب العدالة والتنمية في الفوز بنسبة مريحة من المقاعد في البرلمان، تبدو كبيرة. وبصرف النظر عن مدى دقة هذه الاستطلاعات من عدمها، ففي تقديرنا أن تركيا بعد هذه الانتخابات ستكون مختلفة كثيراً عما كانت عليه قبلها: لاعب إقليمي ودولي أشد بأساً وثقة في النفس، أو دولة قابلة للانزلاق سريعاً نحو مصير الدول الفاشلة ذاته في المنطقة، وهي كثيرة.
عن "الحياة"