ما لا تخبرنا به الصراعات الجارية في أوكرانيا وسوريا وليبيا وناغورنو-قاراباخ عن مستقبل الحرب

ما لا تخبرنا به الصراعات الجارية في أوكرانيا وسوريا وليبيا وناغورنو-قاراباخ عن مستقبل الحرب


30/06/2021

محمد العربي

أثارت الصراعات الجارية في أوكرانيا وسوريا وليبيا وبين أرمينيا وأذربيجيان حول ناغورنو-قاراباخ فضول الباحثين المهتمين بمستقبل الحرب ودور التقنيات العسكرية في تشكيله. دفع هذا الفضول البعض إلى القول إن مثل هذه الحروب، المحدودة وغير المتماثلة أو الهجينة، تحمل بذور تحولات أوسع في حروب المستقبل خاصة مع استخدام أطراف هذه الحروب تقنيات أحدث.

إلا أن هذه التقدير دفع اتجاهًا آخر من الباحثين إلى التحذير من “المبالغة” في التأكيد على دور التقنيات في تغيير مستقبل الحرب. ويعبر التقرير الصادر عن مرصد الدفاع والذكاء الاصطناعي بجامعة هيلموت شميت- هامبورغ، والمعنون بـ «كن حذرًا من الضجيج: ما (لا) تخبرنا به الصراعات العسكرية في أوكرانيا وسوريا وليبيا وبين أرمينيا وأذربيجان عن مستقبل الحرب»، عن هذا الاتجاه الأخير.       

يعتمد التقرير في تناوله للصراعات الأربعة على تحليل مركب لدور الطائرات المسيرة “بدون طيار” والحرب الإلكترونية والدفاع الجوي، وذلك من خلال إعمال برنامج “جوست بلاي” وهو برنامج ذكاء اصطناعي لمحاكاة هذه التقنيات ودورها في العمليات العسكرية في الحروب الأربعة. يجادل مؤلفو التقرير بأن هذه التقنيات لم تكن نقطة تحول أو بمثابه تغير في قواعد الحرب GAME CHNGING. بل على النقيض من هذا ما زالت هذه الحروب تدار بنفس القواعد السائدة دون أن تشـي بإحداث تحول كبير. خاصة أن هناك حالات خاصة لا يمكن تكرارها أو تعميمها. 

على سبيل المثال دور العامل الجغرافي في الحدود التركية والسورية وقدرة تركيا على تسيير دفاعات جوية وطائرات مسيرة بشكل أكثر كفاءة، أو طبيعة الصراع في الساحة اللبيبة الخفيفة سكانيًا. أو هيمنة روسيا على شبكات الاتصال الأوكرانية، مما جعلها تخوض حربًا إلكترونية أكثر كفاءة.

كذلك، يؤكد فحص العمليات العسكرية في الصراعات الأربعة على حقيقة أن الطائرات المسيرة وحدها لا يمكن أن تحسم الصراعات؛ فمن الضروري تضمينها في نظام دفاعي/ هجومي أشمل وأكثر تركيبًا. يؤكد هذا الاستنتاج أن التدخل الروسـي في سوريا، والتدخل التركي في الصراع بين أذربيجان وأرمينيا، قد جعل من الحرب خدمة War as a Service بمعنـى أنها نوع من الخدمات المتبادلة بين الحكومات، وهو ما يقع في دائرة السياسـي ويخضع لقتديرات “غير تقنية”. بالإضافة إلى هذا، أكدت الصراعات الأربعة على أن العامل البشري سيظل الأكثر تأثيرًا وحسمًا في مسار العمليات العسكرية. ففي الحالات الأربعة لم يحدث وأن تنازل البشر عن دورهم في الحرب، سواء في عمليات التخطيط وإدارة المعارك، أو أن شاركوا الآلات في إدارة كل مقدرات الحرب.

تقييم اتجاهات الابتكار العسكري الحالية

التعريف الأبسط للابتكار العسكري هو “التغيرات الحادثة في الطريقة التـي تتحارب وتنتصر بها الجيوش”. يعنـي هذا وجود عناصر فريدة يمكن ترجمتها إلى مزايا عسكرية أو قتالية. وقد تتضمن هذه العناصر تغيرات ثقافية أو تنظيمية أو تقنية. وهو ما ينبغي النظر إليه في سياق المتطلبات العملياتية والاستراتيجية الأوسع. ولكن من الضروري النظر إلى الابتكار العسكري على أنه عملية مستمرة وليست نتيجة نهائية ثابتة. وبالتالي يمكن التوسع فيها وتعزيزها من خلال الداعمين أو تحجيم أثرها وإلغائها من خلال الخصوم.

على سبيل المثال قد تقلد دولة تكتيكات وتسعى إلى امتلاك التقنيات التـي توفر مزايا عسكرية لخصومها. إلا أن التقليد دون تطوير مفاهيم قتالية للعمليات لا تعنـي بالضرورة الابتكار، فالكل حاليًا قادر على امتلاك طائرات بدون طيار. تراكم هذه الابتكارات في حد ذاته قد يؤدي إلى وجود ثورة في الشؤون العسكرية التـي يمكن الإشارة إليها باعتبارها مزيج من الابتكارات التقنية والتنظيمية والتكتيكية والمفهومية. وبالتالي، لا يعمل الابتكار العسكري إلى سياق أكثر استعدادًا لتوظيفه. 

يستدعي هذا، الحديث عن ثلاثة جوانب للابتكار العسكري؛ الأول هو بيئة الابتكار والتـي تشمل السياق الجيوستراتيجي والسياق السياسـي الاجتماعي. والثاني هو جوانب القوة الصلبة والثالث هو جوانب القوة الناعمة.

البيئة: وتبدأ من السياق الثقافي والاجتماعي والسياسـي الذي تصاغ من خلاله قرارات الحرب، وتعمل فيه العلاقات المدنية العسكرية كإطار تنظيمي لإدارة الحرب، فضلاً عن تشكيله لعقلية المنخرطين في عمليات صنع القرار السياسـي والعسكري على السواء. وتتضمن البيئة أيضًا آليات التفاعل في النظام الدولي والإقليمي، ووضعية الدولة، وتحالفاتها. وبين هذين السياقين تود الثقافة الاستراتيجية ومقدار جاهزية وطموح كل طرف دولي واستجابته للتحديات المفروضة عليه.   

جوانب القوة الناعمة: التداخل بين التهديدات وتصور التهديدات والعقيدة العسكرية والخبرات القتالية. هناك أيضًا جوانب متعلقة بالرغبة في المخاطرة وقبول المتغيرات أو رفضها وهو ما يتوقف على الثقافة العسكرية السائدة وهي الهويات والأعراف والقيم التـي تستطبنها المؤسسات العسكرية. وهو ما يمكن التعبير عنه بحجم المرونة الممكنة تجاه تبنـي أو رفض تغيرات تقنية أو تكتيكات تدريبية أو قتالية معينة. على سبيل المثال، مدى قبول سلاح الدفاع الجوي والطيران لعمل الطائرات المسيرة، وتأثيره على مكانة ودور الطيارين.    

جوانب القوة الصلبة: من السهل التركيز علي دور التكنولوجيا في تطوير القوة الصلبة والتـي تقوم على تطوير متعدد الأبعاد للدقة والسرعة والقدرة على التدمير. إلا أن الأهم هو إيجاد توافق بين العناصر التقنية والتنظيمية والمفهومية (عقيدة القتال). وهو ما يقود إلى معضلة القبول في مقابل الابتكار. لا تتقبل الجيوش، كهياكل تنظيمية للتقنيات بسرعة، أو بدرجات متفاوتة. وقد يؤدي القبول بتقنيات قتالية جديدة إلى إخضاعها لنفس “أساليب” الحرب التقليدية، وهو ما يلغي أثرها.

من ناحية أخرى، قد يؤدي الانتشار الواسع للتقنيات، مع فشل المبتكرين في الحفاظ على حصرية التقنية، أو حاجة الشركات إلى بيع التقنيات، إلى أيضًا إلغاء أثرها. وربما نجد التوسع في استخدام الطائرات المسيرة تعبيرًا عن هذه المعضلة؛ حيث تتحول إلى تكنولوجيا أرخص.            

تقييم تأثير التقنيات الجديدة على الصراعات الجارية

حرب روسيا- أوكرانيا

 وقعت هذه الحرب بالأساس بين الحكومة المركزية في كييف والانفصاليين الروس في جمهوريتي “لوهانسك” و”دونستك”، إلا أن روسيا كانت طرفًا رئيسًا في الحرب، وإن لم تعلن تورطها المباشر فيها، إلا من خلال الانفصاليين وشركة فاغنر الذين منحوا التدخل الروسـي بطاقة بيضاء. ووقع معظم القتال بين القوات الأوكرانية والقوات الروسية الانفصالية في منطقة “دونباس” المجاورة لشبه جزيرة القرم، وهي منطقة واسعة تتكون من سهول ومراكز حضرية صغيرة ومتوسطة، وهو ما جعل القتال يأخذ شكل المعارك التقليدية.

يعود نجاح روسيا والقوات الانفصالية في هذه الحرب إلى مجموعة من القدرات التـي تم دمجها سويًّا على مستوى العمليات. كانت الحرب فرصة لموسكو لاختبار فاعلية الطائرات المسيرة واستخدمها بشكل مكثف ضد القوات الأوكرانية المكشوفة للطائرات الهجومية والمدفعية، والدفاع الجوي الذي حيد عمل القوات الجوية الأوكرانية، ثم الحرب الإلكترونية التـي سمحت للانفصاليين شن حرب أعصاب ضد الأوكرانيين. كذلك، ساعد ميدان المعركة توظيف عقيدة “الاستطلاع-الهجوم” السوفياتية؛ حيث منحت الطائرات المسيرة القوات المدرعة القدرة على تحديد أهدافها بسهولة ثم التقدم للاستيلاء على مساحات من الأرض.

استطاعت نظم الحرب الإلكترونية الروسية أن تقوض وتعطل وتربك أجهزة الاستطلاع الأوكرانية. وفي هذا السياق، تمكن الروس من توظيف شبكات الاتصال الأوكرانية للعمل ضد الجيش الأوكرانية وشن حملات من التضليل والدعاية من خلالها، على نحو جعل الجيش الأوكراني أن يلجأ إلى الشبكات الخاصة والتجارية. ومن خلال التشويش حيد الروس عمل المسيرات الأوكرانية وتلك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا؛ ومن ضمن هذه الطائرات 70 طائرة مسيرة كانت الولايات المتحدة قد أهدتها سابقًا لأوكرانيا بغرض الاستطلاع والتجسس. لكن هذه المسيرات ذات التقنيات الغربية المتطورة وقفت عاجزة أمام النظام الهجومي المتكامل الذي بنته موسكو والانفصاليون التابعون لها.         

الحرب السورية

تعتبر الحرب السورية بمثابة حقل تجارب مثالي لتقنيات العسكرية الجديدة التي ابتكرتها الدول المنخرطة في الحرب خاصة روسيا وتركيا. يعود هذا الوضع إلى استمرار الحرب إلى فترة زمانية طويلة نسبيًّا مرت بمراحل مختلفة بدأت بمحاولة قمع التمرد (2011-2015) ثم تدويل الحرب مع دخول روسيا الصراع رسميًّا (2015-2018) وصولاً إلى المرحلة الحالية؛ حيث يسعى الجيش السوري إلى فرض سيطرته على معظم الأراضـي مع محاولة تصفية جيب الاحتلال التركي وتطويع المسألة الكردية في عملية سياسية أوسع تقوم فيها روسيا وتركيا وإيران بالتفاوض على النفوذ في سوريا.

كذلك ساعدت الجغرافيا السورية المركبة والتـي تتراوح بين المناطق الصحراوية الخفيفة سكانيًّا في الشرق إلى المناطق السهلية كثيفة السكان جنوبًا والجبلية شرقًا على تشجيع أطراف الصراع على اختبار مفاهيم قتالية وتنظيمية جديدة.

في الحرب السورية، تم استخدام وتجريب حوالي 38 طراز من الطائرات المسيرة لأغراض هجوم وأخرى استطلاعية وكذلك للدعاية، خاصة في المناطق المحاصرة بقوات النظام أو المعارضة. ومع التوسع في استخدام هذه التقنية، مع التدخل العسكري الروسـي والحملات التركية المتتالية، اتضح أن كلاً من روسيا وتركيا تستخدمان حلفائهما خاصة من التنظيميات المسلحة كقوات مشاة خفيفة مدعومة بنظم جوية تتكون من سلاح الطيران والطائرات المسيرة التـي تم استخدام الطرازات الهجومية منها بكثافة.

توسعت تركيا بشكل خاص في توظيف طائرات “بيرقدار” و”أنكا- إس” في مواجهة المقاتلين الأكراد، مستغلة القرب الجغرافي مع شمالي سوريا، وسهولة جمع المعلومات الاستخباراتية من على الأرض. إلا أنها تعرضت لخسائر واسعة تراوحت بين 10-15% من طائراتها. وعلى الرغم من توسع تركيا في تقديم مساعدات إلى الجماعات المسلحة في تركيا، إلا أنها لم تمكنها من الحصول على طائرات مسيرة، وربما نقلت بعض التقنيات التـي مكنت بعض هذه التنظيمات من شن “هجوم سربي” من الطائرات المسيرة ضد قاعدة حميحم الروسية في يناير 2018، والتـي اتضح لاحقًا أنها مصنعة يدويًّا.

في المقابل، تمكن حزب الله من التعامل السريع مع سلاح “المسيرات” واستخدامه في عمليات الاستطلاع والهجوم، وذلك من خلال العمليات المشتركة التـي قام بها مع الحرس الثوري الإيراني والجيش الروسـي.         

خلال الحرب، تم توظيف أدوات الحرب الإلكترونية بشكل موسع بهدف شلل الدفاعات الجوية للخصومSuppression of Enemy Air Defenses (SEAD) من قبل روسيا وتركيا وإسرائيل بما يمهد الطريق أمام عمليات الهجوم الجوي سواء التـي صاحبت عملية درع الفرات التركية أو الضربات الجوية الإسرائيلية المتكررة ضد أهداف حزب الله وإيران. أما روسيا، فقد تمكنت من خلال نظم الحرب الإلكترونية قصيرة المدى من إحباط الهجوم بالطائرات المسيرة على قاعدة حميحم.     

الحرب الليبية

على العكس من بقية الصراعات محل الدراسة، فإن أطراف الصراع الأصليين في ليبيا يتسمون بقدر كبير من انعدام الكفاءة العسكرية وضعف التخطيط والانضباط. وهو ما جعل الصراع على مدار سنوات أقرب إلى توازن الضعف، وجعل منه بيئة خصبة لتدخل الأطراف الدولية وتقنياتها وما صاحب هذا التدخل من مرتزقة وشركات وعصابات مسلحة.

من ناحية أخرى، ساعدت جغرافيا ليبيا غير المعقدة نسبيًّا خاصة في شمال البلاد حيث تدور معظم المواجهات على الطرق الواصلة بين المدن التـي يسكنها ٨٠٪ من الشعب الليبـي على شن عمليات جوية موسعة، بالإضافة إلى التحرك السريع للمشاة والمدرعات بين المدن. كانت المواجهة التـي نشبت طيلة العام ٢٠٢٠ حتـى توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر من العام نفسه بمثابة اختبار لنظم تسليح تقليدية وأخرى حديثة نسبيًّا كان على رأسها الطائرات المسيرة وأنظمة الحرب الإلكترونية.

تمكن سلاح الجو التابع للجيش الوطنـي الليبـي من دعم جهود قوات شرق ليبيا في التقدم نحو طرابلس مع انطلاق عملية طوفان الكرامة في أبريل ٢٠١٩. إلا أن التدخل التركي الذي شهد تصاعدًا في استخدام الطائرات المسيرة من طراز “بيرقدار TB2” أدى إلى حدوث توازن في أجواء الصراع، ومهد إلى التقدم العسكري الذي حققته مليشيات حكومة الوفاق وصولاً إلى خط الهدنة في سرت-الجفرة.

من ناحية أخرى، طور كلا الطرفين، بمساعدة خارجية، قدرات على إحباط وتدمير القدرات الدفاعية الجوية للطرف الآخر؛ حيث سقطت عدد كبير من الطائرات المسيرة والعمودية. على وجه الخصوص، مكنت نظم الدفاع الجوي التركية والتـي اشتملت على صواريخ HAWK وHISAR وKORKUT من الحفاظ على المكاسب الأرضية التـي حققتها مليشيات الوفاق. إلا أن هذه النظم الدفاعية التركية أثبتت ضعفها في الهجوم «الأجنبي» الذي وقع على قاعدة الوطية في يوليو ٢٠٢٠.           

حرب ناغورنو-قاراباخ

بعد انتصارها في حرب قاراباخ عام ١٩٩٤، استسلمت أرمينيا إلى حالة من الشعور الزائف بالتفوق تجاه أذربيجان. أما أذربيجان، فقد عمدت إلى برنامج تحديث عسكري شامل؛ حيث تم استثمار عوائد النفط في بناء جيش حديث وتنويع مصادر التسليح بين الغرب وإسرائيل وروسيا، والحصول على نظم تسليحية متقدمة منها الطائرات المسيرة، والصواريخ الموجهة عالية الدقة، والراجمات بعيدة المدى والمركبات المضادة للألغام ونظم المراقبة. قادت هذه العملية إرادة وطنية تركزت على تحرير قاراباخ واسترداد الأراضـي التـي احتلتها أرمينيا قبل ربع قرن.

في الوقت الذي امتنعت فيه روسيا عن دعم أرمينيا، بسبب عدم توافقها مع حكومة نيكول باشينيان، أعلنت تركيا عن دعمها غير المحدود لأذربيجان والذي تضمن نقل مئات المرتزقة السوريين والليبيين، ونظم التسليح والمدربين، والدفع بست طائرات إف-١٦ في قاعدة “جبل” الجوية. ونظرًا لسيطرة الجبال على جغرافيا منطقة الصراع في قاراباخ والمناطق المحيطة بها، تحول الصراع إلى قتال جوي واسع استخدمت فيه النظم التقليدية والحديثة خاصة “الطائرات المسيرة” التـي اقترن اسم الصراع بها سريعًا.

على الرغم من امتلاك الطرفين لهذه التقنية، إلا أن الجيش الأذربيجاني أثبت تفوقًا في التعامل معها خاصة طائرات “الهاروب” الإسرائيلية والبيرقدار التركية، والتـي جرى استخدامها بطريقة مبتكرة؛ مثل استخدامها كطُعم لتحديد مواقع الدفاع الجوي الأرميني، واستخدامها بالتنسيق مع المدفعية لتدمير وتعطيل نظم الدفاع T-72  وS-300. أدى هذا إلى جعل القوات الأرمينية غير قادرة على العمل بشكل متناسق، وهو ما منح المدرعات الآذرية فرصة التحرك بحرية وكسب مزيد من الأراضـي.

وعلى الرغم من تمكن نظم الحرب الإلكترونية الأرمنية، روسية الصنع، من تشويش عمل المسيرات الآذرية في بداية الحرب، إلا أنها لم تتمكن من تحقيق نجاح أكبر في هذا المضمار. أدت النهاية إلى انتصار واضح لأذربيجان، ومن ورائها تركيا. إلا أن روسيا حققت أكبر نجاح جيوستراتيجي مع إشرافها على عملية حفظ السلام وتأمين الممر الواصل بين أرمينيا وأذربيجان.   

استمرار تأثير العامل البشري

لا تقدم الصراعات الأربعة المذكورة أية أدلة على حدوث تحول في العلاقة بين الإنسان والآلة فيما يتعلق بإدارة الحرب. ما زال صانعو القرار من البشر على المستوى الاستراتيجي السياسـي تحركهم دوافع سياسية ونوايا وأهداف عسكرية يسعون إلى تحقيقها من خوض الحرب. لقد كان لهذه القرارات غير الكفؤة دور في إيقاع الهزيمة بأرمينيا. كما كان للضغوط السياسية التـي مارستها موسكو على أرمينيا، بخصوص عدم استخدام الطائرات الروسية المقاتلة ضد أذربيجان.

كذلك يبدو أن القيادة السياسية والعسكرية الأرمنية قد أساءت تفسير مدى جاهزية وكفاءة قادة القوات المسلحة في تنفيذ الأوامر والمهام. في المقابل تمكنت أذربيجان مدفوعة بالرغبة الوطنية في استعادة الأراضـي والاصطفاف وراء القيادة من تنفيذ برنامج إصلاح عسكري لا يخلو من الكفاءة. وفي مقابل عدم كفاءة حوالي ٢٥٪ من الجنود والضباط الأرمن في التعامل مع أدوات الحرب، تمكنت أذربيجان من شن حرب نفسية عليهم، والنيل من روحهم المعنوية.

يؤكد أيضًا على دور العامل البشري في هذه الحرب المساحة الكبيرة التـي احتلها المدربون والقادة والمستشارون العسكريون، سواء الروس أو الأتراك في سوريا وليبيا وأذربيجان. لقد كان لهؤلاء تأثير كبير في رفع الكفاءة القتالية خاصة في التعامل مع تقنيات الطائرات المسيرة أو الحرب الإلكترونية. برز في هذه الحروب أيضًا الدور الكبير الذي قام به المرتزقة سواء السوريين والتشاديين في ليبيا، أو المرتزقة السوريين والليبيين في ناغورنو-قارباخ، أو شركة ڤاغنر الروسية في أوكرانيا وسوريا وليبيا؛ حيث استخدمت هذه الأدوات على نطاق واسع كأداة لتقليل الكلفة السياسية للتدخل الروسـي والتركي في هذه البلدان.

ما زال العامل البشري مهيمنًا أيضًا علي “المركب الصناعي- العسكري” الذي يقف وراء التقنيات محل الدراسة. على سبيل المثال، وعلى الرغم من تطور تقنيات التشغيل الرقمي للطائرات المسيرة، ما زال إدماج عمليات الاستطلاع- والهجوم النيراني يقع على الوسيط البشري، كم تؤشر التجربة الروسية. من ناحية أخرى، من الواضح أن كلاً من تركيا وروسيا قد دفعت بالمهندسين والمصممين وراء تقنيات الطائرات المسيرة إلى ميدان المعارك في سوريا وليبيا وقارباخ للوقوف على تجارب تقنياتهم في ميدان المعارك حتـى يتمكنوا من تطويرها أكثر في مرحلة لاحقة.                    

مستقبل نموذج "الحرب كخدمة"

أهم ما قدمته الحروب الأربعة من تحولات كان على المستوى السياسـي- الاستراتيجي، وتمثل في تحول الحرب إلى خدمة مقدمة من حكومة إلى أخرى War as a Service (WaaS)، وهو ما يتضح في عملية نقل القوة العسكرية التـي قامت بها روسيا في سوريا، وتركيا في ليبيا وأذربيجان. وعلى النقيض من عمليات الدعم العسكري التقليدية، اشتمل النموذج الجديد على تدخل مقدمي الخدمات، الروس والأتراك، في عمليات التخطيط والتنظيم والإشراف على استخدام التقنيات الحديثة، فضلاً عن نقل قوات إلى ميادين القتال.

في مثل هذه الحالات، كان الانخراط مباشرًا، وليس عن طريق وكلاء أو جماعات مسلحة من غير الدول، مع استمرار وجود هؤلاء. كذلك ضمن هذا النموذج الحفاظ على درجة عالية من الإنكار والتنصل السياسـي من قبل “مقدمي الخدمات.” فالقوات العاملة تبدو ظاهريًّا تحت إمرة مستقبل الخدمة، سوريا أو أذربيجان، في حين أنها تدار عمليًّا من روسيا وتركيا.

كان لهذا النموذج الجديد في التعاون بين الحكومات في سياق الصراعات الأربعة دورًا في قلب موازين القوة، كما اتضح في دور العملية العسكرية الروسية في قلب موازين القوة لصالح نظام الأسد في سوريا، وأثر الدعم التركي في تحقيق فوز أذربيجان في حرب قاراباخ الأخيرة، وفي تحقيق التوازن العسكري لصالح حكومة الوفاق الوطنـي في ليبيا. إلا أن نجاح هذا النموذج ليس مضمونًا ويعتمد على عدة عوامل من أهمها عدم تكافؤ المتحاربين في الحصول على الخدمات نفسها.

على سبيل المثال، نجح هذا النموذج في دعم نظام الأسد في سوريا مع عدم حصول الحركات المسلحة المتمردة على دعم يتجاوز المال والسلاح المقدم من بعض الدول، في الوقت الذي أصبحت فيه قوات النظام أكثر انضباطًا وقدرة على التماسك بفعل كفاءة عملية التحكم والقيادة التـي أشرفت عليها القوات الروسية. وعلى نطاق أصغر، يمكن النظر إلى الانضباط الذي لحق بالمليشيات التابعة لحكومة الوفاق الوطنـي في ليبيا، مع التدخل التركي الذي اشتمل على عمليات تدريب وتوجيه.

ليست التقنية وحدها قادرة على تغيير الطرق التـي تعمل بها القوات المتحاربة في مختلف الصراعات. فهي في حاجة إلى أن تكون مضمنة سياق ثقافي وتنظيمي وقتالي أوسع. وتبدو روسيا هي الأكثر إفادة من تجارب الحروب الأربعة؛ حيث طورت قدراتها على إدماج نظم الطائرات المسيرة والحرب الإلكترونية في بنية “التحكم والقيادة”.

ويبقى التحدي الأساسـي في إدارة البيانات التـي يتم تجميعها من خلال أجهزة الاستشعار؛ حيث ما زال تخزين هذه البيانات يعتمد على النظام “السحابي” وهو الأكثر عرضة للاختراق أو التدمير من خلال الهجمات السيبرانية. ويبقي أن هذه الحروب قد أظهرت الدور الذي قد يلعبه نموذج “الحرب كخدمة” في إحداث تطور هائل في “الطرق القتالية” لجيوش الدول المستقبلة للخدمات العسكرية.

إلا أن نتائج هذا الدور النهائية ما زالت تعتمد على مدى استعداد الجيوش المستقبلية للتطوير، وهو أمر يتراوح بين النجاح كما في حالة الجيش الأذربيجاني، وبين عدم الوضوح خاصة في حالة مثل ليبيا؛ حيث ما زالت مسألة إعادة بناء القوات المسلحة ووضعها السياسـي بمثابة “الفيل في الغرفة” بالنسبة لعملية الانتقال السياسـي التـي انطلقت مرة أخرى منذ شهور. وما زال وضع الجيش السوري وقدرته على تطوير أدواته أمرًا غير معروف حتـى الآن.

عن "مركز الإنذار المبكر"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية