في القرآن الكريم فُسحة لتعدد الآراء في المسألة الواحدة، وترجيح رأي من قبل الفقهاء وغيرهم مسألة لها علاقة بالمصلحة وقوة من يقف خلفها. الحاجة إلى البنوك هي التي حرضت بعض الفقهاء المعاصرين إلى القول بالحكم الفقهي الذي لا يعدّ الفائدة البنكية من الربا، وبسبب الحاجة نفسها اختُرعت المعاملات/ الفائدة الإسلامية في البنوك مع ما فيها من شبهة تحايل(فقهي) كما يدعي البعض من المتشددين. وقد يقف الهوى الذكوري وراء جعل خيار تعدد الزوجات قاعدة، مُزيحاً التفاسير الأخرى إلى الهامش... إلى غيرها من المسائل القابلة لإعادة النظر بحسب المصلحة واختلاف الظرف.
ثمّة أمثلة لهذا التدافع في حياة الرسول عليه السلام، نفسه. عندما لطمَ رجل زوجته، أتت النبي، فأشار عليها بالقصاص، وبعد استهجان الرجال قال بعض المفسرين بأن فعل النبي قد نُسخ بآية: "الرجالُ قوّامون على النساء..." الآيات الناسخة هي شاهدة على حركة المجتمع، والهدف من الناسخ والمنسوخ هو خلق آلية أو منهج لتوليد الأحكام لا تثبيت الحكم الناسخ لما قبله. ينبغي أن تكون القداسة للمنهج (العقلاني، الواقعي، العملي) عند النظر في النص، فجوهر قداسة للنص، قائمة على مرونته القادرة على أن تتواءم مع حركة المجتمع وحداثته.
الأصل والفرع
المصلحة أصل والنص مُعبِّر عنها. نجد هذا ماثلاً في "الضرورات تبيح المحظورات". وفي مسألة تعدد الزوجات ينبغي أن يكون الأصل هو الزوجة الواحدة، والزواج من أخرى رخصة أبيحت للضرورة فقط، كما يرى شيخ الأزهر أحمد الطيب في قوله: "الأصل في القرآن هو: فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة". خلافاً لما يراه آخرون، من أنّ "الأصل في الإسلام هو التعدد؛ وذلك لأنّ الله بدأ بالتعدد في قوله: مثنى وثلاث ورباع، ثم قال: فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة. فقدّم الأصل وأخَّر الفرع، كقوله تعالى: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى... فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً، فالأصل هو المحافظة على الصلاة بهيئتها المتكاملة، والفرع أن يصلي المسلم عند الخوف حسب ظروفه... ومقاصد الشريعة دائماً تقدم الأصول ثم تأتي بالفروع، ولو كان الأصل هو الإفراد، لما وجدنا أنّ الرسول وصحابته قد تزوجوا بأكثر من واحدة".
المصلحة أصل والنص مُعبِّر عنها. نجد هذا ماثلاً في "الضرورات تبيح المحظورات". وفي مسألة تعدد الزوجات ينبغي أن يكون الأصل هو الزوجة الواحدة، والزواج من أخرى رخصة أبيحت للضرورة فقط، كما يرى شيخ الأزهر أحمد الطيب
إذا كان ما سبق هو موقف شيخ الأزهر، ويوافقه فيه آخرون، فلماذا لا يُعتَمَد قاعدة قانونية؟ وهل قيَّد القرآن التعدد بـ (4) زوجات حقاً؟ وما الميزة في هذا التحديد، بـ (4)، إن صح؟
تفسيرات أُحيلت إلى الهامش
يستند التشريع الإسلامي في جواز تعدد الزوجات، وتقييد العدد بـ (4)، إلى الآية الـ (3) من سورة النساء: "وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا".
اختلفت الآراء في تفسير التعدد، فذهب البعض إلى أنّ صيغة "ما طاب لكم من النساء" تفيد العموم، وأنّ "مثنى وثلاث ورباع" ذُكرت، بعد صيغة العموم، على سبيل البيان بالمثال، لا على سبيل التحديد، "وأنّ ورودها على الوجه المذكور يفيد رفع الحرج عن المسلم في زواج من شاء من النساء، إلى غير حدّ، كقولك، لمن دخل بستانك فرأى شجرة مثمرة: كل اثنتين، ثلاثاً، أربعاً، كل ما شئت من غير تحديد. وذهب آخرون -وهو قول بعض الشيعة- إلى أنّ مثنى وثلاث ورباع يفيد الجمع، وهو (9)، فيباح للرجل أن يجمع بين (9) زوجات، وحجتهم في ذلك أنّ النبي جمع بين (9) نساء. وذهب بعض أهل الظاهر إلى أنّ العدد الذي يباح هو (18) امرأة، بزعمهم أنّ (مثنى وثلاث ورباع) إنّما هي ألفاظ مفردة معدول بها عن أعداد مفردة، وأنّ الواو بين هذه الكلمات للجمع، فيكون معنى التعداد: اثنين اثنين، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعاً أربعاً، ومجموعها (18)". (عبد السلام الترمانيني: الزواج عند العرب)
لكن ما علاقة اليتامى بالزواج؟
ثمة من يقول إنّ "قصر العدد على (4) جاء مقروناً بالخوف من ظلم اليتامى". وأنّ معنى الآية الحقيقي هو أنّ "الأولياء والأوصياء كانوا يأكلون أموال اليتامى المشمولين بولايتهم ووصايتهم، فنهى الله تعالى عن أكل أموالهم، وعدّه إثماً كبيراً، فتحرج الأولياء والأوصياء وخافوا من الولاية والوصاية؛ خوفاً من أن يظلموا اليتامى، فقال الله لهم: فإن خفتم ألّا تعدلوا في اليتامى، فخافوا أيضاً ألّا تعدلوا في النساء اللاتي تتزوجون منهن بغير حدٍّ ولا قيد، فتزوجوا منهن على ألّا يزيد العدد على (4)، فإن خفتم ألّا تعدلوا بين أكثر من واحدة، فلا تزيدوا على الواحدة؛ لأنّ من تحرج من ظلم اليتامى يجب عليه أن يتحرج أيضاً من ظلم النساء"، قال ابن جرير الطبري: إنّ هذا القول هو أولى الأقوال بالقبول.
اختلفت الآراء في تفسير التعدد، فذهب البعض إلى أنّ صيغة "ما طاب لكم من النساء" تفيد العموم، وأنّ "مثنى وثلاث ورباع" ذُكرت، بعد صيغة العموم، على سبيل البيان بالمثال، لا على سبيل التحديد
هذا التفسير حرص على الربط بين الانتقال المفاجئ من موضوع اليتامى إلى موضوع الزواج بما طاب من النساء، لكنّ الواضح هو أنّ "فانكحوا ما طاب لكم من النساء" تفيد الكثرة، و"مثنى وثلاث ورباع" لا تفيد الحصر، وإنّما تفيد التمثيل. فالوقوف عند العدد (4) لا يفيد التقييد. وهو بهذا لا يأتي بتشريع جديد، وإنّما يقرر حقيقة وواقع الزواج وقتها غير المحصور بعدد محدد من الزوجات.
ما لم يُلتفت إليه أنّ موضوع آية النساء هو اليتامى لا الزواج. أي إنّها حالة/ مشكلة ظرفية خاصة باليتامى وجدت حلها بالزواج، سواء كانت زوجة واحدة أو (4) أو بما طاب من النساء. ومن اللافت أنّ سورة النساء بدأت بآية تُذكِّر الناس بأنّهم خُلقوا من "نفس واحدة وخلق منها زوجها..." ثم تلتها آية رقم (2) التي تتحدث عن أكل مال اليتامى، واستمر موضوع اليتامى في الآية (3) ثم الآية (5)، وبما أنّ السياق كله عن اليتامى، فلا يصح الاعتداد بالآية (3) لتكون حجة تشريعية لموضوع الزواج.
العطف بالفاء -"فانكحوا"- يُفهم منه أنّ ما بعده هو حل لما قبله. فكأنّ الزواج بمثنى وثلاث ورباع من النساء هو حل للعجز عن العدل بين اليتامى، فلا علاقة بين العجز عن العدل بين اليتامى والزواج بمثنى وثلاث ورباع من النساء! والتفسير الذي أثنى عليه الطبري أعلاه بربط القضيتين المختلفتين بالخوف غير مقنع.
يرى مفسرون أنّ المقصود باليتامى هنّ اليتيمات اللواتي في حِجر أوليائهن، فيرغبون في مالهن وجمالهن، بأن ينكحوهنّ بأدنى من سُنة صداقهن، "فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما سواهُنَّ من النساء". وقيل إنّ المقصود باليتيمة هي من لديها مال "تكون عند الرجل فينكحها لمالها، وهي لا تعجبه، ثم يضربها، ويسيء صحبتها، فوُعظ في ذلك". وما يهم هنا هو أنّ شرط الاكتفاء بواحدة مرتبط بالعدل في الإنفاق (المادي) وبإنجاب الكثير من الأبناء إلى درجة لا يقدر معهم الأب على الإنفاق عليهم؛ بدليل قوله "ذلك أدنى ألا تعولوا". والمعنى المنطقي المضمر أنّ من يستطيع الزواج دون إنجاب أو كان قادراً على العدل المادي، فله أن يتزوج ما طاب له من النساء؛ لأنّ علة الاقتصار على زوجة واحدة محددة بشرطين يمكن تحقيقهما مثلما فعل النبي، عليه السلام، والصحابة، رضي الله عنهم.
حكم ظرفي
الاقتصار على الزواج بواحدة أو السراري "يُعينكم على أن لا تعولوا". وتفسير "ألّا تعولوا" كما يراه بعض المفسرين: "أن لا تجوروا". أي "يُعينكم على أن لا تظلموا". فالعول هنا "الميل عن العدل إلى الظلم". والمعنى الراجح هو "أن لا تفقروا"؛ فالعول أو العيل، يأتي بمعنى الفقر: "ووجدك عائلاً فأغنى" بمعنى فقيراً محتاجاً فأغناك وكفاك. ونظيره أيضاً: "وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله" أي: وإن خفتم فقراً. وقال الشاعر: فما يَدري الفقير متى غناه ومَا يَدرِي الغَنيُّ متى يعيل... وتقول العرب: عال الرجل يعيل عَيْلة، إذا افتقر. والمعنى: الاقتصار على الزوجة الواحدة أو السراري يُعينكم على أن لا تفقروا. يقول الطبري: "عال الرجل عَيْلة"، وذلك إذا احتاج. ونقل أثراً في الباب فقال: قال ابن زيد: "ذلك أدنى ألا تعولوا"، ذلك أقل لنفقتك، الواحدة أقل من اثنتين وثلاث وأربع، وجاريتُك أهون نفقة من حُرة".
المعنى إذن: ألا يكثر عيالكم أو ألا يكثر من تعولون. فالاقتصار على الزوجة الواحدة أو السراري يُعينكم على أن لا تُثقلوا كواهلكم بنفقة هؤلاء العيال. فتحتاجون معه إلى نفقات أكبر. ما يرجح هذا الفهم أنّ المتقدمين كانوا قد قرأوا الكلمة بالياء لا بالواو: "أن لا تعيلوا".
لكن هناك إشكالية: "لو أنّ الأمر متعلق بكثرة العيال، لما أجاز القرآن الإكثار من السراري؛ إذ هو أيضاً مظنة كثرة العيال". يقول ابن كثير في هذا: "في هذا التفسير نظر؛ فإنّه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر، كذلك يخشى من تعداد السراري أيضاً". وقد ناقش فخر الدين الرازي هذه الإشكالية في تفسيره، فقال: "الجواري إذا كثرن فلمولاهن أن يكلّفهن الكسب، وإذا اكتسبن أنفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضاً. أمّا إذا كانت المرأة حرة، لم يكن الأمر كذلك. والوجه الثاني: إذا عجز المولى عن الإنفاق على المرأة المملوكة باعها، أمّا إذا كانت حرة، فلا بدّ له من الإنفاق عليها". وأضاف أبو السعود، في تفسيره، وجهاً آخر في مناقشة الإشكالية فقال: "التسري مظنة قلة العيال مع جواز الاستكثار من السراري، لأنّه يجوز العزل عنهن بغير رضاهن".
المشكلة أنّ الصيغة القرآنية المرنة، غير القاطعة، اتخذت، مع الفقه، شكلاً تشريعياً وقانونياً، فانتصر بذلك فقه الذكور على فقه المصلحة
واضح إذن أنّ هذا الحكم القرآني مرتبط بممكنات ذلك الزمن، حيث لم يكن العلم قد ابتكر وسائل تمنع الإنجاب. والأهم أنّ تقييد عدد الزوجات إلى الحدّ الأدنى بالعدل وبخشية الفقر الناتج عن كثرة الإنجاب لا يعني تحريم ما كان مباحاً قبل الإسلام، وهو الزواج بما طاب من النساء.
أين المرأة من هذه المعادلة؟
الخطاب في كل ما سبق موجه للرجل ولا محل للمرأة في هذه المعادلة؛ فالرجل هو الذي ينفق وسيتأثر بذلك مادياً، لكن لا محل للعواقب النفسية على المرأة، وعلى الأسرة والمجتمع والدولة. ما يدعم هذا الرأي أنّ الإسلام ألغى كل أشكال النكاح السابقة عليه: كالاستبضاع والمضامدة؛ لأنّها تعطي للمرأة قدراً من الحرية الجنسية، وفي المقابل أبقى على حرية الذكور في هذا الجانب، فأباح له القرآن التعدد، مقيداً بالعدل، فإنّ لم يستطع، فلديه ملك اليمين. وفي هذا الباب يمكن الاطلاع على عدد كبير من النساء كانت ملكاً للصحابة والتابعين.
إذا كانت الزوجة تقبل أن يتزوج زوجها (3) زوجات غيرها، فلماذا سترفض أن يتزوج بلا حدود؟
لو أخذنا برأي ونفسية الزوجة أو المرأة عموماً، فهي لا تقبل التعدد، ولو كانت زوجة واحدة معها. وما يجعلها تقبل بالتعدد هو اعتقادها بأنّ التعدد هو شريعة الله، وبقبولها فهي تعتقد بأنّها تطيع أوامر الله. وهذا حال أغلب القابلات بالتعدد. ولو أخذنا بمزاج الزوج/الرجل وهواه الجنسي، فهو لن يمانع الزواج بعدد غير محدود من النساء. ولذلك ينبغي أن يخضع الزواج بزوجة ثانية للقانون ولتقدير لجنة متخصصة تنظر في المشكلة التي تستدعي أو لا تستدعي الزواج بامرأة ثانية.
هناك ضرورة من باب آخر تحتم اللجوء للقانون، وهي أنّ الآية الـ (3) من سورة النساء قابلة لتعدد التفسيرات والتأويلات، كما تقدم، ولهذا السبب ينبغي الرجوع إلى آلية تشريعية قانونية واضحة.
فقه الذكور وفقه المصلحة
الزواج في القرآن الكريم هدفه تحقيق المودة والرحمة: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" الروم21. والمودة والرحمة يمكن أن تستقيم مع زوجة واحدة لا مع زوجات عديدات مختلفات الأمزجة وتحكمهن الغيرة التي لا شك أنّها ستنعكس على حياتها مع زوجها وأبنائهما وأبناء الزوجات الأخريات. والواقع أنّ تعدد الزوجات تحوَّل أحيانا كثيرة من حلٍّ -مشروط بالضرورة- إلى مشكلة اجتماعية، مثل كثرة الإنجاب وتشرد الأبناء أو عدم القدرة على الاهتمام بهم، وزيادة الفقر والطلاق الناتج عن الرغبة في الزواج المستمر.
لكن إذا صح أنّ القرآن/ الإسلام قيَّد عدد الزوجات بـ (4)، فما ميزة هذا الرقم؟ وهل يختلف عن حرية الزواج بلا حدود؟ ما هي إضافة الإسلام على ما سبقه في موضوع الزواج؟
يجيب موقع "الإسلام سؤال وجواب": "هذا تشريع إلهي حكيم بذاته، وعلى المكلف التسليم". وسيأتي من يؤلف كتباً بعنوان "فضل تعدد الزوجات"، ومن سيربطه بزيادة العمر والصحة وبفوائد خاصة بالرجل طبعاً!
ولكن الواقع المعاين يشير بكثرة إلى ان ثمّة مشاكل كثيرة للتعدد على نفسية الزوجات والأولاد والحالة الاقتصادية والتعليمية للأسرة، ومن ثم على المجتمع الكبير، بل حتى على الرجل نفسه. والهدف من طرح السؤال هو ترجيح التفسير الذي يضع عدد الزوجات بين خيارين: "ما طاب لكم من النساء" أو "واحدة"، وأنّ قرار الاختيار يعود لتقدير المتلقي لا لمزاجه، وهو في عصرنا قرار ينبغي أن يخضع للقانون.
القرآن حدد قيمة/ فائدة معنوية للزواج، لكنّه لم يتدخل في تحديد عدد الزوجات؛ لأنّ تعدد الزوجات لم يكن مشكلة وقتها. صار التعدد مشكلة مع تقدم المجتمعات وتطورها ثقافياً وأخلاقياً، وهذا هو شأن القرآن الكريم مع قضايا كبرى أخرى كالعبودية/ الحرية التي لم تحسم قرآنياً ولا فقهياً، وحُسمت ثقافياً وأخلاقياً وقانونياً بعد منتصف القرن الـ (20). التشريع مرتبط بوجود مشكلة. مشكلة إجبار الإماء على البغاء استدعت حلّاً: "ولا تجبروا فتياتكم على البغاء"، لكنّه صمت عن إجبار الفتيات على الزواج من قبل ولاة أمورهن، ربما لأنّها لم تكن مشكلة وقتها. والواقع أنّ القرآن صمت عن كثير من التفاصيل المتعلقة بالزواج؛ باعتبار أنّه عرف اجتماعي لا يستدعي تدخل الشرع إلّا حين تبرز مشكلة مُلحّة.
من المرجح عندي أنّ القرآن لم يقيد التعدد بـ (4) زوجات، وإنّما بزوجة واحدة، عندما خلص إلى أنّ شرط العدل مستحيل: "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، ولهذا ينبغي الاكتفاء بزوجة واحدة. هذه الرؤية المتقدمة لم تكن لتنال قبول الهوى الذكوري، المولع بالمرأة والإنجاب، فعمد إلى مخالفة القرآن بفقه يجيز الزواج بـ (4)، وصارت هذه الإباحة حرية شخصية. واستشهدوا في هذا بأمر النبي عليه الصلاة والسلام لمن كان عنده نسوة عديدات "أن يختار منهن (4) ويطلق ما يزيد عليهن، ومن هؤلاء الحارث بن قيس السهمي، ومسعود بن عامر بن متعب، ومسعود بن عامر بن عمير، وعروة بن مسعود... وغيرهم كثير، كان عند كل واحد أكثر من (4) نساء، فاختاروا (4) منهن، وفارقوا الأخريات". ومع ذلك يمكن اعتباره خطوة في طريق الحل لا حلّاً نهائياً.
الخطاب "فإن خفتم" موجّه لكم "أنتم"، والمرجعية فيه للمتلقي والتنفيذ بالتالي مرهون بالاستطاعة، وبظروف المكان والزمان، سواء كان المتلقي النبيّ نفسه أم صحابته أم شخص يعيش في القرن الـ (21). هذا النوع من الخطاب اللغوي أو القرآني لا يحتمل الإلزام، فإن كان ولا بدّ من تشريع مبني على الآية، فليكن مرناً مثلها بما يناسب كل ظرف، مكاني أو زماني أو حالة. والحالة هذه يجوز تفسير الآية في قانون يحدد الزواج في واحدة مثلما جاز للفقهاء تقييد التعدد غير المحدد بـ (4) بناء على إحدى قراءات "مثنى وثلاث ورباع"، وعلى أمر النبي بتسريح من زادت زوجاته على (4).
المشكلة أنّ الصيغة القرآنية المرنة، غير القاطعة، اتخذت، مع الفقه، شكلاً تشريعياً وقانونياً، فانتصر بذلك فقه الذكور على فقه المصلحة، مع أنّ آية النساء/ القراءة تسمح باتخاذ شرط العدل قاعدة قانونية، فلا تسمح بزوجة ثانية إلّا بشروط تحددها لجنة متخصصة مرجعيتها القانون والمصلحة.
مواضيع ذات صلة:
- هذه الدولة الإسلامية حظرت تعدّد الزوجات
- 5 محطات جعلت محنة خلق القرآن أكبر الفتن في الإسلام