تعالت الأصوات لتطالب ببراءة نورا؛ الفتاة السودانية ذات التسعة عشر ربيعاً، التي طعنت زوجها حتى الموت، بعد محاولة اغتصاب جديدة ومتكررة نال فيها من جسدها.
في العاشر من أيار (مايو) 2018، حكمت المحكمة في أم درمان على نورا بالإعدام شنقاً، فلا يوجد في السودان قانون يدين العنف الأسري، أو الاغتصاب الزوجي، والدفاع عن النفس قد يوصل ضحية الاغتصاب إلى السجن أو الإعدام.
انطلقت الحملات، العالمية والعربية، تحت شعار "العدالة لنورا"، أوJustice For Nora) )، ونورا مجرد اسم في قائمة طويلة من سيدات وفتيات تعرضن للاغتصاب "الشرعي"؛ أي الاغتصاب الزوجي الذي لا يعاقب عليه القانون، وهذه القائمة أسماؤها معروفة، وبعضها الآخر يظلّ حبيس جدران المنازل، فالأسماء التي لا نعلم عنها شيئاً؛ إما دافعت عن نفسها فانتهى بها الأمر في السجن، وإما نُقلت إلى المستشفى مضرجة بدمائها مثل نجود الأهوال، تلك الطفلة اليمنية التي اغتصبها زوجها الثلاثيني، وهي في العاشرة من عمرها، وقد تم توثيق ما عانته وما تعانيه غيرها من الفتيات، في كتاب بعنوان (أنا نجود، ابنة العاشرة ومطلقة).
لعب الخطاب الديني دوراً بالغاً في ترهيب النساء وإقناعهن بأنّ عدم تلبية رغبة الزوج بالمعاشرة ذنب عظيم
يعتقد بعضهم أنّ شرعنة الاغتصاب الزوجي تتضمن نصاً قانونياً يجيز اغتصاب الزوج لزوجته، لكن في حقيقة الأمر، مباركة الاغتصاب الزوجي لا يحتاج سوى تجاهله في قانون العقوبات؛ أي غضّ طرف المشرِّع عن هذا النوع من المعاشرة بالعنوة؛ فالمرأة في نظر قانون الأحوال الشخصية حلال زوجها في بلادنا العربية، وعليه فلا يوجد نصّ صريح ضدّ الاعتداء الجنسي على الزوجات، وتنحصر قوانين عقوبة الاغتصاب في تجريم اغتصاب رجال لنساء لسنَ على ذمّتهم الزوجية.
قد يُخيل إلينا أنّ تجريم اغتصاب الزوج لزوجته مقتصراً على البلاد الغربية الأوروبية، أو بلاد أمريكا الشمالية، لكن هناك نصوص صريحة لتجريم هذا النوع من الاغتصاب في بلاد إفريقية مثلاً، ومنها: كينيا، وأنجولا، وجنوب إفريقيا، وغانا؛ لذا فإن تجريم الاغتصاب الزوجي ليس حكراً على بلاد مرفّهة، كما نشيع في أوساطنا العربية الإسلامية.
لا يجب أن نغفل دور الموروث المجتمعي المستمد من موروث نخشى الاقتراب منه في كثير من الأحيان؛ حيث لعب الخطاب الديني في العقود الماضية دوراً بالغاً في ترهيب النساء تارة، وإقناعهن تارة أخرى بأنّ الامتناع أو عدم تلبية رغبة الزوج في المعاشرة ذنب عظيم، واستخدِم حديث لعنات الملائكة في السماء على الزوجة الممتنعة كأداة رئيسة في هذا الخطاب، ومنها: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح" (رواه البخاري ومسلم).
فهل تُترك الزوجة نفسها، في القرن الحادي والعشرين، للاغتصاب، أو تحمل نفسها على علاقة جسدية قد لا ترغب بها وقتما يطلب الزوج خشية أن تلعنها الملائكة في السماء؟
لكنّ السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان: هو لماذا خصّت الأحاديث النساء بلعن الملائكة؟ لتعيش كثير من النساء في حالة ترهيب حال امتناعها عن تلبية نداء الزوج إلى الفراش.
لأنّ الإرادة الحرة لامرأة لا ترغب في الممارسة الجنسية ليست معصية؛ فالمعصية هي إرغامها على الجماع
بدأت بعض الأصوات تتساءل: لماذا تهتم الملائكة وتحتشد من أجل صبّ اللعنات على امرأة رفضت أن تمارس العلاقة الزوجية؟ وإن كان الردّ لأنّها تدفع زوجها للمعصية، فلا بدّ أن نقرّ بأنّ لدينا مفهوماً غير سوي عن المعاصي؛ لأنّ الإرادة الحرة لامرأة لا ترغب في الممارسة الجنسية ليست معصية؛ فالمعصية هي إرغامها على الجماع، بل الأجدر أن تلعن الملائكة الرجل الذي يغتصب زوجته عنوة، والأجدر أن تلعن الدماء التي تسيل باسم الله في كلّ بقاع الأرض، فذلك أولى من لعن امرأة رفضت ممارسة الجنس ذات ليلة؟!
الملاحظ في كلّ ما سبق؛ أنّ المرأة تعامل معاملة المفعول به، لا كمواطنة كاملة الأهلية يحقّ لها اللجوء للقانون، إن تعرضت لانتهاك جسدي ضدّ رغبتها، وهنا لا بدّ من أن نخرج من عباءة الموروث الديني، لنأخذ قضيتنا للقانون المدني؛ لأنّ هذا هو صلب الموضوع ومربط الفرس، لكن أمام القانون سنجد أنفسنا في مأزق حقوقي آخر صنعه بعض الحقوقيين والحقوقيات أنفسهم.
حاولت بعض الحقوقيات المصريات الخروج من هذا المأزق الشرعي، على اعتبار أنّ اللجوء للشريعة أفضل وسيلة لإقناع الجمهور والمشرّع بتجريم الاغتصاب الزوجي بشكل عام، وتذرَّعن بالآية رقم (21) من سورة الروم: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}، والآية رقم (19) من سورة النساء {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}.
وهنا تكمن المشكلة؛ وهي أنّ الآيات التي استند بعض الحقوقيين والحقوقيات إليها، لا تشكّل موقفاً واضحاً لتجريم الاغتصاب الزوجي، خاصة إن تمت مواجهتها بحديث لعنات الملائكة، في الآية رقم (223) من سورة البقرة {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}، وبالتأكيد ستكون هناك تفسيرات مختلفة لهذه الآيات، وهنا المشكلة، وهي أن نترك القانون المدني، في الألفية الثالثة، لتفسيرات فقهية عمرها مئات الأعوام.
جريمة الاغتصاب الزوجي يتجاهلها القانون ويبررها المجتمع، وأرقامها مطموسة بشكل كبير؛ لأنّها غير مُجرّمة
وإن طالعنا تفسير ابن كثير مثلاً لآية: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ}، سنجد أنّه، عن ابن عباس: الحرث (موضع الولد)، {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أي كيف شئتم (مقبلة ومدبرة في صمام واحد)، وقال البخاري: حدّثنا أبو نعيم، حدّثنا سفيان عن ابن المنكدر، قال: سمعت جابراً يقول: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول؛ فنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}، (رواه داود من حديث سفيان الثوري به).
كان علينا البحث والتنقيب في فتاوى دار الإفتاء المصرية تحديداً، على اعتبار أنّ الأزهر يمثّل صوت الإسلام السنّي.
وفي تاريخ 18 آب (أغسطس) 1978؛ أصدرت دار الإفتاء فتوى تحمل رقم المسلسل (668)، رداً على الموضوع الذي يحمل رقم (868)، ومفاده الردّ على سؤال: "رأي الدين في الزوجة التي تمتنع عن فراش زوجها"، فجاء الرد كالآتي: لكلّ من الزوجين حقوق على الآخر، فمن حقوق الزوج على زوجته أن تطيعه في كلّ أمر من أمور الزوجية، فيما ليس فيه معصية، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح" (متفق عليه)، وعلى هذا فإنّ امتناع الزوجة عن طاعة زوجها غير جائز شرعاً، ما لم يكن لديها عذر يمنعها من إجابة طلبه، وتكون آثمة في هذا الامتناع.
وهنا، فإنّ الأعذار الخاصة بعدم الاستعداد النفسي والذهني للزوجة ليست واردة، والأمر أكبر من مجرد فتوى أزهرية استندت لهذا الحديث، وهو جزء من السنّة، التي يعدّ إنكارها ازدراء للإسلام في نظر كثير من القانونيين والمشرعين ورجال الدين، ففي الحديث عن عبد الله بن أبي أوفى، قال -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حقّ ربها حتى تؤدي حقّ زوجها ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه" (رواه الإمام أحمد في مسنده ورواه ابن ماجه)، والقتب هو ما يوضع على ظهر البعير فيكونُ موضعاً لجلوس الراكب، ومعنى الحديث: أنّ من حقّ الزوج على زوجتِه أنْ تستجيب له متى أرادها، وإنْ كانت تسير على ظهرِ بعير لسفرٍ، فواجب عليها أن تترجل من على ظهر البعير، وتمكّنه من نفسها. ومعنى ذلك أنّ حقّ الزوج في التمكن من زوجته جنسياً محفوظ، حتى في أدقّ الظروف، ما لم يكن ذلك منافياً لمحاذير شرعية.
تُعدّ الزوجة التي تشكو من زوجها المغتصب موصومة اجتماعيّاً، وقد تلاحق من ذكور العائلة
كما ورد حديث آخر يتم تداوله بين رجال الدين والفقهاء عن ضرورة تلبية المرأة لرغبة زوجها الجنسية أينما أراد: "فإذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته وإن كانت على التنور" (رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي أنّه حديث حسن صحيح) والتنور هو المكان الذي يُخبز فيه العيش.
لكن، إلى أي مدى يستند القانون إلى الرأي الشرعي؟
إن اتخذنا مصر (نموذجاً)، سيتضح لنا أنّه لا يوجد تعارض حالي بين قانون الأحوال الشخصية أو قانون العقوبات المصري من جهة، ومجموع الآراء الفقهية الشرعية الرافضة لتجريم الاغتصاب الزوجي من جهة أخرى؛ لأنّ المرأة خاضعة لولاية الرجل.
جريمة الاغتصاب الزوجي يتجاهلها القانون ويبررها المجتمع، وأرقامها مطموسة بشكل كبير؛ لأنّها غير مُجرّمة، إلّا أنّه، وفقاً لتقرير منظمة الصحة العالمية، عام 2013، الذي شمل عدة دول منها مصر؛ فإنّ 35% من النساء يتعرضن لعنف جنسي من أزواجهن، وغالبية النساء المشاركات في أيّ مسح يطلبن عدم الكشف عن هويتهن؛ حيث تُعدّ الزوجة التي تشكو من زوجها المغتصب موصومة اجتماعيّاً، وقد تلاحق من ذكور العائلة، ووردت عدة حالات عن تعرض الزوجات للضرب على أيدي الأشقاء والآباء، بسبب مصارحات من هذا النوع.
كما أنّ اغتصاب الزوجات يقع تحت إطار العنف الأسري بأشكاله المختلفة، ومصر خالية من قانون يدين العنف الأسري بشكل مباشر، مثلها مثل بلاد عربية أخرى.
المجلس القومي للمرأة في مصر، كان قد أعلن، عام 2013، إعداد مشروع قانون للعنف ضدّ المرأة، وقدمه في بداية الدورة البرلمانية، التي بدأت في تشرين الأول (أكتوبر) 2016، لكنّ مشروع القانون لم يتطرق، أو ينص، على مادة خاصة بالعنف الجنسي الذي يمارسه الزوج، وقد يدل ذلك على ابتعاد الدولة ومؤسساتها عن موضوع العنف الزوجي والأسري قصداً، رغم ما يواجهه المجتمع المدني من ملاحقات وتضييق للخناق حين يتطرق لهذه القضايا.
وكان قد سبق لمركز النديم (واحد من منظمات المجتمع المدني في مصر)، العمل على مشروع قانون، عام 2008، ونصّ المشروع على إمكانية إثبات الانتهاكات الجسدية في العلاقة الزوجية بتقرير الطبّ الشرعي، وقد تعرض مشروع القانون لحملة شرسة، باعتباره مخالفًا للشرع والدين، وتوقفت مناقشة الموضوع في مطلع 2011.
ويعدّ الـمُشرّع أنّ الزوج يمارس حقه الشرعي، ولا يهم إن كان هذا الحق يُمارس بالتراضي أم عنوة، وهذا ما يتجلى لنا في المادتين 7 و60 من قانون العقوبات؛ فالمادة (7) تنصّ على: "لا تخلّ أحكام قانون العقوبات، في أي حال من الأحوال، بالحقوق الشخصية المقررة في الشريعة الغراء"، كما تنصّ المادة (60) من القانون ذاته على أنّه "لا تسري أحكام قانون العقوبات على كلّ فعل ارتكب بنية سليمة عملاً بحقّ مقرّر بمقتضى الشريعة"، وهكذا تشكّل المادة (7)، والمادة (60)، من قانون العقوبات (المفترض أنّه مدني) حجر عثرة أمام تجريم الاغتصاب الزوجي، علماً بأنّ ما يتم تجريمه في العلاقة الزوجية، بحسب القانون، هو إرغام الزوج لزوجته على جماع الدبر، كون ذلك محرماً شرعاً بشكل عام.
قضايا المرأة لا تناقش إطلاقاً إلّا بوصفها قضايا اجتماعية، وإدخالها في إطار القضايا الدينية تزييف لها
إنّ تغيير القانون، ربما لن يُغيّر تلك الممارسات، ولن يُوقف ظاهرة اغتصاب الزوجات، خاصة في مناطق تسودها الثقافة القبلية التي لا تقبل أن تشكو الزوجة زوجها إن قام باغتصابها، لكن ربما نحن نسأل السؤال الخطأ، والأسئلة الأصح هي:
أولاً: كيف تنجح مساعي تغيير الممارسات الخاطئة التي لا يُجرّمها القانون، بل يشرعنها؟
ثانياً: هل رضا المجتمع بانتهاك حقوق مواطنيه ذريعة لعدم تجريم تلك الانتهاكات في القانون؟
مانزال نناقش قضية الاغتصاب الزوجي في الدوائر المفرغة التي تعيدنا إلى حيث بدأنا؛ أي تعيدنا إلى الآراء الفقهية، التي تعرقل سنّ أيّ قانون واضح يجرم العنف الأسري بشكل عام، والاغتصاب الزوجي بشكل خاص، فالزوجة ليست حرثاً لزوج مغتصِب.
وقد تطرق المفكر والفيلسوف المصري، والباحث في الإسلاميات والتأويل القرآني، د. نصر حامد أبو زيد، (1943 - 2010)، في كتابه "دوائر الخوف، قراءة في خطاب المرأة"، لهذه المعضلة، حين قال: إنّ قضايا المرأة لا تناقش إطلاقاً إلّا بوصفها قضايا اجتماعية، وإدخالها في إطار القضايا الدينية تزييف لها، وقتل لكلّ إمكانات الحوار الحرّ حولها، وإنّ حصر قضايا المرأة في الحلال والحرام لا يسمح بتداول الأفكار الحرة، وإنّ مناقشة قضايا المرأة المتعددة من منظور ديني يطمس الجانب الاجتماعي للقضية، خاصة إن انطلق من ثوابت غير قابلة للنقاش، لن تُغيّر وضع المرأة في شيء.