لماذا أصبح الإسلام السياسي في عداء مع التدين الشعبي؟

لماذا أصبح الإسلام السياسي في عداء مع التدين الشعبي؟

لماذا أصبح الإسلام السياسي في عداء مع التدين الشعبي؟


30/10/2024

يتسع ميدان التدين الشعبي للكثير من الممارسات والعقائد؛ إذ إنّ غلبة الطابع الطقوسي الشكلي على الدين، وتوظيفه من الناحية السياسية من قبل جماعات الإسلام السياسي ساهم في ظهور نمط مؤدلج من أنماط السلوك الديني اتّسم بالاستعراض، أو بالمظهر وليس بالجوهر، وهو ما نراه غالباً في شيوع اللحى وتقصير الزي، فضلاً عن وجود تنظيمات تخضع لهيراركية سلطوية تفرض نمطاً من الطاعة تتقدم فيه على قيم الحرّية.

لقد عمل وجود هذا الشكل من الدين على إعادة تكيّف المجال العام والرأسمال الديني في مصر؛ إذ عُرف ما يُسمّى بظاهريات الإيمان كتعبير واضح عن التقوى والورع والالتزام الديني، وليس أدلّ على ذلك من الممارسات التي تجري في إطار الجماعات الإسلامية، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، حيث حاول هؤلاء، بحسب طرح شحاتة صيام في دراسته المعنونة بـ "الطهر والكرامات"، أن يمازجوا بين الخطاب البشري والفقهي والوعظي والاصطلاحي، ليكون أداة حصينة لكلّ ما هو رسمي؛ وعليه فإنّ مزاحمة الخطاب الديني غير الرسمي من قبل هذه الجماعات ساهم في ظهور خطاب راديكالي متشدد، يكشف عن إيمان الآخرين، وهو الذي دفعهم إلى تكفير الجهاز الحاكم والنخبة المرتبطة به.

يتسم نمط التديّن الشعبي في مصر بتنوّعه الشديد، بحسب البيئات الجغرافية والاجتماعية، والأحوال الاقتصادية وأنماط المعيشة على امتداد البلاد

ويمكن القول إنّه بفعل تنظيمات وتيارات الإسلام السياسي المختلفة، التي امتدت بين ثنايا الحيز البرجوازي الصغير والفقراء في مصر، والذي ساهمت في وجوده بعض الحكومات بهدف مواجهة التيارات الفكرية الأخرى، ساهم في وجود ما يُسمّى بإسلام السوق، وهو الذي يشير، بحسب صيام، إلى سيادة التدين في الطبقات الوسطى والفقيرة بشكل واسع، وطبيعي أن تؤدي سيادة مثل هذا النوع من التديّن إلى جعل الدّين يتحول إلى فاعلية أو قوى سياسية تخرج على المجتمع، خاصّة بعد أن امتدّ هذا التديّن إلى الأثرياء الجدد في المناطق الحضرية الجديدة، مثل أحياء مدينة نصر، والمهندسين، والمعادي، و6 أكتوبر، وهو ما يطلق عليه من قبل البعض بإسلام تدبير النفس.

ويتسم نمط التديّن الشعبي في مصر بتنوّعه الشديد، بحسب البيئات الجغرافية والاجتماعية، والأحوال الاقتصادية وأنماط المعيشة على امتداد البلاد، ويمكن ملاحظة وجود ذلك الصراع الخفي الذي يظهر إلى العلن في كثير من الأحيان، بين التديّن الرسمي المؤسسي، والتديّن الأصولي، وربما أحياناً بتمثّلاته الجهادية من جهة، ومنظومة التدين الشعبي من جهة أخرى، بدعوى استغراق النمط الأخير في البدع والخرافة والقدرية والأسطورية، لكنّ هذا الصراع لم يَحلْ دون تعايش هذه الأنماط الـ3 من التدين معاً، ربما بسبب عمق ورسوخ تصورات التدين الشعبي في حياة المصريين، حيث يبرز التدين الشعبي عندما تتصاعد وقائع الظلم الاجتماعي، وتتفاقم حدة البؤس الاقتصادي، وتشتد وطأة الاستبداد والقهر السياسي، دون تدخل من قبل العدالة الإلهية، وبحسب عبد الله شلبي، فإنّه عندما يتحول الإله إلى محض فكرة مجردة، أو وجود متعالٍ ليس كمثله شيء، وتندر تجلياته في واقع الناس المعيش، بحسب الصورة التي يروّج لها التيار السلفي الأصولي، والتيارات الإيديولوجية كالإخوان المسلمين، تظهر الحاجة الملحّة للتديّن الشعبي، حيث تكون الطبقات الشعبية الفقيرة والعاجزة في احتياج شديد إلى الوسيط الذي يتجسّد أمامهم ويشاطرهم حياتهم ويشعر بمآسيهم، ويقدّم لهم المدد والعون؛ لحلّ مشكلاتهم وينصرهم على ظالميهم، ويتكلم لغتهم، ولكلّ ذلك كان طبيعياً أن تكثر أضرحة الأولياء والقديسين والمزارات والزوايا والطرق الصوفية في الأحياء الشعبية الفقيرة والمحرومة في المدن المصرية، وفي القرى التي عجزت أيادي التنمية عن الوصول إليها، وباتت بدورها تعاني الفقر والحرمان، وهو حرمان حاول الإخوان الاستثمار فيه، ليلعبوا دور الوسيط المفترض.

إنّ العداء الذي يكنّه الإخوان للتديّن الشعبي يأتي من أنّ الأخير قادر على تشكيل جماعة دينية جديدة، قادرة على ولوج الميدان الثقافي الديني والتبشير بثقافة دينية جديدة من خلال ذاتية روحانية

جدير بالذكر، أنّه مع وجود مثل هذا النوع من التديّن ظهرت مظاهر مرتبطة بالدين، ولكنّها تتماشى مع المظاهر العصرية، وهو ما يُعدّ نوعاً من المصالحة بين الإسلام التقليدي والمشروع الليبرالي الذي اتخذته الدولة منذ بدايات الانفتاح، وبحسب الرصد الذي قدّمه شحاتة صيام في دراسته المذكورة، فإنّ هذا الدمج حاول أن يُقدّم نوعاً من المصالحة بين الشخص وذاته، على خلاف التديّن الجهادي الذي كان يدعو إلى العودة إلى الأصول، والخروج على الحاكم والمجتمع.

ويمكن القول كذلك إنّ العداء الذي يكنّه الإخوان للتديّن الشعبي، يأتي من أنّ الأخير قادر على تشكيل جماعة دينية جديدة، قادرة على ولوج الميدان الثقافي الديني، والتبشير بثقافة دينية جديدة من خلال ذاتية روحانية، أو بتعبير آخر إنّنا بصدد شكل من أشكال الدين يتسم بضعف الثقافة الجمعية التقليدية، التي تسمح بسيادة نمط من أنماط التديّن الشعبي يعتمد على الطقوس الخاصّة، ربما بالمخالفة للطقوس الرسمية، ومن الطبيعي أنّ تؤدي تعددية الطقوس المرتبطة بهذا التديّن إلى نمط جديد يتجاوز الاعتقادات الكلاسيكية، ويفرز مجموعة من الأولياء، الذين تصبح كراماتهم والممارسات المرتبطة بهم بديلاً عن الحقيقة المجرّدة، وكلّ تخيلات جماعات الإسلام السياسي.

* باحثة أكاديمية مصرية، متحصلة على درجة الدكتوراة في علم الاجتماع

مواضيع ذات صلة:
أغنية العمل بين التدين الشعبي والاختراق الأصولي

التدين الشعبي وأهازيج البحث عن الخلاص



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية