ولدت أغنية العمل من مخاض صنع الحياة في بواكيرها، صدحت بها أصوات الكادحين عبر أثير براح الحقول الخضراء، ومواقع حفر المناجم والإنشاءات المعمارية، من دروب الحمّالين القلقة وسفن الصيادين المهرة، من الساقية والشادوف والنورج والمحراث، من شقوق الأرض الجرداء، من همهمات المصريين حين كانوا يبنون قصور ملوكهم ومعبد آلهتهم؛ كل حجر في الهرم نُحت بصوت الجموع "هيلا هوب وهيلا ليصا"، إلى أن أصبحت دعوة للأمل واستمداد العون من القدير "طلع الصباح فتاح يا عليم الجيب مفيهش ولا مليم" و "يا مهوّن هوّن على طول".
تنتمي أغنية العمل للأدب الشعبي المتولد من الوعي الجمعي المتوارث، والذي يحكم سيرورة النص بالبناء عليه حسب تغيرات البنية؛ الاجتماعية والاقتصادية، وهو بناء بطبيعته مرن وشفاهي يسمح بالتغيير والتبديل، وغير مملوك لفرد، أو محتكر لجماعة وإنما مسموح بمشاعيته .
ويعود منشأ تلك الأغنية بالأساس إلى المجتمعات الزراعية والرعوية، المعتمدة على العمل الجماعي اليدوي، قبل أن تغزوها آليات الحداثة والثقافة الكتابية، لذلك نبعت من الخبرة والمعاناة، والحاجة إلى التخفف من رتابة العمل، وفي أحيان كثيرة عنفه، على إيقاعها تبتهج النفس أو تتحرر باندفاع الشكوى والآهات، في هدير صوتي جماعي متصل تذوب فيه الأنا، لاسيما أثناء تلك الأعمال التي تتطلب الانضباط في وحدة حركية سريعة ومضنية للجسد، وتلزم البقاء لمدد زمنية تتصل من الصباح الباكر إلى غروب الشمس.
لأنّ أغنية العمل بنت الحياة فهي بمثابة قطعة أدبية عفوية تعكس حياة صانعيها بكافة مكونات بنائهم الفكري والعقائدي
نجد إحدى أغنيات جمع القطن، الذي يحين موعده خلال شهر سبتمبر، ويعاني فيه الفلاحون من ارتفاع درجة الحرارة، يستجدون الشمس أن تغرب "يا شمس حجي وغربي، وسلمي لنا ع النبي" مستعطفين الخولي (رئيسهم) أن يرأف بحالهم "يا خولينا بص في المجمع تلاقينا كلنا بنجمع، يا خولينا بص في الساعة تلاقينا كلنا جواعة، يا خولينا بص في النبوت تلاقينا كلنا بنموت".
ولأنّ أغنية العمل بنت الحياة، بفعاليتها المباشرة، فهي بمثابة قطعة أدبية عفوية، تعكس حياة صانعيها بكافة مكونات بنائهم الفكري والعقائدي، بما تتضمنه من عادات وتقاليد وطقوس وأعراف اجتماعية، وفيها نجد العامل والفلاح في وحدة عضوية مع بيئته وأدواته، بشكل يعكس فلسفته الإيمانية الأشمل، التي ترى العالم في وحدته الكونية.
كان الفلاح يحتفي بحيواناته المستأنسة، بمحراثه وساقيته، ويغني لها ويحدثها، ويبث إليها همه، ببراءة عقل الإنسان الاحيائي بكينونته الطفولية البدائية؛ منها تلك الأغنية المعنونة بـــ "أغنية الري والساقية" وفيها :"يا ساجية (ساقية) دوري يمين وشمال، واسجي (اسقي) العنب الخوخي والرمان، سلامة الحمرا ( البقرة) من السكين، معايشة الفجرا (الفقراء) والمساكين... يا رب صبحنا صباح الخير، صباح خواجة (صاحب المال) ما عليه دين، يا رب صبرنا صبر أيوب، وأيوب صبر لما وفى الوعد والمكتوب".
ومن هذه المناجاة العذبة، التي يختلط فيها التماس الحاجة بمحبة الأشياء وصبغها بالمعنى، نقول إنّ الدين شكّل مركزية كل منتوجات الثقافة الشعبية، بما يتضمن أغانيها، ففي الوجه البحري بمصر كان يستهل ويختتم فلاحوه أغنياتهم، بتقديم آيات الشكر والثناء إلى الله، ثم الصلاة على الرسول، عليه السلام، أو ذكر أحد الأولياء الصالحين، وبعض آل البيت.
وفي أغنية "التطويش"، التي لا يزال يرددها فلاحو الوجه القبلي بمصر، تتجسد جلّ مدلولات الإيمان بوصفه "الشعبي"؛ إذ تُستهل بالتوحيد "لا إله إلا الله، يا غفلان وحد الله، هي شهادة التوحيد بيها العبد يبقى سيد"، ولأن الثقافة الشعبية واقعية، وتشتد واقعيتها كلما نبعت من بيئة شديدة المراس، فستكون كل تحايا الصلاة والتقديس، مدفوعة بسلطتي المحبة والنفعية في آنٍ واحد.
الدين شكّل مركزية الثقافة الشعبية بما يتضمن أغانيها ففي الوجه البحري بمصر يستهل ويختتم فلاحوه أغنياتهم بالشكر والثناء إلى لله
ومن آيات تلك الواقعية، أن يأخذ الوليّ الحيز الفعلي المعاين في حياة هؤلاء الكادحين بما يمثل نسقاً إيمانياً مغايراً تماماً لمعايير الفقه الديني التقليدي، في هذا النسق يمتلك الوليّ القدرة على منح عطاياه، أو العقاب الفوري في الزمن الآني لا الآجل؛ بل وتبتدئ تراتبية الوليّ في هرم القداسة من الأقرب مكانياً، ففي أغنية التطويش المشار إليها، يُصلى على التهامي وجلال الدين الأسيوطي والتيجاني؛ شيوخ الطرق الصوفية المعروفين بالصعيد، ثم البدوي والدسوقي وأبو العباس، وبالصلاة عليهم يأتي الخير، أو يخرب البيت وفق نص الأغنية "وإن صليتوا، الخير ريتو، وإن ما صليتوا يا خراب بيتو".
وكما يناجي العامل والفلاح ربه وأولياءه، يناجي محبوبه، وتكون فرصته للتخفف بشكل رمزي، من مشاعره واحتياجاته العاطفية الضاغطة والمقيدة، لاسيما أنّ موسم الحصاد في الريف مرتبط بمواعيد والتزامات حفلات الزواج والخطبة؛ إذ تتضمن جميع أغنيات العمل الشعبية، الرغبة في لقاء المحبوب بعد اشتياق ووله، ويأخذ الجسد الأنثوي حيزاً كبيراً من الدلالات الوصفية، والمعايير الجمالية، مثل "اتدحرجي يا بيضة في الكرم نجي بلح.. واتدحرجت البيضا خلت جلبي ممنون".
وفي أغنية تتعلق بالأعمال المنزلية الخاصة بالمرأة الريفية، مثل "البحر بيضحك ليه، وأنا نازلة أدلع أملى القلل"، نلاحظ دلالة الواقع المتحرر من قيوده الدينية والاجتماعية، المرأة تخرج وتسير بدلالها المغوي، بل وتصرح عن علاقتها العاطفية، التي تربطها بمحبوبها "الجرة كانت على راسي، قابلني محبوبي القاسي" .
أصبحت الأغنية الشعبية التي تشيع في أوساط العمل، غير منشغلة بالعمل ولا مختصة به، وأصيبت بعمومية صارخة البؤس
ومع دخول المجتمعات الشرقية، ومنها مصر في تجربة التصنيع، عُني بعض الملحنين والمغنين بإعادة تداول هذا التراث، في قالب حداثي ثوري، مَعني بقضايا العدالة الاجتماعية وانعكاسات الواقع، ومنها أغنية "الحلوة دي قامت تعجن في البدرية"، تأليف بديع خيري وتلحين سيد درويش، وكانت لا تزال الأغنية عذبة، تحمل معاني الأمل واستمداد العون من قوى الغيب الرحيمة المُحبة، ورغم الفقر "بس المزاج رايق وسليم، باب الأمل بابك يا رحيم .. ياللي معاك المال بردو الفقير له رب كريم"، أو حين غني الشيخ إمام "طلع الصباح كل الجمال في طلعته، والطير صدح للمولى جلت قدرته، ألحان جميلة تنعش القلب الحزين" .
الآن، وفي ظلّ تمدين الريف وحداثته وتغير البنية الاجتماعية، ثم انسداد الأفق بسيولته الدينية الأصولية، لم تعد المرأة الريفية في حاجة إلى ملء جرارها، ولا صنع خبزها بشكل يومي، ولا الغناء بدلال عن محبوبها، واستُبدلت الأغنية الحية، بأثير محطات الإذاعة وقنوات الدين المتخصصة، التي تدس السمّ في العسل، أو الأغنيات الشعبية الاستهلاكية المسماة "بالمهرجانات"، الشائع تداولها بين صفوف النشء والشباب من الجنسين؛ إذ يُستمع إليها أثناء تجمعات موسم الحصاد بشكل جماعي، أو فردي من خلال الهواتف النقالة.
الآن أصبحت الأغنية الشعبية التي تشيع في أوساط العمل، غير منشغلة بالعمل ولا مختصة به، وإنما أصيبت بعمومية صارخة البؤس مبتذلة المعنى واللحن، قالبها متناقض وعشوائي، يحكمه تداعي الارتجال، ولا يمثل ذلك النقد نوعاً من ممارسة الاستعلاء الثقافي النخبوي، ولا إدانة صانعيها، مقابل اجترار براءة زمن اجتماعي ولّى بأعبائه، إذا آمنّا بحتمية التغيير، بقدر تبّيُن جزء من الواقع الكلي المهترئ والمرتبك، فأي جمال ومنطقية في أغنية مطلعها مثلاً: "احنا بتوع ربنا ومعانا شهادة بكدا"؟!، وأي عذوبة تعين على كدَّ الحياة في أغنية "الشيطان قال للعبد"، التي تمثل حواراً دينياً محضاً، لا يخلو من ممارسة الوصاية القبيحة، التي يؤصلها الوعي، بتكرار ممل وصاخب؟!