تماماً كما هو الحال عندما ينخرط الشبابُ في سلوكٍ مستهجَنٍ اجتماعياً (الجنوح والعنف وما إلى ذلك) فإنّ الأنظار غالباً ما تتحوّل إلى أسَرِهم الأصلية، عندما يُقبِل شبابٌ متطرّفون على ارتكابِ أعمالٍ إرهابية: كيف أمكن أنْ يحدث هذا؟ وأيّ تربية تلقّوها حتى يصِلوا إلى هذه الأعمال؟ وكيف لم يُدرك الوالدان ما كان سيحدُث ولم يتدخّلوا لوقفِ العملية؟ هل كان هناك تواطؤٌ من الأقارب، على الأقل من حيث عدم الإبلاغِ عنهم؟
عندما يرتكب شاب جريمة، وخاصة عندما يتعلق الأمرُ بالإرهاب، فإنّنا نتوجه تلقائياً إلى عائلته: كيف سمحت له بذلك؟ هل الآباء مسؤولون؟ ما هي خصائص هؤلاء الشباب، وكيف يصلون إلى التطرف؟
ما هو تأثير الأسر؟
في كثير من الحالات، يتم التطرف دون معرفةِ الأسرة. الآباءُ يُصابون بالذهول عندما يعلَمون أنّ طفلهم قد تورّط في هجومٍ إرهابي. فبالإضافة إلى أَلَمِ فُقدانهم لأطفالهم (معظمهم يُقتَلون في هجماتٍ، أو يُفجِّرون أنفسَهم في تفجير انتحاري)، يتحمّل هؤلاء الآباءُ أيضاً الأنظارَ الخارجية، والشعور بالذَّنب، أو حتى العار. بعضُهم لا يجرؤ على مغادرة منازلهم. قال والدُ صلاح عبد السلام: "أنا مريضُ وحزين. لقد كنتُ في بلجيكا لمدة 40 عاماً. كنا هناك، كنا سعداء، كنّا بخير، خرجنا، وضحكنا. والآن لا يمكننا حتى الخروج من منزلنا. أمّا شقيقُ صالح عبد السلام، فقد فصلته بلدية مولنبيك التي كان يعمل فيها، واتهمته بكسرِ علاقة الثقة التي ربطته بصاحب العمل، لِما أدلى به من تصريحات في الصحافة بعد تفجيرات باريس التي شارك فيها شقيقُه.
يقول عالِم الاجتماع، ومؤلف كتاب "التطرف" خسروخافار إنّ "الثقة المطلقة بين الأخوين ضمانةٌ ضد أجهزة الاستخبارات
إذا كان تأثيرُ الأسرة على تطرّفِ شابٍّ غالباً ما يكون محدوداً أو لا وجودَ له، فإنّ بعض علماء النفس يُسلّطون الضوء على الوضع الفوضوي الذي يُميز الكثيرَ من أسر الشباب المتطرّفين. ففي رأيِ باتريك امويل، المحلل النفسي، وأستاذ علم النفس في جامعة نيس (فرنسا)، والمتخصص في الظاهرة الجهادية، أنّ "الشيءَ الوحيد الواضح والبديهي حقاً الذي يشترك فيه العديدُ من هؤلاء الشباب يتمثل في الاختلالات الأسرية. لقد شهدت هذه الأسرُ حالات طلاق مأساوية، وخيانات، وهجْراً، واعتداءات جنسية. آباء تركوا أطفالهم وتخلّوا عنهم، وآباء أساؤوا واعتدوا على أطفالهم. ولكنّ حالات الأسر الفوضوية عديدة اليوم، ولا تقودُ بالضرورة جميعَ الشباب الذين يعيشون فيها إلى أعمالٍ إرهابية.
وهناك عنصرٌ آخر يثير التساؤل: عددُ الأشقاء الذين تم إحصاؤهم بين الشباب الذين يرتكبون الهجمات. من بين أشقاء كثرٌ، وأكثرهم شهرة هناك إبراهيم وصلاح عبد السلام في هجمات في باريس، والأخوان كواشي في الهجوم ضد شارلي ابدو، والأخوان تامرلان وجوهر تسارناييف في هجمات بوسطن في عام 2013، وعبد الحميد أبا عود، العقل المُدبّر لهجمات باريس الذي درّب شقيقه البالغ من العمر 13 عاماً في سوريا.
كيف نُفسّر أنّ الكثير من الأشقاء يتطرّفون معاً ويُنفّذون العمليات الإرهابية معاً؟ يرى ريكْ كولسايت، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة غاند Gand والخبير في الإرهاب والتطرف، أنّ أحد التفسيرات يكْمُنُ في نمط شبكات التجنيد نفسه، الذي يتم أساساً ما بين الأقران والنظراء. "إنّ وزْنَ القرابة والصداقة أثقل بكثير من الدِّين أو الحي. فالمسألة مسألة قُرب. فلهذا السبب تضم الجماعاتُ الجهادية الكثيرَ من الإخوة، والأخوات في بعض الأحيان، وأصدقاء الحي. فهم يكبُرون معاً، ويشتركون في التذمّر والتمرد، ويَخترِعون هُويةَ المُدافعين عن الإسلام المُعتدَى عليه، وعن النساء والأطفال الذين قُتِلوا في القصف الجوي. هكذا يتطرّفون، وهكذا يُعزّز بعضُهم البعضَ الآخر. وغالباً ما يحرّك الأشقاءُ الثقةَ العمياء. "فالمتطرف يثق في أقرب الأشخاص إليه، بطبيعة الحال، وعندما يتعلق الأمر بتدريبٍ شخصٍ معه، فإنّ الهدفَ الأكثرَ منطقيةً هو الأخ الأصغر أو الأخ الأكبر". وبالإضافة إلى ذلك، يقول خسروخافار، عالِم الاجتماع، ومؤلف كتاب "التطرف" إنّ "الثقة المطلقة بين الأخوين ضمانةٌ ضد أجهزة الاستخبارات. فحتى لو قرّر أحدُ الأشقاء عدم المشاركة فإنه لن يُبلغ الشرطةَ عن شقيقه. وإذا جاء الإخوة من الأسر التي تفككت فيها الروابط، فإنّ المشاركة معاً في مشاريع إرهابية تعطيهم الشعورَ بالتماسك الذي يحلّ محلّ الروابط الأسرية الضائعة.
ملامح الشباب المتطرف
البحثُ عن الأسباب والمسؤوليات المحتملة يصبح أكثرَ تعقيداً عندما نَدرُس الملامحَ الشخصية للشباب الذين أصبحوا متطرّفين. لقد درَس عالمُ الاجتماع الفرنسي خسروخافار فرهاد مسارات الجهاديين الفرنسيين الشباب، وبالنسبة لهذا الباحث فحتى عام 2013، معظم الشباب المتطرفين كانوا يأتون من الضواحي. "إنّ ذاتية الشباب الساخطين الذين يحتضنون الإسلام الراديكالي تتميّز بسماتٍ أساسية: كراهية المجتمع الذي يشعرون أنه غير عادل في حقهم. فهم يعيشون الإقصاءَ كحقيقة لا يمكن التغلب عليها، وكوصمةِ عارٍ يحملونها على وجوههم. وصمةُ العار هذه في عيون الآخرين تمنحهم شعوراً عميقا بحقارتِهم وعدم جدارتهم. هؤلاء الشباب يُحوّلون ازدراءهم لأنفسهم إلى كراهية نحو الآخرين. (...) وما دامتْ الكراهية تجد مخرجاً في الجنوح، فإنّها تهدأ من خلال الوصول، لفترات قصيرة، إلى راحةٍ مادية يليها تبديدٌ للممتلكات المكتسبة بشكل غير قانوني. ولكن بالنسبة لأقليةٍ صغيرة، فإنّ الانحراف وحده لا يُرضيهم. فهم بحاجة إلى شكلٍ من أشكال التأكيد الذاتي الذي يجمع بين عدة صفات: استعادة الكرامة المفقودة واستعدادهم للتأكيد على تفوّقهم على الآخرين، عن طريق وضْعِ حدٍّ لازدرائِهم لأنفسِهم. إنّ تحول الكراهية إلى جهادية يُكرس داء "الكلَب الجهادي" عندهم، ويجعلهم يتغلّبون على شعورهم بالضيق من خلال الالتزام برؤيةٍ تجعلهم "فرسان الإيمان"، وتجعل الآخرين "كفرة" لا يستحقون الوجود. (...) الإسلام الجهادي يمنح لهم وضْع البطل المطلق، المغلّف بِهيبةِ الشهيد. "
لا توجد أسرةٌ نمطية تسمح بِظهور متطرفين. فهؤلاء يأتون من أسرٍ مهاجرة، أو يشعرون بالإقصاء
لكنّ الإقصاء ليس كافياً لشرح التطرف؛ إذ كان الجهاديون الشباب نادراً ما كانوا يأتون من الطبقة الوسطى قبل بدء الحرب الأهلية في سوريا (2013)، فهم يشكلون منذ ذلك الوقت، إلى جانب شباب المدن، جزءاً كبيراً من الجهاديين الذين ذهبوا إلى سوريا للإلتحاق بداعش. وثمة موضوعٌ مفاجئ آخر، وهو أنّ هؤلاء الشباب لا يأتون بالضرورة من أوساط مسلمة. فهم يتحوّلون من جميع الأديان إلى الإسلام الراديكالي "مسيحيّون مستاؤُون يسعون إلى انفعالاتٍ روحية قوية لم تستطع الكاثوليكية المؤسسية أن تجعلهم يخِبرون مثل هذه الاتفعالات الروحية. ويهود اعتنقوا العلمانية وتعِبوا من يهوديتهم التي لا جذور دينية فيها. وبُوذيون من عائلات فرنسية اعتنقت البوذية في وقت سابق، ويسعون للحصول على هُوية منتعِشة ونشطة في خدمة الحرب المقدسة، على نقيض النسخة السلمية لهذا الدين (البوذية) في أوروبا.
وخلافاً لشباب الضواحي، فإنّ هؤلاء الشباب من الطبقة المتوسطة لا يملكون كراهيةً للمجتمع، ولا هم عانوا الإقصاء الذي فرضه المجتمع على الآخرين (أي شباب الضواحي). مشكلتهم هي مشكلة السلطة والمعايير؟ هذا الشباب يرغب في أن يُعيد رسم الحدود بين ما هو مباح وما هو محظور. الحال أنّ الرؤيةَ الإسلامية تمنحهم هذه الرؤية بالأسود والأبيض. وإلى جانب هذه الأوهام هناك أيضاً السعي لتحقيق العدالة لبلدٍ بعينه، سوريا مثلاً، حيث قتل النظام الدموي 200000 شخص وشرّد ملايين آخرين. هؤلاء الشباب المسلحون بإيمانٍ ساذج همُّهُم هو محاربة الشر".
والحال أنه على هذا الأساس "الإنساني" أيضاً انضمّت أعدادٌ متزايدة من الشابات إلى الجهاد. وفي هذا الشأن ترى دنيا بوزار، مؤسِّسة مركز الوقاية من الانتهاكات الطائفية المرتبطة بالتطرف الديني أنّ "النقطة المشتركة بين الفتيات المُجنَّدات، بغضّ النظر عن أصلهنّ أو الطبقة الاجتماعية التي ينتمِين إليها هي أنهنّ كنّ قد أشرنَ على الإنترنت إلى أنهنّ يُرِدْنَ أنْ يمارسن مهنةً من مِهن الإيثار: أخصائية اجتماعية، طبيبة، ممرّضة، إلخ. والحال أنّ صيّادي الرؤوس الإسلاميين المتطرّفين يستهدفون على وجه التحديد هذا النمط من الفتيات، من خلال شعارت محدّدة واستخدام أشرطة فيديو ذات الطابع "الإنساني"، بخطابٍ بسيط، مثل: كيف يمكنكِ أنْ تَدرُسي في الوقت الذي يقتل بشار الأسد الأطفال، وفي الوقت الذي لا يُحرك المجتمع الدولي ساكناً؟
هل الأسر مذنبة؟
واستناداً إلى ما سبق، يمكن القولُ إنّه لا توجد أسرةٌ نمطية يمكن أنْ تسمح بِظهور شباب متطرفين. فهؤلاء المتطرّفون يمكن أنْ يأتوا من أسرٍ ذات خلفية مهاجرة، أو يشعرون بالإقصاء من قبل المجتمع، أو من الاستهلاك، ولكنْ أيضاً من أسرِ الطبقة المتوسطة المُندمِجة تماماً في المجتمع.
إنّ الأمر بالنسبة للبعض هو الشعور بالاستبعاد والإقصاء والسخط الذي يدفعهم إلى السعي إلى الانتقام، وإلى بناءِ كرامةٍ جديدة، فيما البعض الآخر يبدأون رحلتَهم نحو التطرف في البحث عن العدالة الأكثر إيثاراً. هذا فيما البعض الآخر يبحث عن المطلق والراديكالية، مثلما يفعل العديدُ من الشباب في مرحلةٍ من مراحل حياتهم.
يمكن أنْ تكون الدوافعُ الدينية قويةً نوعاً ماً، كما يمكن للشباب أنْ يأتوا من الإسلام ومن خارج هذا التقليد على السواء (اليهود والبوذيون والمسيحيون، وغرهم). ففي كثير من الأحيان لا يمثل الإسلامُ لهم سوى قذيفةٍ فارغة مليئة بأيّ شيء.
لذلك من الصعب جداً في هذه الظروف تحويلُ أصابع الاتهام تلقائياً إلى أُسر هؤلاء الشباب المتطرفين. بل من الأنسب مساعدةُ الأسر التي تخشى أنْ يتحرك أحدُ أطفالها في هذا الاتجاه.
couplesfamilles.be