
تزامنٌ لافتٌ بين زيارة رئيس جهاز الاستخبارات التركي، إبراهيم كالن، للعاصمة الليبية طرابلس مطلع الشهر الجاري، وتصريحات رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة ووزير الداخلية عماد الطرابلسي، والمراسيم التي أعلنها محمد المنفي، رئيس المجلس الرئاسي، بعد انتهاء الزيارة غير المعلنة بساعات قليلة.
تركيا في طرابلس... توقيت حساس وتصريحات لافتة
جاءت تصريحات الدبيبة والطرابلسي لتُفصح بوضوح عن هشاشة الوضع الأمني في العاصمة، ومدى تعقيد المشهد السياسي، وارتباط زيارة كالن بالتحرك نحو التثبّت من الهدنة التي أعقبت تصفية غنيوة الككلي، قائد جهاز دعم الاستقرار، والسعي إلى حلّ كافة التشكيلات التابعة للأجسام السياسية مقابل توحيدها وهيكلتها جميعًا.
بدا واضحًا من ذلك كله أنّ ثمة صراعًا خفيًا بين مراكز قوى داخل مؤسسات الدولة نفسها، حيث لم تَعُد الحدود واضحة بين الأجهزة الأمنية الرسمية والميليشيات المسلحة التي تتلقى تمويلًا حكوميًا. كما أنّ تبادل المسؤولية والتصريحات بين وزير الداخلية والدبيبة من جهة، ومراسيم المنفي واعتراض بقية أعضاء رئاسة المجلس الرئاسي من جهة أخرى، يُفصح عن تناقض في الرؤى بين الشركاء الفاعلين في الغرب الليبي، في وقتٍ ترتفع فيه المخاوف من عودة الفوضى إلى الشوارع والميادين من جديد.
تصريحات الدبيية والطرابلسي... إصلاح أمني أم رسائل تهديد
يبدو الاستنتاج الرئيسي من تزامن كل ذلك هو السعي إلى تثبيت الهدنة من خلال فصل مفاعيل التوتر بين الأجهزة والكتائب الأمنية، خاصةً تجاه قوات الردع ورئيسها عبد الرؤوف كاره، وذلك في الأفق المنظور، إلى حين حسم أمر الحكومة الجديدة وتشكيلتها.
في هذا السياق، قال المحلل السياسي خالد الحجازي: إنّ العاصمة الليبية طرابلس شهدت خلال الأيام الماضية مجموعة من المؤشرات المتداخلة، شملت الجوانب الأمنية والسياسية-الدبلوماسية، وتعكس جميعها حالة من التوتر المبطّن وعدم الاستقرار في العلاقة بين مراكز النفوذ داخل الغرب الليبي، وكذلك في صلتها بالقوى الإقليمية.
رسائل أنقرة وأهداف أردوغان في ليبيا
بيّن الكاتب الليبي في حديثه لـ (حفريات) أنّ هذه الزيارة حملت رسائل واضحة وغير معتادة، خاصةً أنّ تركيا تُعدّ الحليف الأكثر تأثيرًا في حكومة الوحدة الوطنية. ولفت إلى أنّ امتناع رئيس جهاز الاستخبارات التركي عن لقاء رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة أو رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي يحمل عدة دلالات: رسالة امتعاض، أو إعادة تموضع تركي، حيث قد تكون أنقرة بصدد إعادة تقييم تحالفاتها في طرابلس، أو توجيه رسالة غير مباشرة تعكس عدم رضاها عن أداء الحكومة أو المجلس الرئاسي.
وكذلك تركيز الزيارة على ملفات أمنية بحتة، فقد أشارت بعض التقارير إلى أنّ اللقاءات اقتصرت على قيادات أمنية وعسكرية، ممّا يوحي بأنّ تركيا تتحرك عبر "القنوات العميقة"، في ظل تخوف من انهيار منظومة السيطرة الأمنية في العاصمة.
وأيضًا طمأنة أطراف أخرى، إذ ربما هدفت الزيارة إلى طمأنة بعض القيادات غير الرسمية بأنّ العلاقة مع تركيا مستمرة، بغضّ النظر عن مصير الحكومة الحالية.
رسائل كالن في طرابلس... ماذا وراءها؟
أمّا بخصوص الرسائل المحتملة التي حملها كالن إلى طرابلس، فقد لفت الحجازي إلى أنّ رئيس الاستخبارات التركي إبراهيم كالن ليس مجرد مسؤول أمني، بل شخصية سياسية وثيقة الصلة بالرئيس أردوغان، وهو ما يمنح زيارته طابعًا استراتيجيًا. وبيّن أنّ رسائله المحتملة تضمنت التأكيد على مصالح تركيا في ليبيا، خصوصًا في غرب البلاد، سواء من خلال الاتفاقات الأمنية أو الاقتصادية، مع الحرص على استمرار النفوذ التركي رغم أيّ تغييرات مرتقبة في السلطة.
واحتواء التصعيد بين المجموعات المسلحة، وسط الحديث عن إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية أو تفكيك بعض التشكيلات.
والتهيئة لمرحلة انتقالية، إذ لا تُستبعد تركيا من الدفع نحو حكومة جديدة، وتسعى لتأمين موطئ قدم لها في المعادلة المقبلة.
تفكيك الميليشيات ومعسكرات النفوذ في طرابلس
وبالسؤال حول تصريحات الدبيبة والطرابلسي بشأن تفكيك الميليشيات، وهل هي خطوة إصلاح أم تمهيد لتفجير؟
شدد الحجازي على أنّ التصريحات المتعلقة بتفكيك التشكيلات المسلحة ودمجها تبدو في ظاهرها كخطوة إصلاحية، لكنّها تعكس في الواقع حالة من الاحتقان داخل معسكرات النفوذ في طرابلس. وأوضح أنّ هناك احتمالين:
الأوّل: محاولة لفرض هيمنة أمنية أحادية، عبر الاعتماد على قوات من مصراتة موالية للدبيبة، ممّا يسهل له السيطرة على العاصمة، خاصةً في ظل المظاهرات التي خرجت خلال الأسابيع الثلاثة الماضية للمطالبة بإسقاط حكومته. وقد تكون هذه الخطوة استجابة لضغوط إقليمية أو دولية، أو تمهيدًا لتسويق نفسه كمرشح توافقي أمام البعثة الأممية.
والثاني: مواجهة محتملة مع تشكيلات أخرى تابعة للمجلس الرئاسي، مثل قوات الردع، والجهاز القضائي، وجهاز الدعم والاستقرار، ممّا قد يؤدي إلى "سيولة أمنية" وربما اشتباكات مسلحة.
وأضاف الحجازي أنّ العاصمة طرابلس قد تشهد توترًا جديدًا إذا لم يتم التوافق على رؤية موحدة لإعادة هيكلة القطاع الأمني.
مستقبل الأجسام السياسية في ليبيا
وحول مستقبل الهيئات الحاكمة في غرب ليبيا ـ الحكومة والمجلس الرئاسي ـ أشار الحجازي إلى أنّ حكومة الدبيبة والمجلس الرئاسي يعيشان حالة من الضعف السياسي وفقدان الثقة، داخليًا وخارجيًا. وتابع قائلًا: إنّ حكومة الدبيبة مرشحة للتغيير، سواء عبر توافق دولي-إقليمي على مرحلة انتقالية جديدة، أو نتيجة لانهيار داخلي في موازين القوى الداعمة لها.
أمّا المجلس الرئاسي، فقد بات مهمّشًا، وأقرب إلى هيئة رمزية دون تأثير فعلي في ملفات الأمن والسياسة.
إذاً، المرحلة المقبلة قد تشهد الدفع نحو حكومة مصغّرة أو مجلس رئاسي جديد، لا سيّما بعد أن شرع البرلمان في استقبال مرشحين جدد وتقييم برامجهم لاختيار بديل محتمل للحكومة، وهو ما قد يحدث في حال تم التوصل إلى توافق بين البعثة الأممية، والبرلمان، والمجلس الأعلى للدولة.
القوى الوطنية وهدف تقويض حكم السلاح
واختتم خالد الحجازي حديثه لـ (حفريات) بالقول: إنّ ما يحدث في طرابلس اليوم يعكس هشاشة الانقسام السياسي وتضارب المصالح بين الداخل والخارج، مشددًا على أنّ "مهمة القوى الوطنية ـ وفي مقدمتها حراك شباب ليبيا ـ أن تُبقي البوصلة متجهة نحو جوهر الأزمة: غياب دولة القانون، واستمرار حكم السلاح".
وأكد أنّ ليبيا بحاجة إلى انتقال سياسي شامل، لا إلى ترقيع مؤسسات فاقدة للشرعية الشعبية.
مراسيم المنفي: احتواء أم بداية الانزياح
هذا، وقد رحب جهاز الردع بقرار المجلس الرئاسي بشأن تشكيل اللجنة الأمنية والعسكرية المؤقتة لتثبيت الترتيبات الأمنية في العاصمة طرابلس، وأكد دعمه الكامل لهذه الخطوة التي تُعدّ ركيزةً أساسيةً لتعزيز الاستقرار، وضمان عودة الهدوء، وتمكين مؤسسات الدولة من العمل في مناخ آمن وأكثر تنظيمًا.
يأتي ذلك بعد تصريحات عبد الحميد الدبيبة ووزير داخليته عماد الطرابلسي بضرورة حل كل الميليشيات التابعة للأجسام السياسية.
من جانبها، قالت النائبة السابقة نادية الراشد: إنّ ليبيا عرفت مؤخرًا أحداثًا وتطوراتٍ متسارعةً جدًا داخل المنطقة الغربية، وتحديدًا العاصمة طرابلس، من خلال وضع أمني هش، ممّا أدى إلى فوضى عارمة، وتعرّض المنطقة الواقعة تحت سيطرة قوة دعم الاستقرار إلى عمليات نهب وسلب.
حلم السيادة والاستقرار يواجه خطر السلاح المنفلت
الأمر الذي أفضى إلى خروج المواطنين في تظاهرات لعدة أيام متتابعة، حملت في طياتها وشعاراتها مطالبات بإنهاء كل الميليشيات والأجسام السياسية، وضرورة الخضوع لإرادة الشعب.
إلى ذلك، لفتت الراشد في حديثها لـ (حفريات) إلى وجود خطة من قبل رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، ومحمد المنفي رئيس المجلس الرئاسي، تهدف إلى تشكيل لجنة تسيطر على الوضع الأمني في العاصمة طرابلس، وهو ما بدا في المرسومين اللذين أصدرهما السيد المنفي، بتشكيل لجنة مشتركة لسحب القوات والمظاهر العسكرية من العاصمة طرابلس، وأن تتولى اللجنة المُشكّلة مهام وضع خطة شاملة لترتيبات أمنية وعسكرية في طرابلس. ونصّ المرسوم الثاني على تشكيل لجنة تتولى متابعة أوضاع السجون وأماكن الاحتجاز، ومراجعة حالات التوقيف التي تمّت خارج نطاق السلطة القضائية.
وبيّنت الراشد أنّه خلال زيارة رئيس جهاز الاستخبارات التركية، كالن، التقى الأطراف المتنازعة وفقًا لمسارات الدول الفاعلة إقليميًا ودوليًا، والعمل على السيطرة في العاصمة ومنع الانزلاق نحو موجة جديدة من السيولة الميدانية.
وتذهب الراشد في ترجيحها للسيناريو القادم إلى أنّه سيأتي من خلال تشكيل حكومة واحدة تفرض سيطرتها على كامل التراب الليبي.