
مثّل الإعلان الدستوري لسوريا، وقد أقره أحمد الشرع الذي نصّب نفسه رئيساً لمرحلة انتقالية في سوريا، مثّل إحباطات عديدة، خاصة بعد الاتفاق الذي قام به مع الجنرال مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية. لأنّ غياب حقوق القوميات المتعددة بسوريا، والإصرار على الإقصاء والتهميش وجعل سوريا نموذجًا أحاديًا وشموليًا على طريقة البعث، ولا تتخطى دائرة العائلوية أو الحزبية والقبول بالتعددية، تسبب في موجة غضب قصوى بين قطاعات واسعة من السوريين، وخروج تظاهرات، لا سيّما في شمال شرق سوريا، كما أنّ الدستور يمنح صلاحيات هائلة للشرع، بل يجعله وحكومته خارج دائرة المساءلة.
واعتبر الباحث والمفكر السوري نجيب جورج عوض أنّ هذا الإعلان الدستوري الذي باغت به الشرع السوريين من دون استفتاء يمثل المعادل السنّي لما يُعرف في إيران بـ "مجلس تشخيص النظام". واللافت أنّ الحالة السلطوية التي يسعى لها حكام سوريا الجدد تؤشر إلى رغبة في إدامة النموذج القمعي ذاته لنظام بشار الأسد، لكنّها هذه المرّة حالة لها صفة "السلفية الجهادية"، بوجهها القاتم والعنيف والطائفي.
ويقول جورج عوض في مقال له بعنوان: "الإعلان الدستوري ومجلس تشخيص مصلحة النظام السوري": "في التوصيف الموضوعي السياسي لإطلاق الإعلان، وقَّعَ من صار بفضل الإعلان حاكمًا بأمره جديدًا (بمشروعية باتت دستورية) على إعلان دستوري كارثي، قدمته له لجنة من الجهلة والمزيفين علميّاً عيّنها هو شخصياً، كما سيعين ثلث مجلس الشورى الشعبي ومجلس القضاء الأعلى، وكما سيعين نفسه كسلطة حكومية أيضًا (ليصير ما كان حافظ الأسد قبله: المعلم الأول، والقاضي الأول، والجندي الأول، وكلشي الأول). وقد قام الإعلان المذكور بقوننة ثالوث العقل السياسي السلفي: خلافة ـ شريعة ـ مشورة. ويمثّل هذا الإعلان فعليّاً فرضًا لنظام أوتوقراطي أحادي يشرعن الاستبداد والاستئثار ويخلط السلطات ويذوبها في منصب الرئاسة، ويعتبر البرلمان مجرد مجلس استشاري لمؤسسة الرئاسة ليس له سلطة النقد والمحاسبة والمراقبة؛ عاد نظام البعث من النافذة وضاعت الدولة وتمّ دفنها في المهد. انتهى حلم المدنية والديمقراطية والانتخاب، وما عاد هناك مبرر أو حاجة لتأسيس أحزاب أو للتعاطي بالسياسة والشأن العام وفق تنافس حزبي وبرامج انتخابية. دخلت سوريا في عهد استبداد أسود جديد تمّ تدشينه بمذبحة مروعة في منطقة الساحل".
صلاحيات مطلقة للرئيس
وتقضي مسودة "الإعلان الدستوري" بأن يتولى مجلس الشعب العملية التشريعية كاملة والسلطة التنفيذية يتولاها رئيس الجمهورية. وفيما يتعلق بعمل السلطات، ورد في الإعلان الدستوري: "لأنّ مبدأ الفصل ما بين السلطات كان غائبًا عن النظم السياسية، تعمّدنا اللجوء إلى الفصل المطلق بين السلطات"، بعدما عانى السوريون "سابقًا من تغوّل رئيس الجمهورية على باقي السلطات".
وكما جاء في الإعلان الدستوري، يعود للرئيس الانتقالي "تعيين ثلث" أعضاء مجلس الشعب الذي يتولّى "العملية التشريعية كاملة وبشكل منفرد". كما حدد مدة المرحلة الانتقالية بـ (5) أعوام، ومنح الرئيس أحمد الشرع حق إعلان حالة الطوارئ، جزئيًا أو كليًا، وبموافقة "مجلس الأمن القومي".
من جهته، عقّب مجلس سوريا الديمقراطية "مسد"، الأحد الماضي على هذا الإعلان بوصفه "مُخيبًا للآمال، ولم يعكس بشكل كافٍ طموحات الشعب السوري في بناء دولة ديمقراطية عادلة". وفي الذكرى الـ (14) لانطلاق الأحداث في سوريا، أكد مجلس سوريا الديمقراطية على "ضرورة انتهاج حلول سياسية شاملة، تأخذ بعين الاعتبار الواقع السوري وتعقيداته، وتحترم التعددية والتنوع".
وتابع: "تحقيق أهداف الثورة لا يقتصر على تغيير النظام فحسب، بل يتطلب العمل الجاد لبناء نظام جديد يعبّر عن إرادة السوريين كافة، ويضمن حقوقهم ويكرّس مبادئ العدالة والديمقراطية".
وأوضح مجلس سوريا الديمقراطية أنّ الدستور يتعين أن يكون "نواة لسوريا حرة ديمقراطية"، وأنّه "مستمر في العمل من أجل بناء سوريا "ديمقراطية تعددية لا مركزية لجميع السوريين"، مشيرًا إلى "تضحيات السوريين الذين انتفضوا مطالبين بالحرية والكرامة والعدالة في وجه نظام استبدادي حرمهم من حقوقهم لعقود"، مضيفًا أنّ "الحراك الشعبي تجسيد للإرادة الوطنية في بناء دولة ديمقراطية تعددية قائمة على سيادة القانون".
وطالبت "الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا" كافة أبناء الشعب السوري والقوى الوطنية بضرورة "التكاتف والوحدة من أجل صياغة دستور يعبّر عن طموحات الجميع".
انحراف عن مبادئ المواطنة
وفي حديثه لـ (حفريات) يوضح الكاتب السوري المقيم في فرنسا، شيار خليل، أنّ الإعلان الدستوري يشكل انحرافًا خطيرًا عن مبادئ المواطنة والديمقراطية، حيث يكرس الإقصاء والتهميش، ويؤسس لنظام استبدادي يمنح صلاحيات غير مقيدة لرئيس غير منتخب، في ظل تغييب واضح لمبدأ فصل السلطات. فإقصاء التنوع السوري وتجاهل الهوية التعددية، ينتهي حتمًا إلى العنف واستئناف القمع.
وبحسب خليل، يعتمد الإعلان على مقاربة أحادية للهوية السورية، حيث يركز على الإسلام والعروبة كمرتكزات وحيدة للدولة، دون الاعتراف الحقيقي بالتنوع القومي والديني لسوريا. ويردف: "كما هو معلوم، سوريا بلد متعدد القوميات والطوائف، ويضم العرب والكرد والسريان والآشوريين والتركمان وغيرهم، إضافة إلى تنوع ديني يشمل المسلمين بمذاهبهم المختلفة، والمسيحيين، والإيزيديين، وغيرهم. إنّ فرض هوية واحدة على حساب باقي المكونات يتعارض مع الواقع المجتمعي والتاريخي لسوريا، كما أنّه يشكل تهديدًا للوحدة الوطنية عبر تهميش المكونات غير العربية وغير المسلمة، بدلًا من اعتماد مبدأ المواطنة المتساوية التي تضمن حقوق الجميع دون تمييز على أساس الدين أو القومية. وهذا التوجه الإقصائي يعمّق الانقسامات، ويعزز النزعات التمييزية، بدلًا من العمل على ترسيخ مفهوم الدولة الجامعة لكل مواطنيها".
ويضيف: يناقض الإعلان مبدأ المساواة بين المواطنين عندما يحصر منصب رئيس الدولة في المسلمين، ممّا يستبعد شرائح واسعة من السوريين على أساس ديني، في انتهاك صارخ لحقوق المواطنة. كما أنّ هذا التمييز يتعارض مع النصوص الأخرى في المسودة التي تؤكد على أنّ جميع المواطنين يتمتعون بالحقوق والواجبات نفسها، ممّا يعكس تناقضًا جوهريًا في بنيتها.
ويشير إلى هيمنة السلطة التنفيذية وإلغاء استقلالية المؤسسات، حيث يمنح رئيس الجمهورية صلاحيات مطلقة، رغم أنّه غير منتخب، بل جاء نتيجة توافقات خارجية. كما يمنحه سلطة تعيين مجلس الشعب، ممّا يحوّل المجلس إلى أداة في يده بدلًا من أن يكون مؤسسة مستقلة تمثل إرادة الشعب. والأسوأ من ذلك أنّ المجلس المعيّن من قبل الرئيس يمنحه صلاحيات خطيرة، مثل تعديل القوانين وإبرام الاتفاقيات الدولية، وهو ما يهدد السيادة السورية، إذ يصبح مصير الدولة مرهونًا بإرادة فرد واحد غير خاضع للمحاسبة الشعبية.
ويختتم حديثه مشيرًا إلى تهديد استقلال القضاء، إذ لم يحدد الإعلان بشكل واضح آلية تشكيل مجلس القضاء الأعلى، وهو ما يترك الباب مفتوحًا أمام التدخلات السياسية، ويهدد استقلال القضاء الذي يُعدّ أحد ركائز أيّ نظام ديمقراطي. بالتالي لا يعكس الإعلان روح سوريا الحقيقية، بل يؤسس لنظام إقصائي يهمّش مكونات رئيسية من الشعب السوري، ويفرض وصاية سياسية ودينية على الدولة، بدلًا من ترسيخ دولة المواطنة والديمقراطية. كما أنّه يمنح سلطات غير مقيدة لرئيس غير منتخب، ويلغي فعليّاً مبدأ فصل السلطات، ممّا يشكّل خطرًا على مستقبل سوريا كوطن لجميع أبنائه.