
هشام النجار
تُعد المرحلة الحالية هي الأكثر تعقيدًا وصعوبة بالنسبة لقائد هيئة تحرير الشام أحمد الشرع، لأنها اختبار بشأن مقدرته على التحول إلى لاعب سياسي مدني على الساحة السورية، علاوة على معضلة السلطة في حال قاده طموحه إلى الانفراد بها أو إدارتها من خلف ستار، وهو اختبار سقطت فيه كل فصائل الإسلام السياسي بالمنطقة العربية.
ونجح أحمد الشرع (أبومحمد الجولاني) في إظهار القدرة على التحول والانتقال بدون نزف خسائر كبيرة بين المحطات منفصلًا عن الأجندات الجهادية العابرة للحدود، وبعد أن كان له الإسهام الأكبر في إسقاط النظام السابق بات في بؤرة المشهد، تلاحقه تحديات لم يعهدها في فضاء سوري خال للمرة الأولى من الأسد، ومتحرر من التبعية لإيران.
لكنه مرتهن بالتزامات لواشنطن تتعارض مع هدف إقامة حكم إسلامي، على غرار حكم طالبان، فضلًا عن التزاماته لتركيا التي تحول دون النهوض بتجربة حكم مستقلة تقدم المصلحة الوطنية لسوريا على غيرها.
ويحظى المتشددون ومعتنقو أدبيات تنظيم القاعدة في أفغانستان البعيدة بحرية التنفيس عن جنون العظمة الشائع لديهم، عبر إطلاق تهديدات للغرب وإظهار التضامن مع القضايا الإسلامية ومنها قضية فلسطين، وهو ما يختلف في حالة الإسلاميين الصاعدين في سوريا المتاخمة لفلسطين المحتلة، التي تحتل إسرائيل هضبة الجولان السورية.
ولن يكون الشرع وحلفاؤه من الجهاديين والإسلاميين مطالبين فحسب بالكف عن حديث الزحف إلى القدس وتحرير الأقصى بعد السيطرة على دمشق (وفقًا للأدبيات التي رددها الجولاني نفسه في مرحلة من المراحل) إنما أيضًا مجبورين على التزام الصمت حيال انتهاك إسرائيل للسيادة السورية وقضمها أراض ومواقع مهمة على الحدود، وتفكيك قدرات البلاد العسكرية وتدمير ما تبقى من الجيش.
ويُفاقم عجز أحمد الشرع وتياره الجانح للمحلية في ظل احتياجه لنيل الاعتراف الأميركي بحكمه وحذفه من قوائم الإرهاب حيال الإملاءات والمصالح الغربية والإسرائيلية من أزمته داخل الحالة الجهادية، فهو إن كسب في جولة ونال الإشادة بالإسهام في إسقاط حكم الأسد وطرد الميليشيات الإيرانية تواجهه جولة أعتى مزدوجة من داخل القاعدة ومن داعش تتهمه بالنفاق والردة وضعف العقيدة والخذلان جراء عدم الوفاء بوعود الانتقال من قتال العدو القريب (نظام الأسد) إلى قتال العدو البعيد (إسرائيل) وتقديم التنازلات والاستسلام للمحور الغربي.
وينقسم تنظيم القاعدة فعليًا إلى قسمين، أحدهما تحت رعاية إيران ويخدم إستراتيجيتها العابرة للحدود ويقوده محمد صلاح الدين زيدان (سيف العدل) المقيم بطهران، والثاني الذي يدشن تجارب محلية بعناوين جديدة ويمعن في التودد للغرب والولايات المتحدة، سيكون على موعد مع جولة من الصراع في ظل تطور غير مسبوق قاد جناحًا منه إلى أن يكون على بعد خطوات من حكم سوريا؛ ففي حين يتفاخر أحدهما بتحييد الأسد وإيران، يتهمه الآخر بالعمالة لإسرائيل والولايات المتحدة والتفريط في الثوابت والمقدسات الإسلامية والاصطفاف مع المحور المعادي.
ووفقًا لأدبيات الجهاديين والإخوان في سوريا فإن قتال إسرائيل والزحف نحو القدس مؤجلان لحين (فتح دمشق وإسقاط نظام الردة في سوريا)، ما يعني أن نجاح الفصائل جهاديًا مرهون بمشروع أوسع.
ويتجهز داعش في سوريا لخوض جولة مزايدات وإنهاك وإفشال متطورة في مواجهة صعود أحمد الشرع على غرار تلك التي خاضها تنظيم داعش خراسان ضد طالبان فور هيمنتها على مقاليد السلطة، فهو من جهة يتوق لتحقيق ما حققه الفرع الأفغاني من قوة ونفوذ داخل ساحة تقع تحت هيمنة رفقاء قدامى ما يزيد من شهية مشاركتهم الكعكة، علاوة على أن داعش سوريا ينظر إلى نفسه كونه أصل المشروع وله تجربة حكم سابقة في العراق وسوريا تنبغي استعادتها من الجولاني المتمرد، ناهيك عن الرغبة في الثأر من فصيل ضيق على ناشطي داعش وقتل عددًا من كوادره.
ولن تُسعِف أحمد الشرع براغماتيته وقدرته على التلون وتغيير المظهر والعناوين، فالبيئة الصراعية اتسعت وتشمل الآن كل الجغرافيا السورية ولم تعد محصورة داخل نطاق إدلب، وإذا كان قد عبر مرحلة الحكم الانفصالي المحدود باستبداد أكثر هدوءًا وقتلى أقل من ضحايا داعش، فمن الصعب أن يظل منضبطًا حيال واقع عدواني متحفز في أكثر من اتجاه.
ولم يعد هناك المزيد في جعبة الجولاني البراغماتي ليستخدمه سوى تغيير الزي الكاكي الذي استوحاه من فلاديمير زيلينسكي شريكه في الانتصار الضمني على روسيا في الساحة السورية؛ حيث أن تقديم تنازلات أخرى سيقوي داعش ويُحدِث انقسامات داخل حلفه المتفاوت في درجات التشدد من ذوي الانتماء السلفي الجهادي.
وإذا كان أحمد الشرع استطاع الانفكاك عن داعش والقاعدة، فهل بمقدوره الانفكاك عمن تبقى له من متصالحين مع سياساته ليظهر مكشوفًا دون ظهير في مرحلة يحتاج خلالها لإنهاء مظاهر الفوضى وردع المتمردين وتأسيس نظام سلطوي مهيمن؟
وقبل انطلاق عملية ردع العدوان وخطة إسقاط نظام بشار الأسد بأشهر قليلة ساد اعتقاد بأن هيئة تحرير الشام أكثر عرضة للإسقاط والعزل بسبب تكرار الاحتجاجات ضد حكمها في إدلب على خلفية الفساد والفشل وقمع المعارضين والانقسامات والصراعات الداخلية، ولم يكن الخطر الرئيسي على النظام من جهتها إنما من تنامي داعش ومظاهرات الجنوب.
ويعني ذلك أن تجهيز هيئة تحرير الشام وإعدادها وتوحيد بعض الفصائل تحت قيادتها استغرق فترة وجيزة بعد هجوم طوفان الأقصى الذي أعقبه طوفان إسرائيلي – أميركي أفرغ المنطقة من النفوذ الإيراني وألحق أضرارًا فادحة ببنية أذرع طهران العسكرية والميليشيات الشيعية في سوريا، لكنه ليس بجهد ذاتي ولا بقرار منفرد أو تسليح وتدريب من (عرق جبين الهيئة)، حسب تعبير الشرع.
وحدث التحول عبر داعم إقليمي وهو تركيا التي استبقت خطط إيران لاستبدال الأسد بحليف أقوى بعد وقوفه على الحياد خلال الحرب منذ أكتوبر العام الماضي، واستبقت خطط إسرائيل لاستبداله بآخر أكثر تعاونًا في كبح محور إيران ومنع السلاح عن أذرعه، وفي الحالتين كان هناك خطر محدق على الفصائل.
وباتت هيئة تحرير الشام والفصائل الموالية لها مرتهنة لخدمات حليف إقليمي لم يوقظها من سباتها ويقدها ويوجهها فقط في الوقت المناسب لملء الفراغ قبل الآخرين وصولًا لقصر الحكم في دمشق، إنما أنقذها من مصير مجهول في ظل سوريا بدون الأسد لكن تحت وصاية إيران أو إسرائيل.
ويستدعي ارتهان الشرع وحلفائه لتركيا تجربة حكم الإسلاميين في المنطقة العربية، خاصة في مصر وتونس، حيث أنهم من جهة أكثر براغماتية وتلونًا من الجولاني لدرجة إعلان راشد الغنوشي انسلاخه من الإسلام السياسي برمته معلنًا انتقاله إلى الإسلام الديمقراطي في تونس، وهم أكثر انصياعًا للغرب والولايات المتحدة كما أنهم أكثر تمرسًا في السياسة وتجربة الحكم، والذي أسقطهم هو الإملاءات التركية وتقديم مصالح أنقرة على مختلف المستويات على المصلحة الوطنية.
وإذا كان أحمد الشرع براغماتيًا حقيقيًا وليس هاويا، فإن الإجراء المنتظر من رجل نفعي حقيقي في مثل موقفه الآن هو أن يكتفي بما حققه ولا يطمح في أن يكون رجل المرحلة ولا يغامر بشكل مباشر أو غير مباشر في خوض تجربة السلطة التي ثبت أن الإسلاميين فاشلون فيها بامتياز، وإذا كان الأسد رهن البلاد لإيران وروسيا فقد يرهنها الشرع للولايات المتحدة وتركيا.
وليترك الرجل الدولة الجديدة تتشكل وفقًا لهوية سوريا ومصالحها وطبيعة تكوينها الثقافي والحضاري والتعددي، وليترك المشهد السياسي ومشهد السلطة يتشكل من قبل تكنوقراط متمرسين، وليجد لنفسه في مستقبلها دورًا يجيده ويبرع فيه، فليس كل معارض جيد حاكمًا جيدًا بالضرورة والثائر لا يصلح غالبًا للحكم، وقيادة الدولة تختلف تمامًا عن قيادة التنظيم والميليشيا.
وأمام رئيس هيئة تحرير الشام خياران، إما مصير الإخوان في مصر، أو تونس بعد سنة أو عشر سنوات مساقًا إلى المحاسبة والمحاكمة، أو العيش مع أولاده وأحفاده على ذكرى كونه البطل الذي أزاح نظامًا مستبدًا، أما استنساخ تجربة طالبان أفغانستان فوهم آخر للاختلاف الكبير بين البلدين.
العرب