هل يوجد إخواني تائب؟

هل يوجد إخواني تائب؟

هل يوجد إخواني تائب؟


18/03/2025

شهدت جماعة الإخوان عبر تاريخها الممتد الكثير من حالات الانشقاق والخروج منها، نماذج كثيرة ولأسباب مختلفة قررت أن تترك الجماعة بعد أعوام من الانتماء، وقد ازدادت تلك الحالات بعد الربيع العربي بشكل كبير، لكنّ هناك سؤالاً مغلفاً بغلاف من الشك كثيراً ما يطرحه المختلفون مع الجماعة فكرياً وسياسياً؛ وهو: هل يمكن حقاً أن يتخلى الإخواني عن أفكاره؟ هل يمكن أن يتوب الإخواني توبة صادقة، أم أنّ هذا أمر يدخل في دائرة المستحيل؟

يثير هذا الموضوع عدداً من الأسئلة:

- هل مصطلح "التوبة" دقيق، أم أنّه يعكس خطأ في التصور؟

- لماذا توجد حالة عدم ثقة فيمن يخرج من الجماعة؟

- هل من الممكن أن يتخلى الإخواني عن أفكاره؟

- ما العوامل التي من الممكن أن تؤثر على درجة تغيير ذلك الفرد؟

مع ملاحظة أنّ الحديث هنا ليس عن إمكانية قيام جماعة الإخوان أو الأفراد الذين ما يزالون ينتمون إليها بإجراء مراجعات، ولكنّ الحديث عن نموذج الفرد الذي أعلن عن تركه للجماعة بالفعل.

التوبة... أزمة المصطلح

مفهوم التوبة غير دقيق هنا، ويعكس خطأ في تصور الحالة، فالتوبة تشير إلى توقف الفرد عن فعل سلوك معين يعلم وهو يفعله أنّه غير أخلاقي أو غير قانوني أو مخالف لنصوص أو تعاليم دينية، ثم يندم على ذلك الفعل وينوي عدم العودة إليه، بينما في حالة الانتماء إلى جماعة دينية بشكل عام، وجماعة الإخوان بشكل خاص، لا يكون الأمر بهذه الدرجة من البساطة والسطحية، فالفرد ينتمي إلى الإخوان من البداية بشكل تدريجي، ويكون الارتباط بها أساسه العاطفة الدينية وليس الفكر، حيث لا تكون أفكار الجماعة ومشاريعها واضحة بشكل كبير في الأعوام الأولى، خاصة مع الأجيال التي دخلت الجماعة قبل ثورة كانون الثاني (يناير)، وتقوم الجماعة بعملية إعادة صياغة لشخصية الفرد، من خلال عزله أوّلاً بشكل كبير عن المجتمع الذي يعيش فيه، وتوفر له أصدقاء جدداً ومجتمعاً بديلاً، وتحثه على عدم الاطلاع على أفكار أخرى غير أفكار الجماعة التي ترسخ بداخله أنّها تعبّر عن الإسلام الصحيح، ثم تستخدم مناهج تربوية وأساليب معينة تعمل من خلالها على صياغة شخصية الفرد وترسيخ تلك الأفكار والقناعات بداخله، والتي تحدد سلوكه وتصوراته ورؤيته للعالم، فالجماعة تقوم بتشكيل ما يُطلق عليه في علم الاجتماع "الهابيتوس"، وهو مفهوم يُعبّر عن مجموعة من البنى الذهنية أو المعرفية التي تترسخ داخل الفرد نتيجة العيش في ظروف اجتماعية متشابهة سواء في طبقة اجتماعية أو مجموعة أو جماعة، فكل من ينتمي إلى تلك الطبقة أو الجماعة يتكون لديهم "هابيتوس" متجانس ينتج عنه ممارسات وأفكار وتصورات متشابهة تمثل بالنسبة إلى الفرد حقائق ومسلمات لا تقبل الشك، بل ينتج عنه كذلك تشابه في حركات الجسد مثل طريقة الكلام والأكل والابتسامة، وتشابه في ذائقة الأفراد التي تحدد تفضيلات معينة في المأكل والملبس والفن وعادات الاستهلاك... إلخ.

النتيجة التي نخلص إليها هنا هي أنّ الفرد الذي ينتمي للجماعة يكون مؤمناً بأفكارها وبصواب ما يفعل، ولا يكون لديه أدنى شك في ذلك، ومن ثم لا يقرر الخروج من الجماعة إلا في حالة حدوث سبب تتحول معه نظرته إلى الجماعة وتغرس بذور الشك بداخله تجاهها، لذلك لا يُعدّ مفهوم التوبة هنا دقيقاً أو معبّراً عن الحالة بشكل سليم.

الخروج من جماعة الإخوان... أزمة الثقة

لا شك أنّ هناك حالة من عدم الثقة موجودة بقوة في المجتمع تجاه كل من يعلن عن خروجه من جماعة الإخوان، وهذه الحالة ليست عند خصوم الجماعة أو معارضيها فقط، لكنّها موجودة عند الجماعة نفسها والتيار الإسلامي بشكل عام، حيث يشككون في أيّ شخص يعلن خروجه من الجماعة ويوجهون إليه العديد من الاتهامات، وهذا يعود إلى عدد من الأسباب، منها:

1- طبيعة جماعة الإخوان المراوغة التي تجعل هناك تناقضاً بين العديد من مواقفها وآرائها، حيث كثيراً ما تتخذ مواقف لا تعبّر عن حقيقة أفكارها، ولكن فقط لاعتبارات براغماتية، وكثيراً ما تبدي آراء أو تتخذ مواقف في العلن تخالف آراء ومواقف لها في الخفاء، ودائماً تحركها مصالحها في اتخاذ المواقف المختلفة أكثر ممّا تحركها المبادئ والقيم؛ وهذا خلق حالة من عدم الثقة تجاهها لدى الكثيرين، وأدى في كثير من الأحيان إلى عدم تصديق من يعلن خروجه من الجماعة، كما نتجت حالة عدم الثقة بسبب العديد من النماذج التي تركت الجماعة وأعلنت انشقاقها، ثم في ظروف معينة اتخذت مواقف متوافقة مع مواقف الجماعة أو وقفت معها في المربع نفسه الذي تقف فيه تجاه قضايا معينة، كما حدث مثلاً عندما اتخذ عدد من المنشقين موقف الجماعة نفسه بعد سقوطها من الحكم، وشاركوا في اعتصام رابعة، وتواجدوا في قنواتها الإعلامية التي تبث من الخارج.

2- إدراك الكثيرين لطبيعة الفرد المنتمي إلى جماعة الإخوان، وكيف يتم ترسيخ ثقافة السمع والطاعة بداخله، وثقته المطلقة في قيادات الجماعة التي تجعل منه إنساناً مفتقداً للإرادة والقدرة على التفكير، ممّا يجعل الكثيرين لا يثقون في إمكانية حدوث تغير هذه السمات، وفي تحول الفرد وامتلاكه القدرة على التفكير والفعل.

3- وجود نمط تفكير سائد في المجتمع يجعل الاهتمام بالأفكار في مرتبة متدنية مقارنة بالجوانب المادية، وهو ما يجعل الكثيرين غير مقتنعين بأنّه من الممكن أن يغير الفرد، بشكل عام، أفكاره أو أن يغير مساره بناءً على أسباب فكرية، ولكن يرون أنّ أيّ انتماء أو مسار يتخذه الفرد في حياته لا بدّ أن يكون وراءه دافع من مصلحة أو منفعة مادية، ويستبعدون غالباً وجود فكرة، ولو خاطئة، وراء هذه الانتماء أو المسار، كما لا يستطيعون التفرقة بين الأفكار التي من المفترض أنّها تتغير وتتطور باستمرار بتغير الظروف والمعطيات، وبين المبادئ التي من المفترض أنّها ثابتة؛ ولهذين السببين لا يقتنعون ولا يتقبلون أن يغير شخص أفكاره ومن ثم مواقفه، وينظرون إليه نظرة يغالبها الشك، ويقف خلفها كثير من الظنون والاتهامات.

هل يمكن لإخواني أن يتخلى عن أفكاره؟

على الرغم من قوة ارتباط الفرد بالجماعة، كما أوضحنا، والذي يجعل الخروج منها ومن دائرة تأثيرها والتخلص من القناعات والأفكار الراسخة بداخله أمراً صعباً؛ إلا أنّه في الوقت نفسه ليس بالأمر المستحيل، فـ "الهابيتوس" الذي يتشكّل داخل الفرد من خلال الجماعة من الممكن أن يحدث فيه تغييراً حال حدوث سبب قوي تتعرض معه تلك القناعات لحالة من الشك والاهتزاز، ويكون بمثابة نقطة تحول للفرد يجعله يبتعد عن الجماعة وتأثيرها والعيش في ظروف اجتماعية مختلفة يترتب عليها تغير في "الهابيتوس" بشكل متدرج، وهذا السبب قد يكون تنظيمياً نتيجة الاختلاف حول ممارسات الجماعة المختلفة سواء الإدارية أو السياسية أو الدعوية، وقد يكون السبب شخصياً نتيجة الخلاف حول أمور شخصية مع أفراد الجماعة سواء القيادات أو القواعد، وقد يكون السبب فكرياً نتيجة اكتشاف خطأ في فكرة أو أكثر من الأفكار الرئيسية التي تقوم عليها الجماعة.

وفي هذا السياق ينبغي أن نطرح بعض الأسئلة التي من خلالها يمكن إضاءة جوانب مهمة تساهم في فهم الموضوع؛ أوّلاً ما هو مفهوم التغيير، وما صورة التغيير أو النموذج المراد الوصول إليه؟ ثانياً هل كل النماذج التي خرجت من الجماعة يمكن الحكم عليها وتقييمها وفق معيار واحد، أم أنّ كل نموذج منهم له تجربته الخاصة؟ وهل ثمّة عوامل تؤثر على عملية التغيير هذه؟

الخروج من الجماعة، كما أوضحنا، له أسباب مختلفة، وتمثل لحظة الخروج نقطة البداية في ابتعاد الفرد، بقدر ما تختلف من فرد إلى آخر، عن دائرة تأثير الجماعة وعن عملية التشكيل التي تتم طالما بقي الفرد داخلها، لكنّ أسباب الخروج من الجماعة تؤثر على عملية التغيير؛ فالذي خرج لأسباب تنظيمية أو شخصية يكون قد ابتعد عن دائرة التأثير مستقبلاً، لكنّ تأثير الجماعة يظل قائماً من خلال الأفكار والقناعات التي ترسخت لدى الفرد وشكلت شخصيته من خلال التربية، وبذلك يظل الانتماء الفكري والنفسي للجماعة قائماً رغم الانفصال التنظيمي، لكنّ هذه ليست نتيجة نهائية؛ فمن الممكن أن يتحول الانفصال التنظيمي إلى انفصال فكري فيما بعد، ويتوقف ذلك على مقدار الجهد الذي يبذله الفرد في تحصيل المعرفة وتطوير ذاته ومعالجة ما بها من عيوب نتيجة الأفكار التي ترسخت بداخله، لكن بشرط أن يتكون لديه إدراك في البداية بأنّ ثمة خطأ يحتاج إلى معالجة، وأنّ ثمة شيئاً يحتاج إلى تغيير، فهناك من يظل متوقفاً عند حدود نقد بعض الممارسات والسلوكيات في الجماعة دون أن يتطرق إلى الأفكار الرئيسية والمشروع الخاص بها، ولذلك نجد بعض النماذج رغم خروجها إلا أنّها تظل مرتبطة بالجماعة فكرياً ونفسياً، ومن الممكن أن تتقاطع بشكل كبير مواقفها وآراؤها مع الجماعة، وربما تعود إليها فيما بعد بشكل أو بآخر، وهناك من يتطرق مع الوقت إلى أفكار الجماعة الرئيسية ويتحول الانفصال التنظيمي إلى انفصال فكري، وينتج عن ذلك ابتعاد كبير عن مواقف الجماعة وآرائها، وبين هذين النموذجين درجات كثيرة متفاوتة.

بينما الفرد الذي خرج لأسباب فكرية من البداية يكون قد خرج من الانتماء التنظيمي بالتبعية، وتكون فرصة التغيير لديه والخروج بشكل كبير من دائرة تأثير الجماعة وتجاوز أفكارها أكبر، لكن أيضاً تتوقف درجة التغيير التي يصل إليها على مقدار الجهد الذي يبذله في ذلك، وفي كل الأحوال لا يوجد نموذج واحد للتغيير يمكن الحكم من خلاله على مدى تغير الفرد من عدمه، فالأمر ليس بمثابة الانتقال من مربع فكري إلى مربع فكري آخر، ولكنّ مجال الأفكار به الكثير من المساحات والخطوط المتباينة التي يقف فيها الأفراد، وبالتالي التغيير له درجات عديدة، والخروج التنظيمي من الجماعة هو فقط نقطة البداية، بينما تغيّر الأفكار أمر صعب ويحتاج للكثير من الجهد والوقت، لذلك النتيجة النهائية تختلف من فرد إلى آخر، حيث إنّ تطور الأفكار عملية مستمرة لا تتوقف وليس لها أفق معين، طالما ظل الفرد يفكر ويقرأ ويتفاعل مع الواقع ومتغيراته.

وهناك عدد من العوامل الأخرى التي تؤثر على عملية التغيير ومآلاتها؛ منها طبيعة تجربة الفرد داخل الجماعة والأنشطة التي عمل بها، وعلاقاته داخل التنظيم، وسماته الشخصية كمستواه التعليمي والثقافي وعمله والطبقة التي ينتمي إليها، والطريقة التي خرج بها من الجماعة، وهل كانت بعد صدام أم كانت هادئة، أيضاً الضغط الاجتماعي الذي يتعرض له الفرد بعد خروجه من التنظيم والعديد من الاتهامات التي توجه إليه يؤثر على شكل ودرجة التغيير.  

خاتمة

الخروج من جماعة الإخوان ليس مجرد إعلان بالانفصال عنها سواء تنظيمياً أو فكرياً، فارتباط الفرد بالجماعة ارتباط قوي وعميق وشامل، ورغم ذلك لا يُعدّ التحول الفكري والخروج الحقيقي من الجماعة مستحيلاً؛ لكنّه مرهون بعوامل مختلفة، أهمها إدراك الفرد بداية لوجود مشكلة ولطبيعتها، وبعد ذلك لمقدار الجهد الذي يبذله في تطوير ذاته ومعالجة عيوبها الناتجة عن عملية الصياغة والتشكيل التي تمّت لشخصيته داخل الجماعة، والتغيير الحقيقي الذي يمكن أن يصل إليه هو امتلاكه للإرادة وللقدرة على التفكير المستقل، والتخلص من التبعية، والخروج بشكل نهائي من القطيع، أيّ قطيع.  



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية