
منذ الثامن من آذار (مارس) الجاري بدأ الروس مرحلة جديدة من هجومهم المضاد لاستعادة السيطرة على منطقة كورسك، وفي الأيام التي سبقت العملية، استعادت القوات الروسية قريتي سفيردليكوفو وليبيديفكا على الجانب الغربي، ونجحت في العبور إلى منطقة سومي الأوكرانية. كما حشد الروس ما لا يقلّ عن (50) ألف جندي، أي (4) أضعاف أعداد الجنود الأوكرانيين في كورسك.
وما يزال من غير الواضح الأثر الذي لعبه قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالحد من تبادل المعلومات الاستخباراتية مع أوكرانيا في 5 آذار (مارس) الجاري. ويصر بعض ضباط المخابرات الأوكرانية على أنّهم فوجئوا بذلك، وبحسب (الإيكونوميست) قال أحدهم: "الأمريكيون يكذبون إذا قالوا إنّ لدينا كل ما نحتاجه للدفاع عن أنفسنا".
عملية كبيرة لم تؤتِ ثمارها
كان الهجوم المضاد الذي شنّه الجيش الأوكراني داخل الأراضي الروسية، في آب (أغسطس) الفائت، وسيطرته على ما يُقدر بـ (1300) كيلومتر مربع (500) ميل مربع من الأراضي الروسية في كورسك، دفعة معنوية هائلة كانت أوكرانيا في أمسّ الحاجة إليها، وكان الهدف من غزو كورسك هو الضغط على القوات الروسية داخل أوكرانيا، وكان من المفترض أن تساعد الأراضي التي استولت عليها أوكرانيا على استعادة ما لا يقل عن 20% من أراضيها، التي استولت عليها روسيا منذ غزوها الشامل في شباط (فبراير) 2022. كما ساد اعتقاد بأنّ الاستيلاء على الأراضي الروسية في كورسك، سوف يُسهم في الضغط على بوتن، في أيّ مفاوضات سلام مستقبلية.
وبحسب صحيفة (نيويورك تايمز) الأمريكية، فإنّ الأهداف الرئيسية لعملية كورسك، كانت تحويل القوات الروسية عن القتال في منطقة دونباس الشرقية في أوكرانيا، ودفع المدفعية الروسية خارج مدى منطقة سومي، وإلحاق الضرر بالمعنويات الروسية.
وفي غضون أسابيع من التوغل فرضت أوكرانيا سيطرتها على جزء كبير من كورسك، وقال مسؤولوها إنّه يشمل ما يقرب من (500) ميل مربع من الأراضي الزراعية والمستوطنات.
ويمكن القول إنّ كييف كانت تهدف إلى حماية منطقة سومي ووقف قصف المدينة، عن طريق إنشاء منطقة عازلة، ثمّ الضغط لتحويل مسار القوات الروسية عن هجومها الصيفي في جنوب ووسط دونباس.
وعلى عكس المتوقع، وبدلاً من تحويل أعداد كبيرة من القوات الروسية للدفاع عن كورسك، ركز بوتن على شرق أوكرانيا بشكل رئيسي. خاصّة أنّه بعد أسابيع من توغلها في كورسك، تباطأت وتيرة الهجمات الأوكرانية، وبدأت قواتها تفقد الأرض تدريجياً مع انتشار القوات الروسية هناك بأعداد أكبر.
في ذلك الوقت كانت روسيا تمتلك احتياطيات كافية في مختلف القطاعات، الأمر الذي مكنها من إعادة نشر لواء المشاة البحرية (155)، من جبهة دونيتسك إلى منطقة كورسك. وكان هذا اللواء قد شارك سابقًا في قتال قرب فوهليدار، لكنّ إعادة انتشاره كانت قد بدأت بالفعل قبل هجوم أوكرانيا في منطقة كورسك.
على أيّ حال، سيطرت القوات الروسية على فوهلدار دون مشاركة اللواء (155)، ونجحت موسكو في تشكيل وحدات قتالية جديدة، وأُعيد نشر معظم القوات في خاركيف وفوفشانسك، بينما تمّ الدفع بقوات أخرى من مواقع على طول نهر دنيبرو، في منطقة خيرسون. بالإضافة إلى ذلك سُحبت فرقة الحرس الجوي (106) من شمال باخموت، كما نُقلت فرقة الهجوم الجوي الروسية (76) التابعة للحرس من منطقة خيرسون الأوكرانية إلى الحدود، إلا أنّ وحداتها لم تشارك في الهجوم على سودزا.
في المقابل، حشدت أوكرانيا قوة قوامها نحو (15) لواءً، تضمّ بعضًا من أكثر وحداتها جاهزيةً للقتال. والجدير بالذكر أنّ اللواء الميكانيكي السابع والأربعين الأوكراني، المجهز بدبابات أبرامز ومركبات برادلي القتالية، نُقل إلى سودزا من خط المواجهة جنوب بوكروفسك في وسط دونباس.
نتيجةً لذلك، أمسكت روسيا بزمام المبادرة، في ظل احتفاظها باحتياطات كبيرة، وتمتعها بالمرونة اللازمة، ومع توسيع خط المواجهة النشط، ارتبكت القوات الأوكرانية التي تواجه نقصًا في القوى البشرية ونقصًا في الوحدات الجاهزة للقتال.
كانت روسيا قد تلقت دعمًا من حليفتها كوريا الشمالية، التي نشرت نحو (11) ألف جندي في كورسك لمساعدة موسكو في الدفاع عنها، ممّا أثار قلق أوكرانيا وحلفائها في البداية، لكنّ القوات الكورية الشمالية تكبدت خسائر فادحة متتالية، وانسحبت لفترة من الوقت من خط المواجهة.
ويعتقد بعض القادة العسكريين الأوكرانيين أنّ هذا التوغل الجريء في الأراضي الروسية كان ضروريًا لمنع المزيد من التقدم الروسي على طول شمال شرق البلاد. وأنّه من خلال إضعاف القوات الروسية وإعادة توجيهها مكّن هذا التوغل أوكرانيا من صد الروس في الشرق لأول مرة منذ العام 2022.
والآن، بعد أشهر من الضغط المكثف من جانب القوات الروسية المدعومة بقوات من كوريا الشمالية، تراجعت القوات الأوكرانية بعد هزائم متتالية، آخرها كانت سريعة ودموية في مدينة سودزا. وبينما تستمر المعارك في محيط المدينة، حاول بعض الجنود الأوكرانيين شق طريقهم للخروج إلى منطقة سومي المجاورة في أوكرانيا. وبحلول يوم الأحد الفائت، كانت أوكرانيا تسيطر فقط على شريط ضيق من الأرض على طول الحدود الروسية الأوكرانية، يغطي بالكاد (30) ميلًا مربعًا، وفقًا لباسي باروينن، المحلل العسكري في مجموعة "بلاك بيرد" الفنلندية.
انسحاب عشوائي وهجمات انتقامية
صعّد الجيش الروسي من عملياته العسكرية، بالتزامن مع قيام الرئيس ترامب بتجميد المساعدات العسكرية والدعم الاستخباراتي لأوكرانيا في 3 آذار (مارس) الجاري. وعلى الرغم من استئناف تدفق المساعدات الأسبوع الماضي، بعد موافقة أوكرانيا على اقتراح البيت الأبيض بوقف إطلاق النار لمدة (30) يومًا، يخشى الجنود والقادة الأوكرانيون من أنّ التفوق الجوي الروسي قد يمكن موسكو من تدمير الطرق اللوجستية الحيوية اللازمة لدعم الجنود الذين ما زالوا في كورسك.
وبحسب (أسوشيتد برس)، حاول الجيش الأوكراني الخميس الفائت بناء خطوط دفاعية بالقرب من الحدود؛ لمنع روسيا من تحويل هجومها على سودزا إلى رأس حربة للتقدم إلى شمال شرق أوكرانيا.
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتن قد أعلن يوم الخميس الفائت عن موافقته المبدئية على المقترح الأمريكي لوقف إطلاق النار لمدة (30) يومًا في أوكرانيا، وذلك بعد ساعات قليلة من وصول مبعوث الرئيس دونالد ترامب إلى موسكو.
بدوره، اتهم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، السبت الفائت، الرئيس فلاديمير بوتن بمحاولة تطويق قواته في منطقة كورسك؛ لتحسين موقف روسيا في محادثات وقف إطلاق النار، لكنّه زعم أنّ القوات الأوكرانية ليست محاصرة.
وعلى الرغم من تصريحات زيلينسكي، تتواصل عمليات الفرار العشوائي في صفوف الجيش الأوكراني، حيث يضطر الجنود الأوكرانيون إلى السير عشرات الكيلومترات؛ للعودة إلى أوكرانيا، متجنبين القوات الروسية. ويشعر بعض الجنود بالغضب لأنّ قادتهم لم يأمروهم بالانسحاب قبل أسابيع، حين كان ذلك أكثر أمانًا. ويقول خبراء عسكريون إنّ هجوم كورسك، الذي يبدو أنّ هدفه السياسي فشل في نهاية المطاف، كلّف أوكرانيا أفضل وحداتها وأسلحتها الأكثر قيمة.
وقال قائد أوكراني لوكالة (أسوشيتد برس)، طلب عدم الكشف عن هويته: "أفهم أنّ الجانب الروسي يماطل مفاوضات وقف إطلاق النار حتى يستعيد كورسك، وعندها فقط سيتفاوضون". وأضاف: "لكننا لن نملك أيّ قدرة على استعادة أيّ جزء من أراضينا".
ويبدو أنّ قدرة الجيش الأوكراني على السيطرة على ما تبقى من كورسك تراجعت منذ دخول جنود كوريا الشمالية المعركة أواخر العام الماضي. حيث اكتسبت قوات بيونغ يانغ خبرة وفعاليةً بمرور الوقت، كما أعاق النقص في القوى العاملة والأسلحة والذخيرة عمل الجنود الأوكرانيين.
الأيام الأخيرة في كورسك
على مدار الأشهر الثلاثة الماضية أنهك الروس الأوكرانيين تدريجياً. وتحت وطأة القصف الجوي الروسي المكثف اضطرت القوات الأوكرانية في كثير من الأحيان إلى حمل تعزيزات من الذخيرة والمواد الغذائية والإمدادات الطبية على ظهورها لمسافة تتراوح بين (20 و30) كيلومترًا (12 إلى 18) ميلًا.
في المقابل، استولت القوات الروسية على ما يُقدّر بـ (166) كيلومترًا مربعًا (64) ميلًا مربعًا في كورسك بين 7 و10 آذار (مارس) الجاري. وفي الأسبوع الماضي أيضاً شنت مئات من القوات الخاصة الروسية هجومًا مفاجئًا من خلف خطوط الدفاع الأوكرانية، بعد أن زحفت لمسافة (15) كيلومترًا عبر خط أنابيب للغاز الطبيعي.
كل هذا الضغط العسكري دفع الجنود الأوكرانيين الذين كانوا متمركزين إلى الشمال الغربي من سودزا، في ليبيديفكا، إلى التخلي عن مواقعهم والانسحاب دون أوامر من القيادة العسكرية.
وبحسب (أسوشيتد برس)، قال ضابط أوكراني إنّه مع عدد من زملائه تحدوا أوامر قائدهم، واتخذوا قراراً بالانسحاب. مضيفًا: "لقد سئمنا من البقاء تحت نيران العدو طوال الوقت". وأكد أنّ جميع الطرق الرئيسية تخضع لمراقبة طائرات روسية مسيّرة، ولذلك ينسحب الجنود في مجموعات صغيرة على طول خطوط الأشجار لتجنب اكتشافهم.
وتابع: "لا أعرف كيف ستتمكن القيادة من إخراج جميع الوحدات المتبقية هناك، لأنّ جميع سلاسل الإمداد تعطلت، بينما القوات الروسية تقترب من طرق هروب الجنود الأوكرانيين من شمال وجنوب سودزا.
وأصبح الروس الآن على مقربة من طريق الإمداد الرئيسي للجيش الأوكراني، طريق سودزا/ سومي، مع قطع خط إمداد آخر يمتد شمالًا عبر سفيردليكوفو.
يُذكر أنّه في اليوم الأول من الهجوم الروسي شنّت وحدات روسية هجومًا شمال سودزا، لتعزل بذلك الجزء الشمالي بأكمله من رأس الجسر عن المدينة. وهناك، بين طريقي سودزا-كورسك وسودجا-لغوف، انطلقت وحدات روسية متقدمة لتطوق المنطقة. وفي اليوم التالي استعادت القوات الروسية معقلًا آخر في كازاتشيا لوكنيا، وتكبدت القوات الأوكرانية خسائر فادحة خلال انسحابها المتسرع من الجزء الشمالي من رأس الجسر.
في الوقت نفسه، شنّت القوات الروسية هجومًا على الأحياء الشرقية لمدينة سودزا. ولم تتمكن القوات الأوكرانية من الدفاع عن نفسها هناك، إذ دمّرت الغارات الجوية الروسية كل الجسور فوق نهر سودزا، والتي تقسم المدينة إلى نصفين غربي وشرقي.
وفي نهاية المطاف، دخلت القوات الروسية وسط مدينة سودزا دون مقاومة تُذكر، ولم يكن هناك أيّ قتال مباشر تقريبّا، حيث انسحبت الوحدات الأوكرانية نحو الحدود. وتتقدم القوات الروسية الآن نحو معبر سودزا الحدودي، وجنوبًا بالقرب من قرية غيفو في منطقة كورسك. ومن المرجح سقوط المواقع الأوكرانية المتبقية في هذه المنطقة خلال الأيام المقبلة، ممّا سينقل القتال إلى منطقة سومي الأوكرانية. وقد تمركزت القوات الروسية هناك بالفعل، وتقوم بعمليات اقتحام لقرية باسيفكا، غرب طريق سودزا-سومي.