ليس من قبيل المبالغة القول إن ألكسندر دوغين، الذي قتلت ابنته داريا في انفجار سيارتها ليل أمس والذي غالباً ما يطلق عليه الإعلام العربي لقب"راسبوتين بوتين" أو "عقل بوتين"، هو المؤلف الفعلي لاستراتيجية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأوكرانية. فمع أنه لا يشغل منصباً رسمياً في الحكومة، وإنما كان أكاديمياً ورئيس تحرير سابق في Tsargrad TV ، وهي شبكة معروفة بدعمها القوي لكل من بوتين والكنيسة الأرثوذكسية الروسية، كان دائماً حريصاً على خصوصيات علاقته ببوتين.
لطالما تبنى الكرملين لغته وخطابه. وكمثال صغير واحد فقط، فإن استخداماته لمصطلح "نوفوروسيا" (روسيا الجديدة) في عامي 2013 و 2014 لأراضي شرق أوكرانيا التي كانت روسيا تطالب بها، قد انعكست بعد فترة وجيزة في لغة الدعاية لبوتين التي تدعم احتلال شبه جزيرة القرم.
وبالنسبة لأي شخص قرأ دوجين، كانت أصداء أفكاره واضحة في خطابات الرئيس الروسي الأخيرة حول المكان المناسب المفترض لروسيا في العالم.
ولد دوغين عام 1962 لعائلة سوفياتية رفيعة المستوى (كان والده ضابطًا في المخابرات العسكرية)، وقد برز على الصعيد الوطني في التسعينيات ككاتب في صحيفة "دن" اليمينية المتطرفة. ونشر في مانيفستو عام 1991 تحت عنوان"حرب القارات العظمى"، رؤيته لروسيا باعتبارها "روما الأبدية" في مواجهة الغرب المادي الفردي: "قرطاج الأبدية".
وفي أوائل التسعينات، شارك في تأسيس الحزب البلشفي الوطني مع الروائي المثير للجدل في المواد الإباحية إدوارد ليمونوف، حيث مزج الخطاب الفاشي والحنين إلى الشيوعية مع سياسة رجعية حقيقية. كان علم الحزب عبارة عن مطرقة ومنجل أسود في دائرة بيضاء على خلفية حمراء، في انعكاس شيوعي للصليب المعقوف النازي.
وذاع صيت الفيلسوف الروسي مع كتابه لعام 1997 بعنوان "أسس الجغرافيا السياسية: المستقبل الجيوسياسي لروسيا" ، والذي حظي بشعبية كبيرة واعتبر دليلاً للتعامل مع العرب من خلال استخدام المعلومات المضللة والقوة الناعمة "لإثارة جميع أشكال عدم الاستقرار والانفصالية" داخل الولايات المتحدة ، بما في ذلك عن طريق تأجيج التوترات العرقية والسياسية ، مع تعزيز القومية و الاستبداد في المنزل.
"الجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة"
ويشكل كتابه الأخير "الجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة "، مختصرا شاملأ لرؤية الدولة الروسية، وتحديداً رؤية الرئيس بوتين، إلى ما يسمى "عصرالامبراطوريات الجديدة"، ويرسم الخطوط العامة للجغرافيا السياسية في القرن الحادي والعشرين من وجهة نظر الإيديولوجيا الروسية الراهنة. وقد صدر الكتاب حديثا في ترجمة عربية أنجزها الكاتب ابرهيم استانبولي، عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
يُسمى المفكر الروسي ألكسندر دوغين في أوروبا راسبوتين، أولاً لشبهه بالاسم الأول، وثانياً لارتباطه الحالي بسياسة بوتين، لكونه أحد المستشارين الرئيسين له، ومشجعه الأكبر في حربه على أوكرانيا. ويضمم كتابه هذا معظم الأفكار "المجنونة" التي اقترحها وتبناها دوغين، وتفرد بها.
أول ما يركز عليه دوغين، هو درس الواقع والخروج منه بخلاصات مفيدة للمستقبل، ومنها جعل الجغرافيا السياسية المقاربة الوحيدة والأكثر فاعلية للنظر بعمق إلى خصوصيات المشهد الطبيعي مقابل المقاربة التاريخية المستندة إلى أفعال قامت بها شخصيات مرموقة، مثل المعارك، والحروب، والمصالحات، والمعاهدات، في تاريخ الشعوب. وفي تفصيله الكلام على هذه المقاربة يشير إلى أن تاريخ البشرية، شهد ثلاثة نماذج من الأنظمة المجتمعية، وهي: المجتمع التقليدي ما قبل الحداثي، تلاه المجتمع الحديث ، ومن ثم مجتمع ما بعد الحداثة في الغرب والذي تجتمع فيه الطبقات الثلاث، أو نماذج المجتمع الثلاثة. وهذا ما تمكن معاينته في ضواحي المدن الغربية، من إقامة جماعات مهاجرة من المغرب العربي، إلى جانب مهاجرين من أميركا اللاتينية وأوروبا الوسطى، من كاثوليك وأرثوذكس، وغيرهم. وتمكن معاينة مظاهر من الثنائية الجيوسياسية (البحر/ البر) ماثلة لدى الشعوب ذات الإطار الحضاري البحري مثل أميركا، أوروبا الغربية، وشعوب ذات إطار غالب هو البر مثل الاتحاد السوفياتي سابقاً، وروسيا، وآسيا، تخضع ضمنه لقيم وديانات عصية على التحول أو الزوال، كما يقول، بخلاف ما هو عليه الغرب.
غورباتشبف ويلتسين
يوجه دوغين انتقاداً شديد اللهجة لكل من غورباتشيف ويلتسين لأنهما لم يدركا طبيعة الخلاف، بل الانقسام الجوهري بين مجتمعين وعالمين، الشرق السوفياتي في حينه، والأوراسي، والغرب الأميركي والأوروبي الغربي، عندما طلبا العون من هذا الغرب، في أواخر الثمانينيات، من أجل تحديث الاتحاد السوفياتي ذي الحضارة البرية، كما يعبر، وتجاوزه صراعات الماضي وذيول الحرب الباردة. لكن فشلهما الذريع في تحديث الاتحاد السوفياتي، وسقوط الأخير سقوطاً مدوياً، كانا له الدليل القاطع على أن الجغرافيا السياسية التي أنكرها الأخيران، كانت العامل الحاسم في استدامة العدائية الغربية والأميركية على روسيا الاتحادية، بعد زوال الاعتبار الأيديولوجي الذي تذرع به الغرب طوال أكثر من خمسة عقود لخوض ما سمي الحرب الباردة.
يتخذ دوغين بالاعتبار، مفهوم الجغرافيا السياسية نوعاً من المسلمة العلمية التي توجب على المحللين والمفكرين السياسيين والاقتصاديين وكذلك منطلقاً للقفز من فوق التاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتجاوز كل الاعتبارات الفكرية والإنسانية التي خلصت إليها البشرية بعد الثورة الفكرية التي حصلت في الغرب، منذ أواخر القرن الثامن عشر (1789)، وبعد عصر الأنوار الممتد من أواخر السادس عشر حتى نهاية السابع عشر.
الأوراسية
وفي دفاعه عن مفهوم الأوراسية، يمضي دوغين إلى اعتبارها شبكة بديلة سياسياً وثقافياً واقتصادياً، يحسن بالاتحاد الروسي، أو بالإمبراطورية الروسية الأخذ بها، وبناء كل المؤسسات الثقافية والإعلامية الكفيلة باندماج بلدان الاتحاد وشعوبها، اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، في زمن ما بعد الحداثة العتيد. وفي السياق عينه، لا يخفي رغبته في جعل الدين ركناً ثابتاً من أركان الأوراسية، على أن تكون الأرثوذكسية في المقام الأول منها، تتبعها الديانة الإسلامية والبوذية، وغيرهما، مما يتشكل منه إيمان هذه الشعوب غير المنقضي بحلول العولمة ما بعد الحداثية، ثم إن التحالف الأوراسي، السالف وصفه، سوف يكون، بنظر دوغين، كفيلاً وحده بأن يحمي هذه البلدان من سطوة أميركا، على حد ظنه.
عن "النهار" العربي