4 مقالات مجهولة لمحمود درويش رفض نشرها في كتاب

4 مقالات مجهولة لمحمود درويش رفض نشرها في كتاب


10/08/2020

سيد محمود

تحلّ اليوم الذكرى الـ12 لرحيل الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ولا تزال تجربته الإبداعية مثار اهتمام القراء في العالم العربي وخارجه، كما لا تزال حياته خارج الكتابة مجالاً خصباً للنقاش والشائعات. ومن بين كل تجاربه، ظلت تجربته في الانتقال من الأراضي المحتلة والعيش في القاهرة خلال الفترة من 1971 وحتى 1973 أقرب إلى "المتن المجهول". 

لفتت نظري خلال ابحاثي الصحافية مقالات كتبها صاحب "جدارية" في جريدة "الأهرام"، ومجلة "الهلال " وهي مقالات لم يقترب منها ولم يتم إخراجها من ظلمة الأرشيف ولا نشرها في كتب . والمثير أن درويش في كتبه النثرية التي توالت، لم يكن حريصاً على إعادة نشرها باستثناء مقاله  "تنويعات على سورة القدس" ، الذي أعاد نشره في كتابه "يوميات الحزن العادي" (1973 )، المنشور بعد أيام من مغادرته للقاهرة.

هل أسقط درويش مقالاته واعتبرها تعليقات صحافية عاجلة وعابرة أم لمس فيها نبرة رومانسية رأى أنها لم تعد تلائمه؟ خصوصا أنّ بعضها شمل تعليقات كتبها حول الشأن الفلسطيني في توقيت مضطرب جاء بعد "أيلول الأسود" 1970 ثم محاولات لمّ الشمل الفلسطيني عقب انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة 1972 وفيها نلمس أيضاً بدايات تقارب الرؤى بين درويش ومنظمة التحرير الفلسطينية، قبل أن يقبل الانتقال إلى بيروت والعمل في مجلة "الدراسات الفلسطينية".     

ومهما كانت التفسيرات، فإن هذه المقالات تتيح  للقارىء فرصة التعرّف على مجمل  التصورات الفنية لمحمود درويش خلال تلك الفترة، وفيها يطوّر فكرته الشهيرة عن ضرورة تفادي "الحب القاتل" وتظهر نفوره من اختزال تجربته في الشعر النضالي إلى جانب إبراز تصوّراته عن سلبيات أوإيجابيات المهرجانات الشعرية التي تنامت بغرض تأكيد الدور المقاوم للشعر، وتظهر معظم المقالات سخريته المريرة من حال الشعر في العالم العربي. وهناك مقال كتبه عن تجربته في المشاركة للمرّة الأولى في مهرجان الشعر الدولي بروتردام، يعكس ثقافته العميقة وبدايات الصداقة التي نشأت بينه وبين شعراء كبار من مختلف أنحاء العالم مثل الشاعر الجنوب أفريقي بريتن باخ أو الفرنسي ميشال دوغي  وآخرين تأخرت ترجمة أعمالهم في العالم العربي.

وتشكّل تلك المقالات مناسبة للتساؤل عن المكاسب الفنية التي حصدها درويش خلال وجوده في مصر، فقد اعتاد النقّاد على تقسيم شعره إلى مجموعة من المراحل وعادة ما تسقط (مرحلة القاهرة) من تلك التقسيمات الشائعة وهي:

- مرحلة العيش في الأراضي العربية المحتلة.

- مرحلة بيروت ثم مرحلة الانتقال إلى تونس ثم باريس وبعدها جاءت النصوص الأخيرة التي كتبها بين عمان ورام الله.

وهذا يعني أن سنوات عيشه في القاهرة تكاد تكون غير موجودة، إما لأنها كانت قصيرة بالمقارنة مع السنوات التي عاشها في مدن أخرى، أو لأن ما نشره لم يكن متاحاً أو مصنّفاً لأنه كان ضمن ركام  من المقالات الصحافية التي كان ينشرها، وكانت بغالبيتها مساجلات في الشأن الفلسطيني، ما أدّى إلى تغييب تلك الفترة وإسقاطها من ذاكرة "النص الدرويشي" على نحو ما يجعلها ترتقي إلى درجة "المتن المجهول". 

وإذا كان درويش يتحدث دائماً عن شغفه بـ"الولادات الجديدة"، فإنّ ذلك قد يصبح دافعاً لسؤال حول ما أحدثته مصر كمكان جديد من تحوّلات في نصوصه الشعرية؟ ورأيي أن هذه التحوّلات كانت مفصلية  وصنعت القفزة الرئيسة في تجربته ولم تجعلها قفزة إلى المجهول، فقد تأسّست شعريته في مصر على قاعدة صلبة وأُتيح له المجال واسعاً لاختبارها أمام مجايليه من شعراء الموجة الثانية لقصيدة التفعيلة أمثال: أمل دنقل ومحمد عفيفي مطر ومحمد إبراهيم أبو سنة وأمام الأسماء الكبيرة في جيل الرواد أمثال: صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي التي قدمت له الكثير من الدعم، فضلاً عن الإنصاف النقدي من أسماء مثل لويس عوض أو رجاء النقاش وغالي شكري، ساعدته دائماً على  مساءلة نصوصه والدفع بها إلى فضاءات أعمق ثم تحريرها من طابعها المباشر وأفقها الرومانسي. فقد كان المناخ الثقافي للقاهرة "القلقة" حافلاً بكل أشكال الغضب ونزعات التمرّد الطامحة إلى ميلاد أدب جديد تجلّى في قصيدته الشهيرة "سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا" التي شكّلت مرتكزاً مفصلياً لتجربته في أفقها الجديد.

1-أسئلة بريئة إلى الأدباء العرب على هامش مؤتمر  الأدباء في دمشق (الأهرام 9 ديسمبر 1971)

لا أعرف دمشق... ولكنني أعرف الطريق إلى دمشق...

في ليلة غامضة من ليالي الخريف الماضي، كنتُ أبرز ورقة تعلن هويتي أمام أحد الشباب المقاتلين على الحدود السورية – اللبنانية. وقد ضعتُ في التأمل عندما لاحظتُ أن هذا الجندي الوسيم يحمل بندقية وديواناً من الشعر. وحين طلب مني الجلوس، سألتُه بتأدب ساخر: أمر عسكري أم طلب؟

فقال: بل رجاء.

وعلى امتداد ساعة كاملة في ذلك الليل الصامت، كان الشاب المسلح بالبندقية والشعر يحاكمني بإخلاص نادر وبمنطق القاضي الذى لا يرقى الشك إلى عدالته. كانت المحاكمة تتلخّص في تهمة واحدة: الفجوة بين القول والفعل، وأستميح القارئ عذراً لو سجّلتُ هنا أن كلمة واحدة من زوابع الكلام التي انفجرت في وجهي، هذا العام، لم تستقرّ في ذاكرتي، لأنها صادرة عن أشخاص يحترفون الكلام... والكلام وحده. ولكن كلمات هذا الشاب المقاتل، الذي يحرس الليل والحدود ما زالت شريطاً واضحاً في ذاكرتي، لأنه يملك الحق في الكلام وفي محاكمتي. إنه يصدق الكلمة ويطالب صاحبها بأن يكون صادقاً مع نفسه، وبأن يحقّق الانسجام بين ما يدعو إليه وبين ما يملكه.

 لا أعرف دمشق.

ولكننى رأيتُ بردى... سألتُ عنه المارة، وسألت عنه عيني، ثم دلّوني عليه. ولكنني لم أجده في دمشق, لأن الأغاني بدّدت بردى.

لماذا تحوّل عشاقنا إلى أساطير؟ لماذا نقول إن جسم الحبيبة غزال ووجهها قمر؟ لماذا نحتقر الجلد واللحم والعظم والدم؟ إذاً، لماذا ننفخ فى بردى ونضخّمه حتى ينفجر؟

إنّه جدول عظيم يسكن بيوت الدمشقيين، إنه أحد أفراد الأسرة السورية؟ إنه جرة ماء في كل بيت. وهذه الصفة وحدها كفيلة بتبرير حبّنا اللامتناهي لبردى، من دون أن نعين له خريراً وهديراً وهميَّيْن.

 لماذا نشعر بالحاجة إلى تضخيم الأشياء؟ هل لأننا نشعر، في اللاوعي، أن الصوت الطنّان هو وحده القادر على الوصول إلى الأسماع؟

وفي هذا الأسبوع تفقد دمشق... المدينة الجميلة التي تشبه القرية الطامحة شيئاً من هدوئها، وستلتفت إليها أنظار عشاق الأدب... والأدب الذي يخالف البندقية في هذه المرحلة.

ومن الواضح أنّ الأدباء والشعراء العرب المسافرين إلى دمشق لن يقفوا طويلاً على الحدود السورية، ولن يجدوا مَن يناقشهم في الفجوة الجارحة بين القول والفعل، لأنهم سيُستقبلون استقبالاً رسمياً، ويكونون بعيدين بعض الشيء من قرائهم الحقيقيين الذين يحملون البراءة وحقّ طرح الأسئلة الصائبة والحادة في بعض الأحيان. ولكنهم سيرون بردى... سيبحثون عنه... وسيأخذهم المرشدون إليه. ثم يمضون إلى قاعة المؤتمر الكبير. يستمعون إلى تقارير، يوافقون على القرارات والتوصيات التقليدية التي تؤكد وحدة الأمة العربية وانتصارها الأكيد على الاستعمار والصهيونية وأنصار التجزئة. فهل من أجل هذه النتيجة المعروفة تُقام كل هذه الضجة، وتنفق كل هذه الأموال؟

هذا ليس سؤالاً، ولكنه تساؤل. وينبغي أن نعترف بأن صفة التقليدية التي تتمتّع بها المؤتمرات الأدبي،, وربما غير الأدبية، القائمة على المستويات الرسمية وعلى مستوى تمثيل الدول والحكومات، لم تعد صفة عربية أو عيباً عربياً بشكل عام. إنّ الأديب الجالس في مثل هذا الإطار حريص على أن يتجانس مع متطلّبات العلم الذي يجلس في ظله. وليس العلم، بشكل عام، متجانساً مع التراب الذي يمثّله. وغياب هذا التجانس يطرح مسألة أوضح وأقرب إلى التناول هي حرّية الأديب واستقلاله النسبي عن المؤسسة الاجتماعية، ومسؤوليته الكبرى تجاه ضميره ورسالته، وتجاه سعيه إلى الاقتراب من الحقيقة. وهي مسألة مليئة بالتناقضات الشائكة في عالمنا العربي. ثمة فارق هائل بين الانتماء والولاء للوطن وبين الانتماء والولاء لبعض الذين يدّعون الحماية الإلهية عليه. وثمة فارق بين الوطن على الطبيعة، والوطن في الملفات الرسمية وفي جيوب الموظفين.

ثم... كيف تكون حليفاً للحرية في شرق آسيا من جهة، وبوقاً لسحق الحرّية في بيتك؟

لن نظلم الأديب، ولن ندّعي أنه المسئول الوحيد عن مثل هذه التناقضات والمفارقات.

من البديهيات أن يكون المناخ الديمقراطي الشائع هو المسؤول الرئيس. وهذا هو السؤال المشروع: هل يطرح الأدباء العرب – المنتشرون في قاعة المؤتمر أو في أسواق دمشق – قضية المناخ الديمقراطي؟ أم يكتفون بالتأكيد على المسلّمات العامة وبشتم إسرائيل والإمبريالية؟

وقد علمتُ أن الوفد الفلسطيني سيقدم تقريراً إلى المؤتمر عن وضع الكاتب الحربي تحت الاحتلال الإسرائيلي، وذلك موضوع يستحقّ الطرح والاطّلاع، ويجدر بالمؤتمر أن يندّد بإسرائيل وبأن يبعث تحيات الأخوّة والتضامن إلى الأدباء العرب الرازحين تحت الاحتلال الإسرائيلي.

وهنا، يفرض نفسه سؤال آخر: هل يكون طرح حرّية الكاتب في الأرض المحتلة بديلاً لطرح قضية حرية الكاتب في الأرض التي لم تُحتلّ؟

على أية حال، ليس نصف الكأس فارغاً كما يقولون. نريد أن نقول إن نصف الكأس ممتلئ، لأننا متفائلون أن انعقاد المؤتمر - بحدّ ذاته – فرصة جميلة للقاءات الشخصية المباشرة بين الأدباء الزملاء يتم فيها تبادل المعرفة والتعارف وتبادل الخبرة في الحياة والإبداع الفني. ولكن - سيكتشف كثيرون من الأدباء اللامعين – مجازاً – أن ثمة أزهاراً كثيرة قد تفتّحت وأن جيلاً جدّياً في طريقة النظر إلى العالم وفي طرائق الإبداع، قد أخذ يشكّل تيّاراً مهماً وجاداً في الحركة الأدبية العربية المعاصرة، ولم يأخذ حقه من الضوء والتصميم – ليس على مستوى القراءة فقط،  بل على مستوى النقاد والأدباء أيضاً. وهذه الحقيقة ستطرح مسألة تتمتّع بجانب من الأهمية، وهي مسألة التلاقي والتعارف بين إبداعات الكتّاب العرب بشكل دائم وليس بشكل موسمي، لكي تمارس تفاعلها الضروري.

 إن السوق الأدبية بحاجة ماسة إلى زواج في جميع البلدان العربية. وليس من الطبيعي أن تلجأ بعض المؤلّفات إلى مهنة تهريب نفسها.

ومن هنا، ينشأ سؤال آخر حول: حرّية وحاجة القارئ والكاتب العربيَّيْن إلى معرفة ما يتم إنجازه باللغة العربية. وليس من الطبيعي أن يستمر منع بعض المؤلفات الأدبية من دخول مكتبات بعض الدول العربية. فهل نظلم المؤتمرين فى دمشق لو طالبناهم بالتوصّل إلى قناعة مشتركة بهذا الشأن، وأن يتوصّلوا إلى قرار يدعو إلى الانفتاح الأدبي العربي من جهة، وإلى مطالبة المسؤولين برفع الحصار عن الأدب؟ وهل من قائل إنّ هذا الموضوع يمسّ المحرّمات، لأنه يقترب من معالجة المناخ الديمقراطي العام.

هذا أيضاً ليس سؤالاً. ولكنه تساؤل.

فليس من الطبيعي أن نتكلم عن الوحدة العربية والتنسيق العربي في شتى المجالات، في الوقت الذي نحرم  الأدب أو نمنعه عن ممارسة فاعليته في هذا الميدان. إنّ الإحساس بوحدة اللغة والإبداع الذي تنجزه هذه اللغة أكثر قدرة على التأثير في الوجدان القومىي من الخطب الحماسية الموسمية. وفي الوقت الذي يُعقد مؤتمر الأدباء العرب في دمشق، يُعقد مؤتمر أدب آخر في العراق. لماذا؟

مرة أخرى نتساءل: متى يُتاح للأدب أن يمارس استقلاله النسبي خارج اللعبة السياسية المفتعلة؟ لا يمكن النظر إلى ازدواجية عقد المؤتمرين، في وقت واحد وفي عاصمتين عربيتين، ببراءة وطيب قلب. هنا، يجب الاتهام، حتى يكفّ بعض المسؤولين عن معاملة الأدباء كما تُعامَل الراقصات. إنّ عقد مؤتمرين في وقت واحد، لا يشبه إقامة عرسين في يوم واحد حيث يتم توزيع الراقصات وضاربات الدف... الأدباء ليسوا راقصات ومطربين.

وإذا كنّا عاجزين عن تنسيق مؤتمر أدبي، فكيف نحلم بتنسيق عسكري أو سياسي؟

وتحية إلى الأدباء العرب المجتمعين في دمشق...

وتحية إلى الأدباء المجتمعين في العراق... وعفواً!

2- الشعر يعلن حضوره (رسالة من هولندا - الأهرام 30 يونيو 1972)

كانت متعتي ناقصة، فإن الانتقال السريع من حرارة الشرق الأوسط المرتفعة إلى برودة بلاد بحر الشمال – قد جرني من قاعة مهرجان الشعر ومن صحبة شعراء العالم إلى غرفة موصدة في الفندق بصحبة الطبيب والأدوية، هكذا فقدت كثيراً من المتعة الفنية والفضولية ومن القدرة على تكوين انطباع قريب من الصحة عن مهرجان الشعر الدولي الذي عقد في روترادم في العشرين من يونيو( حزيران) حتى الخامس والعشرين منه، واشترك فيه خمسة وعشرون شاعراً من قارات العالم.

لم يتضمن جدول أعمال المهرجان شيئاً عدا القراءات الشعرية الموزعة على خمس أمسيات منها: أمسية الشعراء الأوروبيين، وأمسية الشعراء من غير الأوروبيين، وأمسية شعر الاحتجاج، والأمسية الختامية التى اشترك فيها كل الشعراء.

 ولم يكن هذا التوزيع بحسب القارة توزيعاً دقيقاً، فإن الشعراء الأوروبيين اشتركوا في أمسية شعر الاحتجاج، كما أن الشعراء غير الأوروبيين اشتركوا في أمسية شعر الاحتجاج، حتى كدنا نقسم المهرجان إلى شعر احتجاج، ولا شعر احتجاج، لولا أن بعض الشعراء غير المعروفين بشعرهم السياسي الاحتجاجي مثل الإنجليزي ستيفن سبندر قد اشترك في أمسية شعر الاحتجاج.

وعلى هذا الأساس، ضاع الحد الفاصل بين الليالي الشعرية، وصارت عناوين الليالي مجازية. ويبدو أن ذلك من طبيعة الشعر الذى يكتسح فيضانه سدود التصنيفات ولو كانت عالية. وأن ذوبان الليالي الأوروبية بالآسيوية بالأفريقية وانصهارها في ليلة الاحتجاج، كان أبرز حدث فني ومعنوي في المهرجان. فلم يأخذ الاحتجاج شكل اللون الذى يطلب المساواة باللون الآخر، ولم يحمل صرخة الفقير الذى يطلب المساواة بالغني. لقد أخذ شكل الموقف المتكامل من الفن والحياة على السواء. جرى هذا في الوقت الذي كان فيه بعض شعراء إنجلترا الشباب يعلنون انحسار موجة الاحتجاج من الشعر المعاصر لتترك خلفها هموماً ذاتية أو عودة إلى النفس! وكأن أصحاب هذا الرأي يضعون الاحتجاج عاملاً خارجياً متعارضاً مع داخل النفس البشرية – لقد سئمنا التضامن مع فيتنام – بهذه الصيغة التبسيطية يلخصون بؤس إدراكهم للاحتجاج.

إن الاحتجاج بهذا المفهوم – بمفهوم التضامن البارد ذي المطلب الأحادي الجانب لا يعطي شعراً قادراً على الصمود أمام تغير المناخ والمزاج. ولكن الاحتجاج – بمفهوم الرفض الأعمق وتعبيراً عن الشعور بالحساسية المفرطة تجاه كل ما هو ظلم وكل ما هو مشوه للانسجام الإنساني – هو شيء آخر لا يمكن أن يكون خارجياً. إنه داخلي بقدر ما يكون الحب داخلياً.

وليس شعر الاحتجاج في عالمنا المعاصر مقتصراً على الشعوب المضطهدة أو المستعبدة الساعية نحو استقلالها وتحررها. ولعل منشأ المصطلح، تاريخياً، ينبع من موقف الاحتجاج الذى يعلنه ويمارسه قطاع من الناس داخل مجتمع معين ضد طبيعة حكم هذا المجتمع. وهذا القطاع من الناس يتمثل بقوى سياسية أو منظمات منظمة أو فوضوية تجمع على رفض طبيعة الحكم من أساسه. ولعل أكثر نفس شائع ولافت للنظر في الشعر الأميركي الآن هو شعر الاحتجاج سواء كان قصائد أو أغاني أو مسرحيات شعرية غنائية.

ومن هنا، لم تكن ليلة الاحتجاج في روتردام مقتصرة على السنغالي والأكوادوري والنيجيري والفلسطيني، بل تضمنت أيضاً السويدي والإنجليزي، وإن كان الأخير دليلاً قوياً على المعنى السلبي لشعر الاحتجاج الذى لا يشكل عنده موقفاً منسجماً من الحياة بقدر ما يشكل لحظة تضامن. وصفته فتاة هولندية ذكية بأنه: "مثل اللورد الإنجليزي الذى يدخن الغليون في حديقة المنزل، ثم يفتح الصحيفة فيقرأ خبراً عن مذبحة في فيتنام فيقرر أن الموقف يستدعي منه بعض أبيات من الشعر!".

بهذا المعنى، كان الآخرون هم شعراء الاحتجاج فعلاً، على الرغم من أن المصطلح يتسع لممثلين أكثر جدراة وحقيقة من بين صفوف الشعراء الإنجليز والمستمعين على السواء.

ليس المناخ، وحده، هو البارد في هولندا. كان التفاعل بين الشعراء وبين الجمهور يتوازى مع برودة الطقس. وكانت السهرات الشعرية الممتدة من الثامنة والربع مساء حتى الساعات الأولى من الصباح. غالباً ما تكون مليئة بالضجر لولا البوفيه الموضوع على حافة القصائد، ولولا الشقراوات الهولنديات الموزعات فى أحضان القوافي وأحضان أصدقائهن. وكان دور الشاعر – وبحسن نية - يشبه دور مغني الكباريه، يغني والناس تسكر أو تعانق بعضها أو تنام، على الرغم من أن المنصة شهدت تتابع شعراء كبار عليها.

كان يصعب عليك، أحياناً كثيرة، أن تعرف متى يبدأ الشعر ومتى ينتهي. ولقد أدرك شعراء الاحتجاج أن هذا الجو لن يكون لائقاً بطبيعة الاحتجاج نفسه. وأنه لابد من أن يسترد الشاعر سلطانه الشرقي إذا جاز التعبير، فغيّروا نظام القاعة ومقاعدها، وحشدوا الجو بموسيقى وأناشيد حماسية فانتشرت الحرارة في الجو الهولندي البارد. وعندما بدأ الشعر، كنت ترى الناس يتنازلون عن النص الذى يتضمن ترجمة إلى ثلاث لغات، الهولندية والفرنسية والإنجليزية – لما يسمعونه من شعر باللغة الأصلية، لا ترى زجاجات البيرة ولا أقداح الشاي والقهوة ولا عناق الأحباب، وكان هذا المظهر يدلك على المكانة التى تحتلها المسألة النضالية فى نفوس الناس. الشعر والقتال – صنوان. عندما يقاتل الشعر ويقتحم ويغامر يستوقف الناس ويثير إعجابهم. وعندما ينام الشعر – ينام الناس معه. والعيون الهولندية التى كانت قبل ليلة تشبه الزجاج تتحول الليلة إلى أمواج. لماذا؟ لأن الشعر المقاتل حركها ونقلها إلى طقس آخر. هذا أولاً. وثانياً – وجدنا دليلاً آخر على بديهية قديمة: بقدر ما يكون الشعر محلياً يكون قابلاً للتصدير إذا جاز التعبير. العالمية تبدأ دائماً من المحلية. والكثيرون منا غالباً ما يطمحون إلى السير على طريق معكوس.

وبذلك لا نكون محليين ولا نكون عالميين. لم أر أديباً يشعر بعقدة العالمية كما يشعر بها الأديب العربي. إنها همه وأرقه. ولكنها بين يديه من دون أن يدري.

ليست جزيرة كريت أكبر من أستراليا، لقد كتب عنها كازانتزاكي قصة محلية أصبحت من قمم الأدب العالمي، ولم تعط أستراليا شيئاً.

ما شأن هذا بمهرجان روتردام؟ لقد أعطى شعراء الاحتجاج هموم بلادهم بصفاء وصدق، فاستجاب لهم جمهور محايد إلى درجة البرود. لأن البضاعة بقدر ما تكون – محلية – تكون قابلة للتصدير.

وماذا في روتردام أيضاً؟

استوقفتني ظاهرة أخرى لأنها شديدة القرب من براءة الشعر. هذا هو العام الثالث الذي يعقد فيه مهرجان الشعر في هذه المدينة الجميلة. في السنة الماضية اشترك العظيم من تشيلي بابلو نبرودا. وفي هذا العام كانوا ينتظرون السوفياتي أندريه فوزنسنسكي (1933-2010) ، لم يعثروا عليه فى موسكو فأصيبوا بالخيبة، وظنوا أن المهرجان سيمر من دون قنبلة. ولكن القنبلة انفجرت فجأة. لقد فجرها الأطفال.

كيف؟

جاء من الولايات المتحدة الشاعر والكاتب المسرحي كينيث كوتش،(1925-2002 ) المشغول مؤخراً بابتكار علم جديد هو: تعليم الأطفال كتابة الشعر، وقد ألف كتاباً مهماً وخطيراً عن هذا الموضوع صدر فى نيويورك عام 1970، وهو سعيد بموضوعه سعادة تمتلك كل مافيه من حيوية متفجرة ونهم إلى الحياة.

التهم أربعة ساندوتشات ضخمة من اللحم البارد وإبريقاً من القهوة ثم وقف وقال: إلا تجيء معي؟

قلت: إلى أين؟ قال "إلى مدرسة الأطفال، لترى كيف أعلم الأطفال الشعر. اعتذرت قائلاً إني ذاهب إلى أمستردام. فنصحني بأن لا أتغيب عن ندوة الليلة لأن فيها مفاجأة. عدت من أمستردام، فوجدت المفاجأة: حوالى عشرة أطفال تتراوح أعمارهم بين السادسة والعاشرة يقرؤون من شعرهم في مهرجان الشعر الدولي، فأثاروا في الجمهور صحوة قوية، وفرحاً جميلاً. وكانوا هم القنبلة. كنت واقفاً قرب الفرنسي ميشيل دوغي (من مواليد 1930) فهمست: الأطفال يهزمون الشعراء. فتدخل بريتنباخ (مواليد 1939) من جنوب أفريقيا قائلاً: إن عندهم من الشعر أكثر مما لدى نصف الشعراء الكبار هنا.

ماذا فعل الأميركي كوتش؟

منذ وصوله إلى روتردام وهو يعكف على زيارة المدارس واختبار مواهب الأطفال الشعرية، إلى أن وقع اختياره على هذه المجموعة، ولا شك في أن العمل الذى ينفق فيه وقته يشبه ارتياد آفاق مجهولة ولكنها مليئة بالجمال والعذوبة والبراءة.

وماذا أيضاً؟

كانت متعتي ناقصة، لأنني لم أتمكن من ملاحقة كل نشاط مهرجان الشعر بسبب المرض الذي ألزمني الفراش، على الرغم من أن المسؤولين الهولنديين عن المهرجان كانوا مرهفي الذوق بعدم تحميله من الموضوعات والبرامج ما يجعله مرهقاً كما هي العادة في مثل هذه المناسبات.

كانت الأيام الخمسة مكرسة لإلقاء الشعر. ولمناقشة بعض قضايا ترجمة الشعر، فكان المهرجان فرصة جميلة للقاء الشعراء وإعادة التأكيد على بعض القيم الشعرية، وحضور الشعر في العالم.

ولعل أكثر ما يفرحني في هذه اللقاءات هو أن الشعر يعلن عن حضوره المضني فى هذا العصر.

ولا يكون إعلان هذا الحضور مؤثراً إلا إذا كان شاملاً وعالمياً. لأن عنف العصر ولا شاعريته شاملان وعالميان كذلك.

3- رسالة بيروت :نحن نستمع ولا نقرأ ( الأهرام 19 مايو 1971)

مرة أخرى، عن المهرجانات الشعرية: يجيئون دائماً، يملؤون المقاعد والممرات، ويفترشون الأرض.

يكسرون أبواب القاعات، ويجيئون دائماً، كأنهم مقبلون على عيد.

ليس الشعر بديلاً لشيء. ولكن الناس تحب الشعر. هل يحدث هذا في كل مكان من العالم؟ نحن نسأل هذا السؤال عادة، لكي نطمئن على سلامة صحتنا الحضارية والفنية.

ولكنني لست واحداً من المولعين بقياس أحجامنا بأمزجة الآخرين. ليس من الضروري أن يحب الأميركيون الشعر لكي يكون إقبال العرب على الشعر دليل عافية وحضارة، ثمة صفات تنفرد بها شعوب. الإنجليز يحبون الكلاب وقد لا يحبون الشعر كثيراً، والعرب يكرهون الكلاب ويحبون الشعر كثيراً. فلنتحرّر إذن، من الخجل إزاء ولعنا الشائع بالشعر، لأنه ليس منافياً للحضارة الحديثة والعلم، ولأنه تخلص من تهمة "أعذب الشعر أكذبه"، فقد رأيت الروس يذهبون إلى شعرائهم كأنهم ذاهبون إلى عرس. ورأيت الروس يستمعون إلى الشعر كأنهم في كنيسة. والهنود رأيتهم يستعملون القصائد للنوم بدلاً من الأقراص المنومة، وغالباً ما يكون التعليق على الأمسيات الشعرية هذا السؤال المؤرّق: هل تهافت العرب على الشعر هو علامة صحة أم مرض؟.

هنالك معطيات كثيرة نستخرج منها بعض الإجابات عن سبب حبّ العرب للشعر، في مقدمها أسباب تاريخية يتطرق بعضها إلى غياب أشكال التعبير الفنية الأخرى.

ولكن طرح السؤال على هذا النحو مشوب بسوء النية وبحسن النية على السواء.

إن الذين يخافون ظاهرة اندفاع العرب نحو الشعر الآن، يتذمّرون من المظاهر السلبية للحياة العربية أكثر مما يتذمّرون من الفن. فهم يخشون أن يكلّف الشعر، وحده، مهمّة تطبيق الأحلام العربية الجميلة من بناء وانتصار وتقدم ويخشون أن تكون القوافي بديلاً للقذائف وأن تكون الأوزان بديلاً لخطط التنمية الاقتصادية. ليس من الذكاء القول إن ذلك ليس ذنب الشعر، بل هو ذنب العاطفية الشعرية في التفكير السياسي العربي.

من هنا، نلاحظ أن أسباب الخوف من انتشار الشعر يحدوها ضيق شرعي من السلبيات والروحانيات العربية، في مرحلة تفترس الحكمة وتجعل الأمل شديد الحياء والتردد.

ولكن، لا يصعب علينا أن نعثر على جانب آخر، أكثر إيجابية، لهذا المظهر. أنا شخصياً أردف الشعر الحقيقي دائماً بالصدق والشجاعة والطموح. عندما يكذب الآخرون، يصدق الشعر. وأرى في تهافت الناس على الشعر عطشاً وجدانياً دائماً إلى الصدق والطموح. وأرى في هذه الظاهرة دليل صحة نفسية قد تنمو وقد تصاب بمرض مفاجئ. ولكن المسألة تتوقف في نهاية الأمر، على مدى احتفاظ الشعر بالصدق والشجاعة والأصالة. ولكي لا نظلم المتشائمين ينبغي أن نعلن اعترافنا بأن المهرجانات الشعرية هي تربة خصبة لازدهار الانتهازية الفنية إذا صح التعبير. ولقد تطرقت إلى هذه النقطة – من دون أن أسمعها – في تعليقي على مهرجان البصرة أبريل (نيسان) 1972، أن الانتهازية الفنية ابنة شرعية للانتهازية السياسية، حين يقوم الشعراء – بواسطة حملة حقائبهم أو من دونهم – برصد درجة غليان دم الناس وميولهم السياسية أو الطائفية - فيُخضعون قصائدهم لهذا الاعتبار. لا أريد الإساءة إلى أحد حين أقول إن تغيير عناوين القصائد وأسماء الشهداء الذين تخاطبهم هذه القصائد، من قاعة إلى قاعة ومن عاصمة إلى عاصمة، وفقاً لمدى انتماء الجمهور هنا أو هناك إلى عقائد هؤلاء الشهداء، هو تعبير بدائي وبذيء عن الانتهازية الفنية وعن الانتهازية السياسية. ولكن هذه الظاهرة ليست فنية، إنها صفة خلقية. وليس بوسعها أن تدفع أحداً إلى إعادة النظر بظاهرة الحب الجماهيرى للشعر.

وينشأ هنا، سؤال: هل يصلح الإقبال الكبير على المهرجانات الشعرية مقياساً للحكم على مستوى التذوق العام للشعر؟.

إن أرقام التوزيع لدى دور النشر العربية تشير في السنوات الأخيرة إلى انخفاض ملحوظ في توزيع كتب الشعر. وإن الشاعر الجيد – مع استثناءات صارمة - لا يوزّع أكثر من ألفي نسخة، بينما بوسعه أن يجتذب أكثر من خمسين ألف مستمع فى الفترة نفسها التى يستغرقها توزيع كتابه.

ماذا تعني هذه الإحصائية؟

إنها تؤكد حقيقة سهلة نعرفها جميعاً وربما لم نعثر على تسميتها حتى الآن. وهي: أن الجمهور العربي هو جمهور مستمع وليس جمهوراً قارئاً. إن الأذن عندنا هي الطريق الوحيد نحو المعرفة.

تترتب عن ذلك، خطورة المهمة التى يحتلها من يديرون وسائل التعامل مع هذه الحاسة الخطيرة. أن الميكروفون هو الديكتاتور الحقيقي لثلاثة أرباع العرب. فماذا يعني ذلك بالنسبة إلى حديثنا عن الشعر؟ إنه تحريض للقصيدة الحقيقية الحديثة للخروج من الكتاب إلى الأذن العربية.

ومادام طبع الشعر على أسطوانات حلماً لم يتحقق، فلا مفرّ من التعامل مع الميكروفون، مع الأمسيات الشعرية. من شأن هذا التعامل أن يعمّق التفاعل بين الجمهور الذى يسمع ولا يقرأ، وبين هموم الشاعر الحديث. ومن شأنه أن يحقّق الألفة الترويجية بين الأذن المعتادة على الإيقاع القديم وبين بناء القصيدة الحديثة. فإن إيقاع مئات السنين الراسخ في الأذن العربية يصعب ترويضه فى أمسيات قليلة. يكفي في البداية أن حصل من الجمهور على "الصمت المستمع" إذا جاز التعبير. إن الألفة بين القصيدة القديمة وبين الجمهور ليست ألفة غريزية ولكنها ألفة مكتسبة. بوسع القصيدة الحديثة أن تكسب هذه الألفة بالترويض التدريجي في الأمسيات الشعرية ذات المستوى المهذب، وبعدها يصبح من الممكن بلورة جمهور قادم للاستماع إلى الشعر وليس لقضاء سهرة.

ولا يعني ذلك أن بمقدور الأمسيات الشعرية أن تحلّ قضايا التفاعل – لا الانفعال – بين الجمهور الواسع وبين القصيدة الحديثة. فإن حلّ القضية لا يكون ذاتياً ولا نهائياً مادامت الأميّة تحتلّ هذه النسبة العالية عند العرب.

الثورة الفنية لا تتحقق تحققاً كاملاً إلا بالثورة الاجتماعية أولاً. وإن تحقيق الانسجام بين مستوى ثقافة الشاعر وتصوّره للعالم والفن، وبين المستوى الثقافي العام لا تحلّه قصيدة ولا مهرجان. وعلى الرغم من ذلك، ومادام الحديث دائراً عن جمهور الشعر في الإطار القائم، فإنه من الممكن تحقيق مزيد من التطور ضمن الشكل الحالي لدى الجمهور الذى يفضل حاسة السمع على حاسة البصر، وقد يُطرح سؤال: ما دور الإذاعات في هذا الميدان؟.

إن بعض الشعراء مدينون بشهرتهم لدى أوساط واسعة إلى حنجرة بعض المطربين.

وتلك قضية مأساوية بحدّ ذاتها، فباستثناء نزار قباني، يمكن القول إن أتفه الشعراء العرب المعاصرين هم أكثر الشعراء شهرة من طريق الإذاعة، لأن العرب يسمعون ولا يقرؤون، ولأن الميكروفون – الديكتاتور هو الذي يتعامل مع حاسة العرب إلى المعرفة، وفي الإذاعات برامج شعرية يحكمها ذوق رسمي – يوجّهه دافعان: إما ترويج الهموم العاطفية البدائية المغتربة عن العصر، وإما الهموم الدعائية التي تتعاطى شعر الإيجابيات والتفاؤل الموظف والفرح الرسمي.

إذن، ما العمل؟

ليست لدى إجابة، إلا القول إن إقبال العرب على الشعر هو ظاهرة صحية – وستزداد نمواً إذا تحوّل جمهور الشعر من جمهور مستمع إلى جمهور قارئ. أما كيف يحدث ذلك؟ فلست لدي إجابة إلا القول إن ذلك سيحدث إذا توفر المناخ الصحي، فلنعمل من أجل المستقبل منذ الآن.

4 عزف منفرد فوق القانون (الأهرام 31 مارس 1972)

ينهمر الشعر على العرب في كل الفصول، غداً يفرغ القطار المسافر من بغداد إلى البصرة حمولته الثقيلة من االشعراء المدججين بالقصائد والحناجر المصقولة.

وطيلة هذا الشهر، كانت بيروت تبدأ سهراتها باكراً ثم تنام على أصوات الشعراء وتصحو على صورهم في الصحف اليومية وقبل ذلك تعبت أكف الدمشقيين من التصفيق للشعراء ولم تتعب.

شعر في كل العواصم ولم يذهب الغزاة، ولم يترجل الطغاة، وماذا بعد،

ماذا بعد ؟ ستأتي بعد شهرين ذكرى يونيو(حزيران) السادسة، وينهمر الشعراء منا، وتنطلق من العواصم العربية أصوات أصواتنا، بعضها يبيع الأمل وبعضها يهب الرثاء، وبعضها ينهش اللحم والجمهور الجالس في القاعات أو على أغصان الشجر يصفق، يصفق، ثم يكتشف بعد قليل أن التعويض النفسي عن الأرض والوطن ليس إلا عذاباً وماذا بعد؟ ماذا بعد؟.

ليست المسألة إقحاماً أو انفعالاً، كل الشعر العربي المقروء أو المسموع يدور في هذا المناخ السياسي، ولم يتمكن من تجاوزه، هذه هي القضية للمواطن وللشاعر على السواء. نقاتل أو لا نقاتل، هذا هو السؤال؟.

الطاعون يبصرنا جميعاً، والنجاة في الفن عذاب ثالث فما بالك عندما نكتشف أننا لم ننظم فناً، بل نظمنا صراخاً، ولم نتكلم، بل أصدرنا أصواتاً.

يونيه، لا يعطي فناً جديداً أنه لا يعرف إلا موعداً في جدول الزمن. نذهب فيه إلى أقاربنا وأصدقائنا لنقدم العزاء وتبرعات الدم ونمضي فيه إلى أسر الشهداء لنكسوهم لباباً منسوجة من مشاركة الدولة في الصلاة على الأرواح الطاهرة.

وعود بالخلود وتسميع العداء لليهود، وماذا بعد ماذا بعد؟.

هذا النوع من يونيه، لا يعطي فناً ولا يضيف مزاياً. لأن يونيو لم يكن صداعاً مفاجئاً في رأس الأمة العربية، ومن يعامله على هذا الأساس يكون واحداً من أعراض يونيو.

إن القيم تتشابه وتتشابك في هذه الفوضى ولكن الذين كانوا متوافقين مع مقدمات يونيو قبل وصوله ليس من حقهم الأعتراض، وإذا ارتفعت أصواتهم، فليس ذلك دليلاً على ثورية بقدر ماهو دليل على نكاية وشماتة. ومن هنا تتشابك القيم وتتشابه لأن الفوضى عامة.

وماذا يفعل الشاعر؟ إن التفاءل أمر يومي، ويقولون إن الأمل هو ما يميز الشاعر الثوري من الشاعر الرجعي، ليس هذا صحيحاً بشكل مطلق وليس صحيحاً بالصيغة التي يقتضيها "الأمر اليومي".

الأمل ليس أمراً وليس مرسوماً، ووزراء الإعلام ليسوا وزراء للأمل.

الأمل شيء يشبه التغلغل في ثنايا الصراع والتحالف مع قوة ذات مصلحة حقيقية في إدارة الصراع لما يخدم الناس والوطن.

 الأمل موقف إيجابي من حركة التاريخ وليس ولاء لمؤسسة تملأ الصيدليات بأقراص الأمل حتى لو كان من منتجات الصناعة الوطنية. ولذلك فإن اليأس من ندرة هذه الأقراص على بعث العافية يصبح شيئاً شديد القرابة من الأمل التاريخي.

المطلوب الآن إدراك آخر لما تصيبه يأساً من التاريخ والوطن، ولكنه يأس من الذين حوّلوا الوطن إلى مقاعد وسباط.

وماذا يقول الشاعر، إن الاستشهاد فكرة خلاقة ومبدعة. وفي كل بيت شهيد.

شهداء وشهداء وشهداء ينهمرون على الأرض العربية وهم الحقيقة الصادقة الوحيدة في تاريخنا المعاصر. ولكن لمن؟ من يستثمرهم؟.    

 إن فكرة استثمار الشهداء جهنمية ومدبرة. لا يحق لأحد أن يستثمرهم إلا الوطن وماذا نرى؟ هل أنبتوا شجرة أو سنبلة!.

لقد لفّوهم بالأعلام الوطنية والأناشيد واستثمروهم أوسمة وأموالاً وانقلابات.

باسمهم يقتلون الأحياء ويقولون "الوطن" الوطن" الوطن" حتى أصبح المواطن العادي يغترب عن الوطن، ما له شارع  ولا حديقة ولا تراب، لأنهم جعلوه عاجزاً عن التمييز بين الوطن ومكتب الوزير.

إن الشهداء يموتون مرتين: مرة برصاص الأعداء، ومرة بأكاذيب بعض الدعاة، صاروا سلالم، لم؟ ولمن؟.

ويقولون للشاعر كنْ متفاءلاً وانشر القيم الصالحة لأنك شاعر الشعب، ويتساءل الشاعر عن الفارق الوحيد بين القيم وبين الأفيون. أي قيم يروّج  هل يفرحه أن العواصم باقية وهل تملؤه هذه الحقيقة بالحماسة والرضا وما هي العاصمة؟ الشعب أم مكاتب حكومة وبنوك ومراكز الشرطة؟ وهل العاصمة تعادل أرضاً؟ ومن يخدم الآخر، العاصمة تخدم الوطن، أم الوطن يخدم العاصمة؟.

كنْ متفائلاً ولا تكن انهزامياً!. سأكون، سأنسى أن الحدود تقترب وتقترب وتقترب من العواصم. وماذا بعد؟، ماذا بعد؟ لقد تعلمنا من الغزاة أسباب انتصارهم إنهم مجتمع عسكري وسنتغلب عليهم بالمثل، فلتصمتْ كل الأصوات.

إنقلاب وراء أنقلاب ونحن صامتون. 

ماذا يقول الشاعر؟ يخرج إلى الناس ويقدم حنجرته يقول لهم الحقيقة.

لقد ضاعت الحقيقة في النثر لأن الرقيب يفهم النثر. فإلى أن يتخرّج فوج جديد يفهم الشعر مازال أمام الحقيقة، وأمام لحظات الصدق فسحة من الوقت. انتهزوها أيها الشعراء وقولوا الحقيقة.

أن حاجتنا إلى الحقيقة تعادل حاجتنا إلى جيش عصري لينهمر الشعر على العرب، يأساً أو أملاً. فليس مهماً هذا السؤال؟!.

عن "اندبندنت عربية"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية