مختارات حفريات
«الفوضى الخلاقة» تهدم نهوض الدول
«الفوضى الخلاقة»، ذلك التعبير الذي سبق أن لخصت به وزيرة الخارجية الأميركية «كونداليزا رايس»، جوهر السياسة الأميركية في العقدين الأخيرين، هو الذي ينتهى الآن عند تصريح «كيسنجر» متوقعاً نشوب حرب عالمية جديدة قائلاً: «من لم يسمع طنين طبولها فهو أطرش». لم نتساءل جيداً: لماذا كان ذلك كذلك؟ في تقديري من واقع تأمل محدود يبدأ بدراستي الأفريقية، وينتهي بتأمل الحالة العربية، وغيرها من المناطق، أنه منذ جلوس مسؤولي الدول الأوروبية على مائدة في مؤتمر برلين 84/1885 – لتقسيم العالم، عقب الحروب الأوروبية نفسها طوال القرن التاسع عشر، يحدث عقب كل حرب عالمية نوع من «الفوضى الخلاقة» يعيد فيها الغربيون النظر في خريطة العالم، في ضوء خرائط برلين، ليصيغوا العالم بشكل جديد حتى لو قام أصحابه بمقاومات معروفة لذلك. فعقب مؤتمر برلين وحتى الحرب العالمية الأولى، وبانتهاء تلك الحرب، بدأ تقسيم العالم على أساس كسر السيطرة العثمانية المنافسة، في آسيا وأفريقيا، بل والبلقان الأوروبية، ووقف إمكانيات نهوض الصين في آسيا..الخ. وخرجوا من الحرب وقد استقرت فلسطين ضمن المشروع الصهيوني وفق وعد بلفور الشهير، ضمن تقسيم العالم العربي، كما أخرجوا ألمانيا من عدد من المواقع في الجنوب الأفريقي، وأجبروا لينين «السوفييت» على توقيع معاهدة «بريست ليتوفسك» عام 1918، لتقسيم شرق وشمال أوروبا...ثم أقاموا «عصبة الأمم» لتأطير كل ذلك «دولياً» مع وعود هنا وهنالك بالاستقلال والاستقرار، اللذين لم يتحققا.
وعقب الحرب العالمية الثانية شهدنا ظواهر أكبر وأخطر نتيجة «الفوضى» بعد الحرب، إذ قسمت الهند لإقامة باكستان كدولة على أساس ديني، كان يسمى «طائفي» في إمبراطورية الهند! وذلك في 14 أغسطس 1947، وقبل يوم واحد من إعلان استقلال الهند نفسها في 15 أغسطس! وفي نفس العام تأكد إقامة «دولة إسرائيل» على أساس ديني أيضاً باسم الدولة اليهودية، لتعلن كدولة رسمياً – مايو 1948. وهو نفس العام الذي أعلن فيه الأوروبيون في الجنوب الأفريقي إقامة «دولة الأبارتيد» في جنوب أفريقيا، وجنوب غربي أفريقيا (ناميبيا) على أساس عنصري، شبه ديني أيضاً (الرسالة الحضارية للرجل الأبيض)، وجرى غير ذلك من التقسيمات على المستوى العالمي، نال المشرق العربي منها طرفاً كبيراً، في غربه وشرقه. وانتهينا هنا بالاستقطاب العالمي في حلفين كبيرين، وإقامة الأمم المتحدة لتأطير ذلك أيضاً بشكل مختلف نسبياً عن «عصبة الأمم» مع حزمة من الوعود الجديدة.
والآن نعيش حرباً شبه عالمية في أنحاء مختلفة من العالم، لا يمكن معها الأخذ بالتحليل الجزئي للظاهرة العلمية! وها هو «هنري كيسنجر» يفسر «الفوضى الخلاقة» الجارية الآن! بأنها مقدمات حرب عالمية قائمة أو قادمة. وفي نظرة «كيسنجر رؤية لما يجري من استقطاب على المستوى العالمي، لا يختلف عن فترة الحرب الباردة، وما يجرى مع كوريا الشمالية في نظره ليس أكثر من تمركز الاستقطاب، بل وأظنه يرى أن الاستقطابات في الشرق الأوسط، وتقدم الوضع الروسي، وما يتردد عن ضعف حضور أو مقاومة الولايات المتحدة لهذا الاستقطاب سيحول الفوضى في لحظة ما إلى حرب ضروس لتأكيد كلِّ لوجوده. لا يتجاهل هذا التحليل كله عنصرين: الأول: أن الإشكالات السابقة للهيمنة والاستبداد الدولي، واجهت بين الحربين نهوضاً ملحوظاً لقوى الاستقلال الوطني، مما هو معروف في مختلف المواقع. والثاني: أنه بعد الحرب الثانية اشتد فعلاً ساعد دول التحرر الوطني، واستطاعت بقدر ما أن توقف الاستبداد المطلق بسياسات عدم الانحياز..الخ. أما هذه «الحرب الثالثة» التي نعيش أجواءها، فنشهد فيها تطورات جديدة مع تعدد مراكز المنافسة والصراع، إلى تعدد أوجه المقاومة.. ولست بحاجة إلى إيضاح أن طموحات الصين الاقتصادية تتفوق على الطموح السياسي للروس، وتختلف عن نوع من حيوية ملحوظة عند بريطانيا، وفرنسا بوجه خاص، وقد كتب الكثير عن مهارة ودبلوماسية الرئيس الفرنسي «ماكرون» بما يستحق المتابعة. أما عن المقاومة، فهي قائمة، في وسط آسيا، أو الشريط الجنوبي للعالم الآن ممثلاً في تنظيم مثل «بريكس» ضاماً البرازيل – جنوب أفريقيا – الهند – الصين – روسيا، وهي أكبر الدول الصاعدة في القارات الثلاث. ويبقى السؤال المحرج التالي: أين موقع العالم العربي؟ هل ينتهي واقعه الآن إلى مزيد من نتائج «الفوضى الخلاقة» بتعميق تفتته عقب الحرب العالمية الدائرة بالمصطنع من الأسباب الدينية أو الطائفية؟ أم ننتهي إلى انحياز تابع لهذا التكتل العالمي أو ذاك بين القوى الكبرى ليصير استقطاباً لا استقلالًا طلباً للاستقرار؟
ثمة إشارات متعددة تصدر من أنحاء العالم العربي عن ميل للاستقرار في إطار التبعية، يجب الانتباه لها لأنها تحمل أيضاً ادعاءات الاستقلالية بتشكيل تحالفات صورية جديدة أو استعراض دولتي محدود الأثر حتى تتبلور الأدوار الحقيقية لبعض الطموحات. لابد أن ندرس في العالم العربي، معنى الخرائط الجديدة، لنتخذ المواقف التي تتسق مع الروح الاستقلالية، أو التحررية، لوقف آثار «الفوضى الخلاقة»، التي تؤدي إلى دق طبول حرب عالمية جديدة. وفي تقديري أن كثيراً من الدول الأفريقية تسعى لتحديد اختياراتها إلى حد ما رغم معوق السياسة الغربية التي باتت تسعى للقارة بعيداً عن مشاكل الشرق الأوسط، ولننظر للمؤتمرات الرئاسية المشتركة ودور الاتحاد الأوروبي وتطور دور الاتحاد الأفريقي بحثاً عن نمط لسلوك سياسي خلاق بحق.
مقال لـ «الفوضى الخلاقة»، ذلك التعبير الذي سبق أن لخصت به وزيرة الخارجية الأميركية «كونداليزا رايس»، جوهر السياسة الأميركية في العقدين الأخيرين، هو الذي ينتهى الآن عند تصريح «كيسنجر» متوقعاً نشوب حرب عالمية جديدة قائلاً: «من لم يسمع طنين طبولها فهو أطرش». لم نتساءل جيداً: لماذا كان ذلك كذلك؟ في تقديري من واقع تأمل محدود يبدأ بدراستي الأفريقية، وينتهي بتأمل الحالة العربية، وغيرها من المناطق، أنه منذ جلوس مسؤولي الدول الأوروبية على مائدة في مؤتمر برلين 84/1885 – لتقسيم العالم، عقب الحروب الأوروبية نفسها طوال القرن التاسع عشر، يحدث عقب كل حرب عالمية نوع من «الفوضى الخلاقة» يعيد فيها الغربيون النظر في خريطة العالم، في ضوء خرائط برلين، ليصيغوا العالم بشكل جديد حتى لو قام أصحابه بمقاومات معروفة لذلك. فعقب مؤتمر برلين وحتى الحرب العالمية الأولى، وبانتهاء تلك الحرب، بدأ تقسيم العالم على أساس كسر السيطرة العثمانية المنافسة، في آسيا وأفريقيا، بل والبلقان الأوروبية، ووقف إمكانيات نهوض الصين في آسيا..الخ. وخرجوا من الحرب وقد استقرت فلسطين ضمن المشروع الصهيوني وفق وعد بلفور الشهير، ضمن تقسيم العالم العربي، كما أخرجوا ألمانيا من عدد من المواقع في الجنوب الأفريقي، وأجبروا لينين «السوفييت» على توقيع معاهدة «بريست ليتوفسك» عام 1918، لتقسيم شرق وشمال أوروبا...ثم أقاموا «عصبة الأمم» لتأطير كل ذلك «دولياً» مع وعود هنا وهنالك بالاستقلال والاستقرار، اللذين لم يتحققا.
وعقب الحرب العالمية الثانية شهدنا ظواهر أكبر وأخطر نتيجة «الفوضى» بعد الحرب، إذ قسمت الهند لإقامة باكستان كدولة على أساس ديني، كان يسمى «طائفي» في إمبراطورية الهند! وذلك في 14 أغسطس 1947، وقبل يوم واحد من إعلان استقلال الهند نفسها في 15 أغسطس! وفي نفس العام تأكد إقامة «دولة إسرائيل» على أساس ديني أيضاً باسم الدولة اليهودية، لتعلن كدولة رسمياً – مايو 1948. وهو نفس العام الذي أعلن فيه الأوروبيون في الجنوب الأفريقي إقامة «دولة الأبارتيد» في جنوب أفريقيا، وجنوب غربي أفريقيا (ناميبيا) على أساس عنصري، شبه ديني أيضاً (الرسالة الحضارية للرجل الأبيض)، وجرى غير ذلك من التقسيمات على المستوى العالمي، نال المشرق العربي منها طرفاً كبيراً، في غربه وشرقه. وانتهينا هنا بالاستقطاب العالمي في حلفين كبيرين، وإقامة الأمم المتحدة لتأطير ذلك أيضاً بشكل مختلف نسبياً عن «عصبة الأمم» مع حزمة من الوعود الجديدة.
والآن نعيش حرباً شبه عالمية في أنحاء مختلفة من العالم، لا يمكن معها الأخذ بالتحليل الجزئي للظاهرة العلمية! وها هو «هنري كيسنجر» يفسر «الفوضى الخلاقة» الجارية الآن! بأنها مقدمات حرب عالمية قائمة أو قادمة. وفي نظرة «كيسنجر رؤية لما يجري من استقطاب على المستوى العالمي، لا يختلف عن فترة الحرب الباردة، وما يجرى مع كوريا الشمالية في نظره ليس أكثر من تمركز الاستقطاب، بل وأظنه يرى أن الاستقطابات في الشرق الأوسط، وتقدم الوضع الروسي، وما يتردد عن ضعف حضور أو مقاومة الولايات المتحدة لهذا الاستقطاب سيحول الفوضى في لحظة ما إلى حرب ضروس لتأكيد كلِّ لوجوده. لا يتجاهل هذا التحليل كله عنصرين: الأول: أن الإشكالات السابقة للهيمنة والاستبداد الدولي، واجهت بين الحربين نهوضاً ملحوظاً لقوى الاستقلال الوطني، مما هو معروف في مختلف المواقع. والثاني: أنه بعد الحرب الثانية اشتد فعلاً ساعد دول التحرر الوطني، واستطاعت بقدر ما أن توقف الاستبداد المطلق بسياسات عدم الانحياز..الخ. أما هذه «الحرب الثالثة» التي نعيش أجواءها، فنشهد فيها تطورات جديدة مع تعدد مراكز المنافسة والصراع، إلى تعدد أوجه المقاومة.. ولست بحاجة إلى إيضاح أن طموحات الصين الاقتصادية تتفوق على الطموح السياسي للروس، وتختلف عن نوع من حيوية ملحوظة عند بريطانيا، وفرنسا بوجه خاص، وقد كتب الكثير عن مهارة ودبلوماسية الرئيس الفرنسي «ماكرون» بما يستحق المتابعة. أما عن المقاومة، فهي قائمة، في وسط آسيا، أو الشريط الجنوبي للعالم الآن ممثلاً في تنظيم مثل «بريكس» ضاماً البرازيل – جنوب أفريقيا – الهند – الصين – روسيا، وهي أكبر الدول الصاعدة في القارات الثلاث. ويبقى السؤال المحرج التالي: أين موقع العالم العربي؟ هل ينتهي واقعه الآن إلى مزيد من نتائج «الفوضى الخلاقة» بتعميق تفتته عقب الحرب العالمية الدائرة بالمصطنع من الأسباب الدينية أو الطائفية؟ أم ننتهي إلى انحياز تابع لهذا التكتل العالمي أو ذاك بين القوى الكبرى ليصير استقطاباً لا استقلالًا طلباً للاستقرار؟
ثمة إشارات متعددة تصدر من أنحاء العالم العربي عن ميل للاستقرار في إطار التبعية، يجب الانتباه لها لأنها تحمل أيضاً ادعاءات الاستقلالية بتشكيل تحالفات صورية جديدة أو استعراض دولتي محدود الأثر حتى تتبلور الأدوار الحقيقية لبعض الطموحات. لابد أن ندرس في العالم العربي، معنى الخرائط الجديدة، لنتخذ المواقف التي تتسق مع الروح الاستقلالية، أو التحررية، لوقف آثار «الفوضى الخلاقة»، التي تؤدي إلى دق طبول حرب عالمية جديدة. وفي تقديري أن كثيراً من الدول الأفريقية تسعى لتحديد اختياراتها إلى حد ما رغم معوق السياسة الغربية التي باتت تسعى للقارة بعيداً عن مشاكل الشرق الأوسط، ولننظر للمؤتمرات الرئاسية المشتركة ودور الاتحاد الأوروبي وتطور دور الاتحاد الأفريقي بحثاً عن نمط لسلوك سياسي خلاق بحق.
مقال لحلمي شعراوي ، رئيس مركز البحوث العربية والأفريقية- القاهرة - عن صحيفة "الاتحاد"