تحقيق: خالد بشير
أن تكون إنساناً بلا جنسية، بلا هوية، بلا جواز سفر، بلا أية إثباتات رسمية، في عالم اليوم، يعني أن تكون إنساناً غير مرئي، غير موجود من الناحية القانونية، لا يمكنه إتمام معاملة، أو الحصول على وثيقة، لا يُمكنه فتح ملف في أيّة دائرة حكومية أو مؤسسة مدنية، وهو ما يعني أنك لن تتمكن من ممارسة أبسط حقوقك كإنسان؛ لا تملّك، ولا تنقّل، ولا تعليم، ولا عمل، ولا صحة، ولا تعليم، ولا يمكنك حتى فتح حساب مصرفي، أو تسجيل عقد الزواج! إنه بالفعل "إعدام" من نوع آخر.
15 مليون إنسان غير معترف بهم
تُعرّف المفوضية السامية لشؤون اللاجئين الشخص العديم الجنسية بأنه "الشخص الذي لا تعتبره أية دولة مواطناً فيها بمقتضى تشريعاتها"، واليوم يوجد حوالي 15 مليون إنسان حول العالم يصنفون ضمن فئة "عديمي الجنسية"، وبحسب إحصائيات المفوضية فإنّه يولد كل 15 دقيقة إنسان "عديم الجنسية".
وتختلف أسباب انعدام الجنسية ما بين حالات انهيار دول وتوزع سكانها ما بين الدول الجديدة الناشئة دون نَيل الجميع مواطنة الدول الجديدة، كما حصل في الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي بعد انهياره، وفي البلقان بعد تفكّك يوغوسلافيا، أو حالات استقلال ونشوء دول جديدة دون الاعتراف بالسكان غير المستقرين، كما حصل مع عدد من القبائل البدوية في منطقة "الشرق الأوسط"، بالإضافة إلى حالات التمييز ضد مجموعات إثنية ودينية معينة، كما في بورما؛ حيث تعتبر أقلية الروهينغيا هناك أكبر أقلية عديمة الجنسية في العالم، وتبلغ أعدادهم حوالي المليون.
محاولات ومساعٍ دولية
حاولت منظمة الأمم المتحدة، والأجهزة التابعة لها؛ كالمفوضية السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR)، إنهاء مشكلة عديمي الجنسية، منذ تأسيسها العام 1945؛ حيث تم عقد اتفاقيتين مخصصتين لمعالجة المشكلة؛ الأولى كانت في العام 1954، وجاءت لمعالجة آثار الحرب العالمية الثانية، ووقعّت عليها 80 دولة، والثانية كانت العام 1961، ووقعت عليها 55 دولة؛ حيث أكدت الاتفاقيتان على الحق في الجنسية والانتماء، ونصّت على التزام الدول بخفض حالات انعدام الجنسية. واليوم تعلن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين عن طموحها إلى إنهاء المشكلة بحلول العام 2024. وقد أثمرت المساعي والجهود عبر عقود عن حصول ملايين الأشخاص على الجنسية، وفي العام 2007 سجلت النيبال أعلى نسبة من خفض حالات انعدام الجنسية في العالم.
عديمو الجنسية في العالم العربي
لا يخلو العالم العربي ومنطقة "الشرق الأوسط" من فئة عديمي الجنسية؛ حيث تعتبر هذه القضية من أهم القضايا في المجتمعات الخليجية، وتُعرَف هذه الفئة من السكان هناك باسم "البدون"، ويوجد عشرات الآلاف من البدون ما بين الكويت والسعودية والإمارات وقطر، فيما تم إنهاء المشكلة تماماً في البحرين؛ حيث حصل على الجنسية البحرينية 10,000 شخص في مستهل العام 2001، بأمر من الملك حمد بن عيسى آل خليفة، بعد توليه الحكم. وقد نظمت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين مؤتمراً خاصاً في مدينة إسطنبول العام 2014، تحت عنوان "الممارسات السليمة في معالجة انعدام الجنسية"، واستهدف بالحصر حلّ المشكلة في دول إقليم مجلس التعاون الخليجي.
تعتبر أقلية الروهينغيا أكبر أقلية عديمة الجنسية في العالم وتبلغ أعدادهم حوالي المليون
ولكنّ الظاهرة لا تقتصر على دول الخليج، فهناك سكان من هذه الفئة في عدّة دول عربية، من السودان، التي عرفت الظاهرة بعد انفصال الجنوب العام 2011، فبحسب تقرير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" وُجد حوالي الـ 70,000 ممن ينتمون لقبائل في جنوب السودان، ولكنهم يقيمون في شماله ولا يحملون جنسيته، وفي 25 شباط (فبراير) الماضي، أصدرت الحكومة السودانية قراراً يقضي بمنح الجنسية لأبناء السودانيات ممن ينحدر آباؤهم من جنوب السودان.
وفي الأردن، تتراوح أعداد عديمي الجنسية فيه ما بين 4,000 إلى 5,000، يتواجدون في منطقتي؛ الرويشد والصفاوي، وهم بالأساس من البدو الذين كانوا يتنقلون بين الأردن والدول المجاورة. وكان الملك الراحل الحسين بن طلال قد أمر العام 1986 بمنح هذه الفئة الجنسية؛ حيث تم تشكيل لجنة بهذا الخصوص، وحصل الأشخاص الذين قدموا أوراقاً ثبوتية على الجنسية، في حين لم يتمكن العديد منهم من تلبية شروط اللجنة. وبحسب النائب حابس الشبيب، فقد بادر مجموعة من نواب "البادية الشمالية" العام 2012 برفع القضية إلى مجلس النواب، وقابلوا الملك عبدالله الثاني بن الحسين؛ حيث طالبوا بمنح الجنسية الأردنية لهذه الفئة، وقد أمر الملك بتشكيل لجنة لحلّ القضية وتصويب الأوضاع، وكانت النتيجة أن اكتفت اللجنة بمنح جوازات سفر للتسهيل عليهم.
وفي فلسطين، يعتبر سكان "القدس الشرقية" من ضمن فئة عديمي الجنسية، وذلك بعد احتلالها العام 1967؛ حيث منحهم الاحتلال بطاقات خاصة (الهويات الزرقاء)، ولم يحصلوا على الجنسية وجواز السفر الفلسطيني.
وفي سوريا وصل عدد عديمي الجنسية إلى حوالي 160,000 قبل اندلاع الأزمة (عام 2011)؛ حيث تعتبر نسبة كبيرة من الأكراد من ضمن هذه الفئة، ويعود السبب في ذلك إلى إحصاء الحسكة العام 1962، والذي طلب من سكان منطقة الحسكة الشمالية تسجيل نفوسهم وتقديم إثباتات عن وجودهم في المنطقة منذ العشرينيات من القرن العشرين؛ حيث خسر الجنسية من لم يستوفِ شروط التسجيل، أو لم يحاول التسجيل.
في العام 2007 سجلت النيبال أعلى نسبة من خفض حالات انعدام الجنسية في العالم
ولا تغيب هذه الفئة عن مصر؛ حيث يعتبر أبناء قبيلة "العزازمة" (يتجاوز عددهم الـ 5,000) في شرق سيناء، من ضمنها؛ حيث تعتبر الحكومة المصرية بأنهم قادمون من بادية بئر السبع، كما حرمت الأقلية الدينية البهائية من الجنسية المصرية أيضاً. وكذلك عدد من القبائل في جنوب البلاد، وتحديداً في منطقتي؛ حلايب وشلاتين، كقبائل العبابدة والرشايدة.
بدون الكويت
وفي الكويت توجد المشكلة الأكبر لفئة "البدون"؛ حيث يقدر عدد سكان الكويت اليوم حوالي 4 ملايين نسمة، يشكل البدون منهم ما نسبته 3 – 4% (فيما يبلغ عدد الكويتيين حوالي 1.2 مليون، بنسبة 30% من مجموع السكان)، وهم يفتقدون أبسط الحقوق؛ حيث تتعرض الكويت للانتقاد بشكل دائم من قبل منظمات حقوق الإنسان بسبب قضية البدون.
وتعود أصول نسبة من البدون في الكويت إلى البدو الرُحّل في بادية الكويت، ممن ينتمون لقبائل عربية كبيرة كـالعنِزي، والشمريّ، وقد تم استبعادهم عند الاستقلال العام 1961 ولم يُمنحوا الجنسية؛ إما بسبب تقاعس الحكومة، كما يقول النشطاء البدون، أو بسبب عدم قيامهم بالتسجيل، كما يؤكد المسؤولون الكويتيون.
تم إنهاء مشكلة البدون البحرينيين تماماً في العام 2001 حيث حصل 10,000 شخص على الجنسية
حَمَل "البدون" في الكويت مسميات مختلفة؛ من "كويتي مقيم في البادية"، إلى "بدون"، إلى "غير كويتي"، إلى "غير محدد الجنسية"، إلى أن استقر الأمر مؤخراً على مسمى "مقيم بصورة غير شرعية". وتتركز غالبيتهم اليوم في مناطق: تيماء والجهراء والصليبية.
وبحسب إحصاء العام 1965، فقد بلغ عدد البدون 51,466، وفي العام 1975، وصل عددهم إلى 124,000، وفي العام 1990، وصل إلى ذروته ليبلغ 220,000، قبل أن ينخفض العدد بعد حرب الخليج إلى حوالي النصف ليصل إلى 116,000. وفي العام 2006 أعلنت الحكومة الكويتية بأنّ عددهم لا يتجاوز الـ 91,000، فيما تعلن الحملات المطالبة بحقوقهم بأنّ أعدادهم تتراوح من 120,000 إلى 150,000.
وبحسب الحكومة الكويتية فإنّ هناك 34,000 على أبعد تقدير لهم أمل اليوم في الحصول على الجنسية، في حين تتهم الباقين بأنهم قاموا بالتخلص من الجنسيات التي كانوا يحملونها، طمعاً منهم في الحصول على الامتيازات التي تمنحها الكويت لحاملي جنسيتها. وفي العام 2014، كشفت وزارة الداخلية عن تسجيل ما مجموعة 6,131 حالة (منذ منتصف العام 2011) لمن يحملون جنسيات دول أخرى، ولكنهم يقومون بإخفائها للمطالبة بمنحهم الجنسية الكويتية، وفقاً لوكالة الأنباء الكويتية "كونا".
اقرأ أيضاً: سورية تمنح الجنسية لمجهولي النسب
وقد ظهرت عدّة محاولات لحلّ المشكلة، خلال العقدين الأخيرين، ففي العام 2001، تم تجنيس 626 شخصاً، وفي 30/11/2007 وافق البرلمان الكويتي على مشروع قانون يقضي بتجنيس 2,000 شخص قبل نهاية العام، ولكن لم يتم تجنيس سوى 573 فرداً. ومؤخراً، في تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي 2017، وافقت الحكومة على تجنيس "ما لا يزيد عن 2,000"، بدلاً من مقترح سابق لتجنيس 4,000، مع اشتراط أن يكونوا من أبناء الكويتيات.
وكان من ضمن الحلول ما كشف عنه في العام 2014، وكيل وزارة الداخلية، اللواء الشيخ مازن مازن الجراح عن توجّه لمنح جنسية جمهورية جزر القُمر، في إطار صفقة بين الدولتين، تستفيد من خلالها جمهورية جزر القُمُر من مساعدات اقتصادية ومالية كويتية، مع تأكيده على أنّ ذلك لا يعني ترحيلهم، وإنما سيتم منحهم إقامة مجانية في الكويت، ما أثار موجة اعتراض كبيرة في حينه من قبل الناشطين البدون.
تتعرض الكويت للانتقاد بشكل دائم من قبل منظمات حقوق الإنسان بسبب قضية البدون
وفي كانون الثاني (يناير) من العام الحالي، تناقلت الصحف الكويتية تصريحاً لرئيس لجنة حقوق الإنسان في مجلس الأمة الكويتي النائب عادل الدمخي، حيث أفاد بأنه قد تم تقسيم البدون إلى ثلاث شرائح، وبأنّ اللجنة طرحت منح إحداها جوازاً بديلاً كالكندي مع تعهد بإقامة دائمة، وأن يكون (البدون) كفيلَ نفسه، مشيراً إلى أنّ وزير الداخلية الشيخ خالد الجراح الصُباح طرح بالمقابل فكرة الجواز السوداني، ولكن وزير الداخلية السوداني حامد الميرغني نفى أي أنباء تتعلق بمقترح الجنسية السودانية.
ويُشار إلى أنّ معظم البدون في الكويت كانوا يخدمون في سلكي الجيش والشرطة قبل إقدام العراق على غزو الكويت العام 1990؛ حيث طُردت غالبيتهم من الخدمة بسبب أصولهم العراقية ولاتهامهم بالتعاون مع القوات العراقية. ولكنّ الأمر اختلف مؤخراً، ففي السابع من آذار (مارس) الماضي وافق مجلس النواب الكويتي على مشروع قانون يسمح بإعادة انتظام البدون ضمن الجيش.
اقرأ أيضاً: ألمانيا تخطط لسحب جنسيتها من الجهاديين
وقد نشأت عدّة حركات للمطالبة بحقوق البدون كـ "حركة البدون الكويتية"، التي انطلقت من لندن في 15/8/2005. وفي العام 2011 تظاهر الآلاف من البدون في الكويت؛ حيث قمعت المظاهرات واعتقل العشرات منهم، وقد سجل الناشطون البدون دعاوى بتعرض المعتقلين للتعذيب والإهانة، في حين لم تقم الحكومة الكويتية بأية تحقيقات بخصوض هذه الدعاوى. وفي أيلول (سبتمبر) من العام الماضي، قام شاب من البدون بإحراق نفسه.
في السعودية
يتجاوز عدد "عديمي الجنسية" في السعودية، بحسب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين الـ 70,000. ويمثل الجانب الأكبر منهم أبناء القبائل التي لم يتم تجنيسها مع تأسيس الدولة السعودية؛ لكونهم من البدو الرُحّل، ويعرفون بـ "القبائل النازحة"؛ حيث بدأت معاناتهم عند وضع الحدود السياسية بين دول المنطقة. ومن هذه القبائل في شمال المملكة: عنزة، وشمر، وبني خالد، والأساعدة، بالإضافة إلى حلفائهم، وفي الجنوب، قبائل: آل كثير، والمصعبيين، والعوالق، وبالحارث، وقحطان، وهمدان.
اقرأ أيضاً: البحرين تسقط جنسيتها عن مدانين بالإرهاب
وقد تصاعدت مشكلة البدون في السعودية منذ مطلع الألفية؛ إذ لا يستطيعون العمل أو التعليم أو تملك منزل أو أرض، في حين حصل بعضهم على أرقام آلية وبطاقات "تنقل وعمل" للتسهيل عليهم. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 2017، أشارت مصادر سعودية إلى نية محافظة حفر الباطن صرف بطاقات هوية خاصة بـ "القبائل النازحة" بما يضمن لهم حقوقهم لدى الجهات الحكومية والمؤسسات المدنية.
وبالإضافة إلى "القبائل النازحة" هناك فئات أخرى من "البدون" في السعودية: مثل بلوش واحة البُريمي، والجاليات الإسلامية التي استوطنت مختلف مدن الحِجاز؛ كالبخارية والتركمان والبُرماوية والإندونيسية.
وتشير السلطات السعودية إلى أنّ هناك من البدون من ينتمي إلى دول أخرى، لكنهم أخفوا وثائقهم طمعاً في نيل الجنسية السعودية.
وفي نيسان (أبريل) من العام الحالي كشف مسؤولين يمنيين (في تصريح نقلته "وكالة الصحافة اليمنية") عن تجنيس الرياض حوالي الـ 30,000 منهم بالجنسية اليمنية، مُشيرين إلى أنّ بقاء هؤلاء في السعودية مسألة وقت قبل أن يتم ترحيلهم إلى اليمن، بحسب ما صرحوا.
في الإمارات
بحسب إحصائية مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين للعام 2009، فإنه يوجد في الإمارات حوالي 20,000 من ضمن هذه الفئة.
وبالعودة إلى قانون الجنسية الإماراتي لعام 1972، وبحسب المادة 17 منه، فإنّ الجنسية تُمنح لمن ثبت إقامته في "الساحل المتصالح" قبل العام 1925؛ وبناءً عليه لم يتمكن العديد من المقيمين من الحصول على الجنسية الإماراتية منذ الاستقلال؛ سواءً لعدم القدرة على الإثبات بأنهم تواجدوا قبل العام 1925، أو بسبب أنهم قدموا بعد ذلك التاريخ. ومعظم البدون في الإمارات اليوم هم من قومية البلوش، أو من المهاجرين الإيرانيين.
أعداد البدون في قطر تتراوح من 1,200 إلى 1,300 ولا يمكنهم التملك أو السفر بحرية
وتشير الباحثة الكندية، أتوسا أبراهميان، في كتابها "المواطنون العالميون" (2015) أنه منذ العام 2008 قدمت الحكومة الإماراتية عرضاً للبدون بإمكانية حصولهم على جواز جمهورية جزر القمر، وذلك كخطوة أولى، يمكنهم بعدها تقديم طلب للحصول على الجنسية الإماراتية، من خلال خيار اكتساب الجنسية كمستثمرين.
بدون قطر
بحسب إحصائية مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين للعام 2009، فإنّ أعداد البدون في قطر تتراوح من 1,200 إلى 1,300، يعانون أيضاً من المشكلة ذاتها؛ حيث لا يمكنهم التملك أو السفر بحرية، وقد عملت السُلطات القطرية على إصدار وثيقة سفر مؤقتة لهم، بحيث يتم تجديدها سنوياً، ولكن بقيت المشكلة أنّ معظم الدول لم تعترف بالوثيقة.