هل نحتاج فعلاً إلى التربية الجنسية؟

هل نحتاج فعلاً إلى التربية الجنسية؟


19/06/2018

"يرقص رقصة عشائريّة ويغنّي أغاني مدنيّة، وخلاصة الأمر نشاز"، ربما هذا التناقض الذي قبض عليه علي الوردي، وأسماه "الازدواجية"، لا يقتصر فقط على الفرد العراقي؛ بل يشمل أغلبية الأفراد في مجتمعاتنا، فالشخص الذي يفغر فاه عند طرح مفهوم التربية الجنسية، هو نفسه الذي يستنكر بقوة أيّ شكل من أشكال العنف الجنسي، مغفلاً أو متغافلاً عن أنّ العنف الجنسي هو نتيجة لغياب التربية الجنسية، مذكراً بمثل شعبي يقول: (تقذفني في النهر، ولا تريدني أن أبتل بالماء).

لا بدّ هنا من اعتراف صريح بأنّ معظم إحالات التواصل في مجتمعاتنا تشير إلى جهة واحدة، ومن الجليّ أنّ أعمق مشكلاتنا الاجتماعية تنمو في هذه الجهة المسكونة بالهواجس الجنسيّة، ولأنّ مجتمعاتنا عموماً تتّسم بالمحافظة، لم تحظ الفرويدية، إضافة إلى مجمل المدارس النفسية، بالتأييد الاجتماعي، وقد يردّ ذلك إلى أنّ هذه المدارس وُلِدت في مجتمعات تتناقض طبيعتها الثقافية مع معتقداتنا العامة، المُشكّلة لحدود الفرد والمجتمع، والتي تقوم على تغييب الوعي الجنسي، والمفارقة أنّ هذه العلاقة بهذه المجتمعات المناقضة لثقافتنا تتعين بالرفض لكلّ منتجات الغرب، المادية والمعنوية، نظرياً.

من مظاهر الازدواجية أنّ الثيمات الجنسية لمجتمعات الآخر أصبحت تشكل الذائقة العامة لأفراد المجتمعات العربية

لكن واقعياً؛ يُلاحظ أنّ الثيمات الجنسية لمجتمعات "الآخر" أصبحت تشكل الذائقة العامة لأفراد المجتمعات العربية، خاصةً بعد انفتاحها على عالم التكنولوجيا، هذا العالم الذي يعمل في جزئه الأكبر ضمن آلية تقوم بحرف الرغبات عن سياقها الطبيعي، مستغلاً غياب الثقافة والتربية الجنسية في مجتمعاتنا، ليستثمر في عقول ورغبات أفرادها، الذين يهدرون فعاليتهم في اللهاث وراء ملذات لا تضيف شيئاً على تجربة الإنسان سوى الحط من شأنها، في أفلام البورنو مثال على ذلك.

هذا ما يؤكّد أنّ علاقة وعينا بالجنس علاقة مزيّفة، يغذّي التحريم والتأثيم جانبها المشوّه؛ ففي دراسة مقارنة بين الأسرة السورية والأسرة البريطانية، أجراها "عيسى الشماس"، تضمنت أسباب عدم الإجابة الصريحة عن أسئلة الأطفال الجنسية عند الآباء والأمهات، كان التحريم هو الإجابة الأولى للأسرة السورية، ثم الإحراج والخجل، ثم نقص المعرفة. بينما في الأسرة البريطانية، كانت الإجابة الأولى هي نقص المعرفة، ثم الإحراج والخجل، ثم التحريم. هذه الإجابات التي تمثّل مجتمعين؛ الأول يتسم بالمحافظة، والآخر بالانفتاح، المرتبط، للأسف، بالتحلل من القيم الإنسانية كما يتبادر لأذهان الكثيرين، مما يحيل إلى أنّ أمراض التنشئة الجنسية ليست منوطة بمجتمع بعينه، فهي تطال المجتمعات المنفتحة كما المحافظة، على حدّ سواء، مع اختلاف أسباب وشدة هذه الأمراض، ولكن من خلال ترتيب الإجابات بحسب الأهمية، فإنّها تأخذ في المجتمعات العربية شكلاً أكثر تعقيداً؛ فالتحريم الذي كان له الأولوية هو أساس الهرم الاجتماعي والثقافي، والقيام بزعزعته هو تهديد للهرم بأكمله؛ إذ إنّ التحريم يرتبط بالإثم الذي يبعد الجنس عن طبيعته. 

علاقة وعي المجتمع الشرقي بالجنس علاقة مزيّفة يغذّي التحريم والتأثيم جانبها المشوّه

ما تغفله المجتمعات العربية بفصلها للجنس عن مراحل النمو الطبيعية، ووضعه في دائرة التحريم بسلوكيات تفتقر للمعرفة والدراية، أنّها تعيد إنتاج الفرد بصورة مشوّهة، ويمكن الاستناد إلى أقوال اثنين من أشهر العلماء النفسيين، "سيغموند فرويد، وميلاني كلاين "؛ حيث أشار إليهما "هشام شرابي"، في كتابه "مقدمات لدراسة المجتمع العربي"، ليعزّز فكرته حول تأثير غياب التربية الجنسية في النمو الذهني والعاطفي لدى الفرد.

اقرأ أيضاً: أزمة الجنس.. في المتخيّل الاجتماعي

في رسالة لفرويد إلى إحدى المجلات الطبية في فيينا، عام 1907، يقول: "إذا كان هدف المربي القضاء على مقدرة الطفل في أن يكون مستقلّ الفكر في أسرع وقت ممكن، كي يغرس فيه السلوك الحسن، فليس أجدى لتحقيق ذلك من تمويهه حول الأمور الجنسية، وذلك بإرهابه بالأفكار الدينية"، وتلتقي ميلاني كلاين مع أستاذها فرويد، لتقول: "إنّ دافع الفضول والمعرفة عند الطفل كثيراً ما يتعطل لسببين: الأول هو كبت العامل الجنسي والبدائي في حياة الطفل، الذي يصاحبه كبت أفكار وأشياء أخرى، ترتبط بنمو الطفل الطبيعي وتطور فضوله الذهني نحو الإدراك والمعرفة، والسبب الثاني ينجم عن فرض أفكار ومعتقدات جاهزة".

الفرد في المجتمعات العربية لم يتعرض لتربية جنسية إنما لتنشئة جنسية تقوم على ركيزتَي الأمر والنهي

هذه الأقوال تلخّص وضعية الفرد في المجتمعات العربية، وتشير إشارة واضحة إلى أنّه لم يتعرض لتربية جنسية، إنما لتنشئة جنسية تقوم على ركيزتَي الأمر والنهي، وهما عبارة عن محظورات يتم تلقينها لكلا الجنسين نحو بعضهما، مما يوصل لنتيجة مفادها الذكر المسيطر والفاعل، والأنثى التابعة والمفعول بها. هذه الأدوار التمييزية، كما ذكرها عبد الصمد الديالمي، تعني فقط اكتساب أدوار معيّنة في الفعل الجنسي، ولا تعني أبداً اكتساب تربية جنسية؛ أي معارف علمية، ومواقف إيجابية، وممارسات مساواتية خاصة بالسلوك الجنسي، وهذا ما يجعله يؤكد على  تجنب خطر الخلط بين التربية الجنسية والتنشئة الجنسية، هذه الأخيرة التي تُغفل أهمية كل جنس بالنسبة إلى الجنس الآخر، وجلّ ما تفعله هو الإعلاء من شأن الذكر، والحط من شأن الأنثى، وجعل القيم الذكورية المهيمنة في المجتمع، الذي ما يزال حتى اليوم يحصد نتائجها الكارثية، التي تبدأ بالعنف الجنسي اللفظي، مروراً بالانحرافات الجنسية، انتهاء بالانتساب للتنظيمات الإرهابية التي تلهب مخيلة مقاتليها بحور العين، ليشكل الجنس عاملاً مهماً من عوامل الانضمام لها.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية