عندما يعكس العمران فوضى السياسة والمجتمعات

مصر والعمران

عندما يعكس العمران فوضى السياسة والمجتمعات


28/03/2018

يستشعر المتجول في مدن العالم الإسلامي ذلك التشابه العمراني بين الأبنية، والقصور القديمة، والقلاع والحصون، وأسوار المدن، وأنّها خرجت من رحم واحدة هي "العمارة الإسلامية"، باختلافات طفيفة لا يلحظها إلّا المدقق الذوّاق لفنّ العمارة، من الهند وغرناطة، وحتى سواحل إفريقية، مروراً بمصر.

لقد عمل النظام السياسي، في كلّ زمان ومكان، على ترسيخ دعائم حكمه، عن طريق آليات التفاعل بين عناصر المجتمع المختلفة من ضمنها البنيان نفسه، فكيف عكست روح العمارة تلك العلاقة بين العمران والسياسة وطبقية المجتمعات؟

إرهاق للروح البشرية

أليس من حق المواطن أن يسهم برأيه في تصميم وتهيئة المدينة التي يقطن فيها؟ لماذا يُمنع من ممارسة هذا الحق؟ تساؤلات استهل بها ديفيد هارفي كتابه "مدن متمردة، من الحق في المدينة إلى ثورة الحضر"، ينبض بها قلب كلّ مواطن من قاطني المدن الجديدة، التي لم يجد "زيجمونت باومان" حرجاً في تسميتها بـ"مقالب القمامة".

المتأمل في معالم القاهرة القديمة يستطيع استنباط نمط حكم الأنظمة التي تعاقبت على مصر

لعلّ هذا ما يمكن استشعاره في مدينة بحجم القاهرة؛ حيث يكدح الجميع من أجل حياة عادية، وكأنّ المدينة مصممة لإرهاق الروح البشرية، واستهلاك طاقة الإنسان، كي لا يجد منفذاً للتفكير فيما يخرج عن النظام الذي قد وضعته السلطة مسبقاً، وهو ما أقرّه المعماري المصري المشهور، حسن فتحي، في كتابه "عمارة الفقراء": "هناك بليون فرد على الأقل، حول العالم، سوف يموتون مبكراً، ويعيشون حياة تعيسة بسبب الإسكان القبيح؛ غير الصحي، وغير الاقتصادي".

إذاً الأمر تخطى حاجز الرفاهية، فهو مهلكة للإنسان في عالم أصبحت الكتل الخرسانية الصماء أحد أهم معالمه، وكأنّ الجدران قد خصصت لممارسة سلطة قهرية أخرى على الإنسان، حتى وإن تمكن من الفرار من سلطة الحاكم، فلن يجد مفراً من سلطة الكتل الإسمنتية الواقع تحت أسرها.

المعماري المصري المشهور، حسن فتحي

طبقية العمران

المتأمل في معالم القاهرة القديمة، يستطيع استنباط نمط حكم الأنظمة التي تعاقبت على مصر، فالدولة الإسلامية التي اتخذت من الفسطاط عاصمةً لها، استطاعت الانفتاح على المجتمع المصري، فأعلنت بذلك أنّ مصر دولة للمصريين، بمختلف طوائفهم، شيدت الكنائس في قلب العاصمة الإسلامية، دون أن تحيط المدينة بأسوار، تمنع الناس عن رؤية الحاكم، أو تمارس نوعاً من الاستعلاء والتفرقة بين المحكومين، على غرار ما فعل الفاطميون من إحاطة القاهرة بأسوار ضخمة، لا يستطيع النفاذ إليها إلا ذوو السلطة والمقربون منها، فانعزلت بذلك عن المجتمع المصري.

استطاعت الدولة الإسلامية على اختلاف الجماعات الحاكمة أن تعكس آلية حكمها للشعب من خلال العمران

لم تتحلل من ظاهرة استعلائها إلّا قرب تهاويها، وهو ما عكف على دراسته الباحث المصري، الدكتور خالد عزب، في كتابيه "دار السلطنة في مصر"، و"الحجر والصولجان.. السياسة والعمارة الإسلامية"، فأوضح من خلال عدة دراسات، كيف استطاعت الدولة الإسلامية، على اختلاف الجماعات الحاكمة، أن تعكس آلية حكمها للشعب، من خلال العمران، ويتجلى ذلك في عدة مراحل للإنشاء، فهناك مباني السلطة، التي تمثل مقرات الحكم، وهناك مقرات مؤسسات الدولة، والتي بنيت بأطر توضح للناظرين ما تمارسه الدولة على المجتمع من سلطة، أمّا النوع الثالث، فهي بيوت العامة من الناس، وتلك خاضعة للسلطة الجماعية من قبل الناس، والتي لا تسيطر عليها الدولة، بل تتعرض لتفاعلات اجتماعية أكثر تعقيداً، بينما يمكننا القول إنّها تعكس الوضع الطبقي والمعرفي والاقتصادي للمحكومين، وينعكس ذلك من رؤية الفجوة بين بيوت الفقراء والأغنياء، ومنازل المقربين من السلطة.

صورة قديمة لميدان التحرير بالقاهرة

أسر الأرواح

استفاض ابن خلدون، عالِم الاجتماع تونسي المنشأ، في أمر العمران البشري؛ حيث تحدد الدولة وحدها شأن العمران، فيقول: "الدولة دون العمران لا تتصوَّر، والعمران دون الدولة والمُلك متعذر"، لذا فإنّ مرحلة انتقال البشرية من البداوة إلى الحضارة المكتملة، جاءت عن طريق العمران، فوحده يحدد ممارسات  الدولة، ويعبّر بنوع من الحوار الصامت، عن تلك العلاقة الخفية بين الحاكم والمحكوم؛ حيث يأتي التفاعل بين العوامل النشطة اجتماعياً، ليتم تشكيله طبقاً لقواعد السلطة.

تؤثر العمارة في سلوك الناس دون وعي منهم وتظل هذه العلاقة الخفية هي ما يربطهم بالسلطة

هذا بدوره يسوق إلى التشكيلة العمرانية للعديد من المؤسسات، وفي مقدمتها السجن؛ في نظر ميشيل فوكو يخضع الإنسان في السجن لمنظومة المراقبة الشاملة، وتصمم بنية السجون بما يجعل الأشخاص في وضع مُحكم السيطرة على أجسادهم وأرواحهم، من أجل هذا تصنع الغرف ضيقة، والأسقف منخفضة تكاد تخنق أصحابها، وهو ما يمكن مشاهدته في منازل كثير من الفقراء، التي لا تختلف كثيراً عن نزل السجون، فهي تخنق أصحابها، ربما لا يستطيعون رؤية الشمس، يظلون أسرى للكتل الخرسانية الصماء التي تعوق حركتهم، وتعرقل حركة الطبيعة، حتى الشمس والهواء يعجزان عن اختراقها، فتبدو المساكن وكأنها "علب سردين"، كما سمّاها والتر بينجامين، في أحد حواراته.

نتيجة لتلك العوامل المختلفة؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تحولت العمارة من سيطرة الناس على كيفية سيرها، إلى أمر مؤسسي "ديوان الأشغال"،  فقد تولّت الدولة الأمر؛ حيث أقرت أجهزة رقابية على حركة العمران، وتنظيم الإسكان، ليتجلى العامل الاقتصادي، وهو إتاحة المنازل الفاخرة لأصحاب الأموال فحسب، وتظل منازل الفقراء، حبيسة هذا الفائض الاجتماعي من الأرض والموارد.

أثر العمارة في السلوك

تؤثر العمارة في سلوك الناس وتصرفاتهم، دون وعي منهم، وتظل هذه العلاقة الخفية هي ما يربطهم بالسلطة، دون إدراك ماهية هذا الرابط؛ لذا تسعى السلطة لبلورة المجتمع كما تريد، ويتجلى ذلك في مجتمعاتنا الحديثة، مجتمع ما بعد الحداثةPost Modernism" "، تحول العالم بأسره من المدرسة الجمالية في العمارة، إلى المدرسة الوظيفية، وكان السوفييت أوّل من انتهج تلك المدرسة، فتحولت فكرة المنازل الكبيرة إلى شقق سكنية صغيرة، منخفضة الأسقف، متعددة الطوابق، وصارت مؤسسات السلطة طوابق إسمنتية، شاهقة الارتفاع، مكدسة الأوراق، يختنق المواطن بين جدرانها، وتعصف به البيروقراطية أينما حلّ.

ولعلّ تلك العشوائية التي صاحبت الحداثة، كانت نتاجاً مختلطاً بين الواقع الاجتماعي والاقتصادي، وانعكاساً لصراع طبقي تعيشه المجتمعات بمختلف أماكنها، ويتجلى هذا الأمر في مصر التي أصبحت عمارتها تعكس حدّة الصراع الطبقي.

العشوائية التي صاحبت الحداثة كانت نتاجاً مختلطاً بين الواقع الاجتماعي والاقتصادي وانعكاساً لصراع طبقي تعيشه المجتمعات

هذا ما أوضحه لـ"حفريات" ، نقيب المهندسين المصريين سابقاً المهندس الدكتور وائل ذكي، المتخصص في عمارة العشوائيات، قائلاً: "ترتبط العمارة ارتباطاً وثيقاً بالحالة الاجتماعية للناس، وما نشهده من فوضى وعشوائية في المعمار، ليس إلا وجهاً من أوجه التشوه الفني والركاكة التي نعيشها، ويعكس الحالة الاقتصادية للمجتمع بشكل عام، وفي عالم يتقلص فيه دور الدولة، ليفسح المجال أمام الشركات العملاقة، يتحوّل مفهوم الإسكان من خدمة وجب على الحاكم تقديمها للمجتمع، إلى سلعة يتم توفيرها طبقاً للضوابط المالية التي تحكم البائع والمشتري، وتصبح حرية السوق هي المتحكم الأكبر في حالة الإسكان التي يعيشها المجتمع".

ويتابع "لذلك نرى في مصر، مجتمعات موازية، فهناك الهوية المؤسسية التي أصبحت تميز البنايات، وتعكس إلى أيّ طبقة ينتمون، وهنا تتجلى الفروق الصارخة، ففي قمة الهرم يتجلى سكان التجمعات السكنية بمنازل فارهة، وفي قاعه يبقى سُكان العشوائيات، التي لا يجدون عنها بديلاً؛ حيث تحوّل الحق في السكن إلى سلعة لمن يدفع مقابلها، وهو ما يظهر الصراع الطبقي في مصر، دون التطرق إلى الكلمات، فالمشاهد وحدها تنطق بما يعجز عنه اللسان".

عشوائيات في القاهرة

فوضى العولمة

يقول المعماري المصري حسن فتحي "الحداثة لا تعني بالضرورة الحيوية، والتغير لا يكون دائما للأفضل"؛ تأتي الثورات الاجتماعية اعتراضاً قوياً على واقع يعصف بحقوق الأغلبية لمصلحة أقلية منتفعة، ولعل ما شهدناه في 2011، من انتفاضات في العديد من البلدان العربية، كان صفعة لمواجهة أنظمة اعتقدت أنّها رسخت مبادئ حكمها، وصارت تتحكم بالبشر، لكن الشعوب أثبتت أنّها على دراية كاملة بهذا الأمر؛ ففي تونس أحاط المتظاهرون بمباني الشرطة، في كلّ المدن، وشلّوا حركة الشوارع، وحاصروا السلطة، وهو ما حدث في مصر أيضاً، بعدما اجتمع المتظاهرون في ميدان التحرير، وقرروا مواجهة السلطة، وحصار المباني الحكومية، وأقسام الشرطة في مُختلف الأحياء والمحافظات، لقد أدرك الناس كيف يمكنهم مواجهة السلطة دونما خوف، وفكّ هذا الحصار المفروض عليهم.

يعيش بالقاهرة أكثر من 7 ملايين في المقابر والعشوائيات حيث الاستثمارات بالعقارات هو الأضخم

لعلّ ما نعيشه اليوم؛ من الشعور بالاغتراب والقلق الذي يعصف بحياة البشرية، كان جراء العولمة التي فرضت نفوذها على العالم، ولم يلذ أحد بالفرار منها، هذا ما ناقشه الباحث "أوليج جرابار"، في كتابه "العمارة والقوة"، قائلاً:"الحق في المدينة هو مطلب، أو صرخة، تطلقها الشوارع والأحياء، والفاعلون داخلها من مقموعين في أزمنة اليأس. هنا بالذات يطرح دور المثقف في نجدة هؤلاء المقموعين وإغاثتهم، والاستجابة لصرخاتهم ومطالبهم".

عوالم موازية

لقد خلقت العولمة عوالم موازية، وصنعت فجوة كبيرة بين الطبقات، ولأنّ الأزمة عالمية، فالأمر يستحق الوقوف قليلاً، لقد أتاحت العولمة نظاماً جديداً، يستطيع اجتذاب السلطة والمال في أحد أقطاب المجتمع، ويبقى القطب الآخر مجرداً من أبسط مقومات الحياة، وهو ما أكدته الكاتبة الكندية "ناعومي كلاين" التي ناقشت اتساع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، خلال حقبة السبعينيات، بعد هيمنة عصر جديد من الانفتاح الاقتصادي والعولمة، التي تجردت فيها الدولة من أبسط أدوارها تجاه المحكومين، وصار البسطاء من الناس، فريسة للنظام العالمي، وللشركات العابرة للقارات التي تتحكم في كلّ ما يمتلكه الإنسان العادي، ولعلّ تجلّي هذا الأمر يتضح من وضع حياة الناس وبنيانهم، والازدواجية التي اتسمت بها المجتمعات الحديثة.

في مدينة القاهرة، يعيش أكثر من 7 ملايين شخص في المقابر والعشوائيات، وفي المدينة ذاتها تعدّ الاستثمارات العقارية أضخم استثمارات في المدينة، هنا يتجلى قبح العولمة، التي جعلت الحق في الحياة سلعة، لن يشتريه سوى ذوي السلطة والنفوذ.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية