بين السياسة والإيديولوجيا... لماذا ثار المصريون على الإخوان؟

بين السياسة والإيديولوجيا... لماذا ثار المصريون على الإخوان؟

بين السياسة والإيديولوجيا... لماذا ثار المصريون على الإخوان؟


11/12/2024

لا شك أنّه سوف يصيبك كثير من الحيرة، وسوف يبدو أمامك عدد من علامات الاستفهام، وكثير من علامات التعجب، عندما تقف متأملاً ومقارناً بين مشهدين؛ متقاربين من حيث الزمن، متباعدين من حيث الأثر والدلالات؛ المشهد الأول مشهد الجموع المحتشدة في ميدان التحرير في 29 حزيران (يونيو) عام 2012 عندما أدى محمد مرسي عضو جماعة الإخوان اليمين أمام تلك الجموع التي تضم، بجانب أتباعه الذين رأوا أنّ مرحلة التمكين قد بدأت، الكثير أيضاً ممّن لا ينتمون إلى الجماعة، ولكنّهم كانوا يأملون في أن ينجح في تحقيق أهداف الثورة، والمشهد الآخر هو مشهد الجموع المحتشدة أيضاً في 30 حزيران (يونيو) 2013، لكن هذه المرة غاضبة ومطالبة برحيل الرئيس وجماعته عن الحكم، وإبعاد التيار الإسلامي عن المشهد السياسي برمته!

بين المشهدين وقعت أحداث كثيرة، وحدثت تحولات كبيرة، كانت سبباً في تغير الموقف من الجماعة ومن التيار الإسلامي بشكل عام، من تأييد أو ترحيب أو مجرد قبول بتواجدهم وإعطائهم فرصة العمل العلني، إلى رفض الاستمرار في الحكم والمطالبة بالإبعاد عن المشهد.

يقدم الإسلاميون تفسيرات لتلك المفارقة، تدور ما بين الحرب على الإسلام، والصراع بين الدولة العميقة وقوى الثورة، والصراع بين الحكم العسكري والمدني، ويقدم معارضو الجماعة تفسيرات تركز على الفشل في إدارة الدولة بشكل أساسي، ومن ناحية أخرى على الخلاف الإيديولوجي مع الجماعة والحركة الإسلامية كلها من حيث الأفكار والأهداف والمشروع، لكن في المقابل منذ عام حكم الجماعة حتى اليوم لم تفطن الحركة الإسلامية إلى العيوب الذاتية الكامنة في بنيتها التنظيمية والفكرية التي انعكست على ممارساتها السياسية وخطابها الديني، وهذه طبيعة الإسلاميين بشكل عام، حيث الأحكام المطلقة، والاعتقاد بامتلاك الحقيقة دون غيرهم، ورفض النقد الذاتي لاعتقادهم بأنّ أيّ نقد لهم ولأفكارهم إنّما هو نقد للدين! 

 سقوط سريع من الحكم

والسؤال الذي نود طرحه هنا هو: هل فشل الإخوان في الحكم يعود بصفة أساسية إلى عوامل ذاتية وعيوب في بنية الجماعة والتيار الإسلامي، أم أنّه يعود إلى عوامل خارجية؟ وهل كان هناك رفض مطلق للإخوان وللإسلاميين عموماً منذ الثورة من جانب التيارات السياسية والفكرية المختلفة ومن المجتمع، وبالتالي كانت لحظة الرفض واقعة حتماً، أم أنّ خطاب وممارسات الجماعة والتيار الإسلامي هي التي ساهمت في تحول الكثيرين من الترحيب أو القبول المبدئي إلى الرفض؟ 

الإخوان بين القبول والرفض المطلق

الرواية المريحة للإسلاميين عموماً، ولجماعة الإخوان خصوصاً، والتي تقدم بها تفسيراً لما حدث لها من سقوط سريع من الحكم، وتقدم بها تبريراً يعفيها من أيّ مسؤولية عمّا حدث أمام أتباعها وأنصارها، هي أنّ ثمّة مؤامرة على المشروع الإسلامي الذي تمثله الجماعة، وأنّ هناك عداوة مسبقة ورفضاً مطلقاً من كافة القوى السياسية والتيارات الفكرية وأجهزة الدولة تجاه الجماعة؛ ومن ثم تمّت صناعة المؤامرة واتخاذ كل السبل التي تساهم في إفشال الجماعة وتحول دون استمرارها في السلطة. 

بينما بالنظر إلى العديد من الأحداث سوف نجد أنّ موقف التيارات السياسية، وشريحة كبيرة في المجتمع، من الإخوان أثناء الثورة وبعدها لم يكن يعكس رفضاً مطلقاً من الجماعة ومن حضورها في المشهد العام، ولكن كان هناك قبول مبدئي بذلك الحضور، ومن أمثلة ذلك إشادة العديد من الشخصيات السياسية والإعلامية من موقف الإخوان في ميدان التحرير، وخاصة فيما يُسمّى بـ "موقعة الجمل"، مثل مصطفى بكري وإبراهيم عيسى ونجيب ساويرس ومصطفى الفقي وبلال فضل وشادي الغزالي حرب، وكذلك وصف المخرج خالد يوسف للإخوان بأنّهم جزء من نسيج الوطن، وذلك في كلمة له على المنصة أثناء الاعتصام في ميدان التحرير، ومن المواقف الدالة أيضاً انخراط حزب الحرية والعدالة مع (40) حزباً آخر في "التحالف الديمقراطي" من أجل خوض انتخابات مجلس الشعب التي أعقبت الثورة، أيضاً دعم عدد من الشخصيات وممثلي الأحزاب والتيارات السياسية للجماعة ولمرشحها محمد مرسي في انتخابات الرئاسة فيما عُرف بـ "اتفاق فيرمونت"، كذلك من المواقف الدالة على القبول المبدئي للجماعة حصولها على أصوات عدد كبير من الناخبين في عدد من الاستحقاقات؛ بدءاً من الاستفتاء على الإعلان الدستوري في آذار (مارس) 2011، وانتخابات مجلسي الشعب والشورى، وفي انتخابات الرئاسة.

هل فشلُ الإخوان في الحكم يعود بصفة أساسية إلى عوامل ذاتية وعيوب في بنية الجماعة والتيار الإسلامي، أم أنّه يعود إلى عوامل خارجية؟

لكنّ هذا الموقف حدث فيه تحول بعد فترة قصيرة من تنحي مبارك، فقد بدأ الكثيرون في تغيير نظرتهم إلى الجماعة وإلى التيار الإسلامي بشكل عام، واتخاذ موقف معارض ورافض للكثير من الممارسات، والسبب الرئيس في ذلك هو خطاب التيار الإسلامي نفسه بعد الثورة، سواء الخطاب السياسي أو الديني، بجانب ممارسات المنتمين لهذا التيار، فقد شعر أفراد التيار الإسلامي بأنّ الثورة قد منحتهم مساحة واسعة من الحرية، وتولد لديهم إحساس بأنّ مرحلة التمكين التي ينتظرونها والتي يتناولونها في أدبياتهم قد بدأت، وسوف تكون الأعوام القادمة لهم؛ فزاد حضورهم في المجتمع، وأصبحوا أكثر صراحة ووضوحاً وجرأة في التعبير عن أفكارهم ورؤاهم للقضايا المختلفة، فانكشف ما بها من عيوب ومشكلات، وظهرت رؤيتهم الأحادية الإقصائية التي تنطلق من الاعتقاد بامتلاك الحق المطلق ورفض الآخر ووسمه بأنّه مخالف للإسلام ومعادٍ للمشروع الإسلامي، وبدا خطابهم متّسماً بالغلو والغرور والتطرف وتهديد الآخرين بالعنف أحياناً، وبدا التيار الإسلامي منفصلاً عن القضايا التي تتصل بحياة الناس وواقعهم، وأنّه غير مبالٍ بتطلعاتهم نحو حياة أفضل بعد عقود من الفساد والاستبداد، وأنّه مهتم فقط بقضية الهوية وتطبيق الشريعة، فدخل في سجال مع التيارات الأخرى، وخلق حالة من الاستقطاب والخلاف ساهمت في تعميق أزمة المجتمع.

السقوط من الحكم بين السياسة والإيديولوجيا

لا شك أنّ الأزمات السياسية والاقتصادية التي صاحبت تجربة الإخوان في الحكم كان لها دور رئيسي في المطالبة بإسقاطهم من الحكم ورفض استمرارهم، ولا شك كذلك في أنّ عدداً من تلك الأزمات ما يزال مستمراً حتى اليوم رغم رحيل الجماعة ومرور أعوام، وقد ظلت لفترة طويلة تلك الأزمات تمثل المبرر الذي يسوقه معارضو الجماعة لتبرير إسقاطها والثورة ضدها، لكن في الواقع ليس عجز الجماعة عن إدارة الدولة وخاصة ملف الاقتصاد هو السبب الرئيس في معارضة شريحة من المجتمع لها، لكنّ السبب الرئيس كان متعلقاً بمشروع الجماعة وبنيتها التنظيمية والفكرية، بمعنى أنّه متعلق بعوامل ذاتية خاصة بالجماعة، وليس بها فقط ولكن بالتيار الإسلامي بشكل عام، حيث إنّ كل التنظيمات والتيارات الإسلامية تشترك في المنطلقات الفكرية وفي المشروع الذي تحمله، بينما يفرّق بينها اختلاف في بعض التفاصيل والجزئيات.

الأزمات السياسية والاقتصادية التي صاحبت تجربة الإخوان في الحكم كان لها دور رئيسي في المطالبة بإسقاطهم من الحكم ورفض استمرارهم

ومن أبرز هذه العوامل الذاتية؛ طبيعة الجماعة والطريقة التي تساهم بها في تربية أفرادها وتكوينهم فكرياً ونفسياً، فهي جماعة تقوم على فكرة السمع والطاعة والثقة المطلقة في القيادة، وتنتج أفراداً تابعين لا يمتلكون مهارة التفكير النقدي ولا الإرادة، كما أنّ الجماعة تفتقد لمناخ الحرية بداخلها، وتعتمد على ثقافة القهر والإجبار؛ وبالتالي لم تكن هي النموذج الذي يحقق آمال الناس بعد الثورة في دولة مدنية ديمقراطية يتوافر بها مناخ من الحرية، ومن العوامل أيضاً نموذج الدولة التي يسعى إليها الإخوان وكل التنظيمات الإسلامية، وهي الدولة القائمة على العقيدة التي لا تعترف بالمواطنة، وتمارس وظيفة دينية تتمثل في نشر الدين سواء في الداخل أو الخارج، كما أنّ مشروع الجماعة قائم على الوصول إلى دولة الخلافة التي لا تعترف بالدولة الوطنية، وترى فيها مجرد حلقة في سلسلة أو مرحلة تؤهل للوصول إلى تلك الدولة الكبرى، ولهذا لا يتمتع أفراد الجماعة والتنظيمات الإسلامية الأخرى بالشعور بالانتماء إلى الدولة التي يعيشون فيها، ولكن إلى تلك الدولة المنشودة التي من الممكن التضحية بمصلحة الدولة الوطنية من أجلها، ويترتب على ذلك أيضاً أنّ الجماعة تتمتع بتحالفات وارتباطات خارجية بدول وكيانات خارج حدود الدولة الوطنية لخدمة مصالح الجماعة التي ترى فيها مصلحة الإسلام التي تعلو على أيّ اعتبارات أخرى، وهذه الأمور تجعل من وجود تنظيم كالإخوان على رأس السلطة في مصر مصدر قلق على مصالح الدولة وهويتها واستقلالها.

في دراسة بعنوان "الحركات الإسلامية والسلطة: تقييم تجارب حكم الإسلاميين بعد الثورات" للدكتور نصر محمد عارف، يتناول في جانب منها تجربة الإسلاميين في الحكم في مصر بعد الربيع العربي، ويبرز عدداً من العوامل الذاتية التي تتمثل في العيوب البنيوية التي تتمتع بها جماعة الإخوان والحركات الإسلامية بشكل عام، والتي كانت سبباً رئيسياً في المطالبة بإسقاطها ورفض استمرارها في السلطة، ومن هذه العيوب مركزية الحكم في عقل الحركة الإسلامية، حيث يرى أنّ جماعة الإخوان منذ اليوم الأول وهي تختزل الإسلام في السياسة، وتختزل السياسة في الحكم والوصول إلى السلطة، وتربط الإصلاح بالسلطة وتجعل الإصلاح غير ممكن إلا من أعلى من الدولة، وربما هذا كان بداية فشل التجربة حيث دفع هذا الاعتقاد وهذه الرؤية الجماعة إلى الحرص على المنافسة على منصب الرئيس بعد الثورة في لحظة وظرف تاريخي لم يكن من المناسب فيه هذه المنافسة، ولم تكن الجماعة ذاتها مؤهلة لذلك، والعيب الثاني الذي يراه الدكتور نصر عارف هو نمط التفكير السلفي الذي تتسم به الجماعة كباقي مكونات الحركة الإسلامية، والذي جعلها "تتعامل مع عملية الوصول إلى السلطة بعقلية جبرية، تستدعي أدبيات المدارس العقائدية التي ظهرت في القرن الثاني الهجري في العصر الأموي، مثل الجبرية التي كانت تبرر الحكم الأموي على أساس أنّ امتلاك السلطة هو قدر إلهي، أو عطية ربانية انطلاقاً من الآية القرآنية "قل اللهمّ مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممّن تشاء"، وربما هذا ما جعل الجماعة لا تبالي بالمعارضة ولا تتخذ حلولاً لنزع فتيل الأزمة السياسية القائمة آنذاك، كما يذكر من عيوب الجماعة أنّها كانت تدير الدولة بمنطق الجماعة، فكانت حريصة على عدم الاستعانة بكوادر الدولة القادرة على إدارتها والتي تمتلك الخبرة في ذلك، والعمل على استبدالها بكوادر إخوانية لا تملك أيّ خبرة أو سابقة في إدارة الملفات المختلفة، وليس لها من المؤهلات سوى أنّها قيادات في الجماعة لديها خبرات تنظيمية، وهو ما يصفه بأنّه تعجل الجماعة في تنفيذ سياسة التمكين، أيضاً من أبرز عيوب الجماعة المذكورة في الدراسة السقوط الأخلاقي لأفراد وقيادات الجماعة عند الممارسة العملية وإتاحة الفرصة للعمل العلني أمامهم، واهتزاز الصورة النمطية التي كانت ترسخها الجماعة عن نفسها من أنّها جماعة ربانية متميزة أخلاقياً عن الآخرين.

الدكتور نصر محمد عارف

إذاً كانت المشكلة الأساسية التي أودت بالجماعة إلى حالة الفشل، وأسقطتها من علياء السلطة، كامنة في العقل الإخواني وفي عقل الحركة الإسلامية بشكل عام، والذي انعكس على خطابها الديني وممارساتها السياسية بعد الثورة وأداء الجماعة في الحكم، وربما يكون من المناسب هنا أن أستعير بعض كلمات من كتاب "الحقيقة الغائبة" للدكتور فرج فودة للتعبير عن هذه الحالة وتلك التجربة حيث يقول: "هؤلاء قوم كرهوا المجتمع، فحق للمجتمع أن يبادلهم كرهاً بكره، ولفظوه، فحق له أن يلفظهم، وأدانوه بالجاهلية، فحق له أن يدينهم بالتعصب وانغلاق الذهن، وخرجوا عليه، فحق له أن يعاملهم بما اختاروه لأنفسهم، معاملة الخارجين على الشرعية والقانون، ووضعوا أنفسهم موضع الأوصياء على الجميع، وهم أولى الناس بأن يعاملوا معاملة المحجور عليه، وهم من قبل ومن بعد أساؤوا للإسلام ذاته حين ادّعوا عليه بما ليس فيه، وأظهروا منه ما ينفر القلوب، وأعلنوا باسمه ما يسيء إليه، وأدانوه بالتعصب، وهو دين السماحة، واتهموه بالجمود، وهو دين التطور، ووصموه بالانغلاق، وهو دين التفتح على العلم والعالم، وعكسوا من أمراضهم النفسية عليه ما يرفضه كدين، وما نرفضه كمسلمين".




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية