لطالما أدركت جماعة الإخوان المسلمين أنّ التعليم يشكّل أحد أهم مفاتيح التأثير على الأجيال القادمة وصياغة العقول والوعي الجمعي. ومنذ نشأتها في عام 1928 سعت الجماعة إلى بسط نفوذها على المؤسسات التعليمية في مصر، باعتبارها أدوات حاسمة لنشر إيديولوجيتها السياسية والدينية. ومع صعودها إلى الحكم عام 2012 بعد ثورة 25 كانون الثاني (يناير)، ظهر هذا التوجه بوضوح في السياسات والقرارات المتعلقة بقطاع التعليم.
أهمية التعليم في فكر الإخوان المسلمين
منذ تأسيسها على يد حسن البنا أولت جماعة الإخوان المسلمين أهمية خاصة للتعليم كوسيلة للتغلغل في المجتمع المصري ونشر فكرها، ورأت الجماعة أنّ السيطرة على المناهج التعليمية وتوجيهها بما يتماشى مع رؤيتها سيضمن ولاء الأجيال القادمة لمشروعها الفكري والسياسي، ولم يكن التعليم بالنسبة إلى الجماعة مجرد أداة لنشر المعرفة، بل وسيلة لتحقيق مشروعها "الأممي" القائم على إقامة نظام سياسي مستمد من رؤيتها للشريعة الإسلامية.
ركزت الجماعة على استقطاب المعلمين وإعداد كوادر تعليمية داخل صفوفها، حيث تم تدريبهم على استخدام التعليم كوسيلة لبث الأفكار، وحرصت على تعزيز وجودها في النقابات التعليمية والجمعيات المعنية بتطوير التعليم لضمان التأثير في القرارات التعليمية الوطنية.
محاولات السيطرة على المناهج الدراسية
خلال فترة حكم الرئيس المعزول محمد مرسي وضعت الجماعة يدها على قطاع التعليم من خلال وزارة التربية والتعليم، وقد جرى استهداف المناهج الدراسية بحملة تعديلات هدفت إلى تعزيز دور الدين في التعليم وإبراز أفكار الجماعة بصورة غير مباشرة.
ومن أبرز الأمثلة إزالة بعض الشخصيات والوقائع التاريخية التي تتعارض مع إيديولوجية الجماعة أو تلك التي قد تظهر قيماً وطنية مناقضة لأهدافها، في المقابل سعت الجماعة لإبراز شخصيات ذات ارتباط بالفكر الإسلامي السياسي، وإعادة صياغة بعض الدروس لترسيخ مفهوم الولاء للتيارات الدينية بدلاً من الدولة الوطنية.
تجنيد الطلاب داخل المدارس والجامعات
لم تكتفِ جماعة الإخوان بالتأثير على المناهج الدراسية، بل عملت أيضاً على تجنيد الطلاب منذ المراحل الدراسية الأولى. واعتمدت الجماعة على أساليب عدة؛ منها تنظيم أنشطة لا صفية مثل الندوات والمعسكرات التي تضمنت محتوى يحمل رسائل إيديولوجية مباشرة.
كما استهدفت الجماعة الجامعات باعتبارها مراكز لصياغة النخب المستقبلية، وتمكنت من تعزيز وجودها في الاتحادات الطلابية والسيطرة على بعض الأنشطة الجامعية بهدف توجيه الطلاب نحو الانخراط في تنظيمها أو على الأقل التعاطف مع أفكارها.
علاوة على ذلك سعت الجماعة إلى تعزيز وجودها في الهيكل الإداري للوزارة والمؤسسات التعليمية، وتم تعيين قيادات تنتمي إلى الجماعة في مناصب قيادية داخل وزارة التربية والتعليم، ومديريات التعليم، وحتى إدارات المدارس. والهدف كان السيطرة على القرارات الإدارية والتنفيذية وضمان توجيهها بما يخدم أجندة الجماعة.
تبنت هذه المدارس مجموعة من الاتجاهات المتشددة والطائفية، وذلك من خلال فرض الحجاب على الأطفال، وحظر التحاق التلاميذ المسيحيين بها، والتحذير من التعامل معهم، وتكثيف الدروس الدينية والأناشيد الإخوانية الحماسية، والصلاة الجماعية في فناء المدرسة، ومنع الاختلاط بين الجنسين حتى في مراحل التعليم الابتدائي، والاستعاضة بالأناشيد الإسلامية بدلاً من النشيد الوطني.
وفي عهد محمد مرسي ظهرت محاولات واضحة لتسييس التعليم عبر إدماج كوادر إخوانية في المناصب الإدارية العليا، مثل تعيين عدد من القيادات الإخوانية كمساعدين للوزراء ومديري المديريات التعليمية.
وقد أثارت محاولات الإخوان السيطرة على التعليم موجة من القلق والرفض بين قطاعات واسعة من الشعب المصري، ورأى كثيرون أنّ هذه السياسات تهدف إلى تقويض الهوية الوطنية واستبدالها بهوية طائفية حزبية.
كما تصاعدت الانتقادات من الخبراء في مجال التعليم الذين حذّروا من أنّ إضفاء الطابع الإيديولوجي على المناهج سيؤدي إلى تراجع جودة التعليم وتشويه القيم الوطنية لدى الطلاب، ومع سقوط حكم الجماعة في تموز (يوليو) 2013، تم الكشف عن حجم التدخلات التي أجرتها الجماعة في قطاع التعليم، وبدأت الجهود لتصحيح هذه المسارات.
الاستثمار الإسلامي في التعليم
بحسب الدكتور سامح فوزي، كبير الباحثين بمكتبة الإسكندرية، في دراسته المنشورة عبر موقع "تريندز للبحوث والاستشارات"، رافق إفساح الرئيس الراحل محمد أنور السادات المجال أمام جماعة الإخوان المسلمين، والجماعات الإسلامية الأخرى، تبنيه سياسة الانفتاح الاقتصادي؛ ممّا شجع القطاع الخاص "الإسلامي" على العمل في مجالات عدة. ومن هنا دخل التعليم ما يمكن أن نطلق عليه "منطقة الصيد" Catching Area، أي صراع أطراف عديدة من أجل الاستحواذ والهيمنة عليه، وتحقيق الكسب المادي.
كان جُلّ نشاط الجماعات الإسلامية في الجامعات في هذه المرحلة، أي مؤسسة التعليم العالي، بهدف تقليم أظافر الشيوعيين والناصريين الذين كانوا يؤرقون الرئيس السادات، وفي الوقت نفسه اتجهت البرجوازية "الإسلامية" الصاعدة، إن صحّ التعبير، إلى الاستثمار في مجال التعليم ما قبل الجامعي، أي المدارس.
وانطلاقاً من هذا ظهر العديد من المدارس والحضانات "الإسلامية"، التي دشنت ما يُسمّى النموذج الإسلامي في التعليم حتى قبل التحاق الطفل بالتعليم النظامي. واهتم عمر التلمساني، مرشد الإخوان المسلمين في ذلك الحين، بإنشاء المدارس التابعة للإخوان، فبدأها بمدارس "المنارات الإسلامية"، وظهرت تباعاً مدارس إسلامية عديدة؛ مثل "الجيل المسلم"، و"الدعوة الإسلامية"، و"التربية الإسلامية"، و"الرضوان"، و"المدينة المنورة"، و"أمجاد"، و"الفتح الإسلامي"، و"الزهراء"، وغيرها من المدارس التي نشأت في القاهرة والإسكندرية ومحافظات الوجه البحري، التي أسستها شخصيات تابعة لجماعة الإخوان مباشرة، أو جمعيات أهلية أنشأتها.
وتبنت هذه المدارس مجموعة من الاتجاهات المتشددة والطائفية، وذلك من خلال فرض الحجاب على الأطفال، وحظر التحاق التلاميذ المسيحيين بها، والتحذير من التعامل معهم، وتكثيف الدروس الدينية والأناشيد الإخوانية الحماسية، والصلاة الجماعية في فناء المدرسة، ومنع الاختلاط بين الجنسين حتى في مراحل التعليم الابتدائي، والاستعاضة بالأناشيد الإسلامية بدلاً من النشيد الوطني مثل "بلادي بلادي... سأرويكِ حين الظما بالدم... وربِّ العقيدة لن تُهزمي... ومَن أكمل الدين للمسلمين... سنحمي الجبالَ وتلك التلال... ويحيا الجهادُ، وبه يُكتب النصر للمسلمين".
واتجهت المدارس والحضانات الإسلامية إلى تدريس مناهج إسلامية إضافية، واللافت أنّ هذه المناهج حصلت على إذن رسمي بالتداول من وزارة التربية والتعليم في فترة من الفترات، ويشير الباحث في هذا السياق إلى كتابين من إصدار "دار سفير"، وهي دار تملكها قيادات إخوانية، ومتخصصة في نشر المطبوعات الإسلامية عامة، والمعبِّرة عن إيديولوجية الجماعة بصفة خاصة. أمّا الكتاب الأول، فهو "المسلم الصغير"، الذي حصل على موافقة وزارة التربية والتعليم عام 1988، والذي يدشّن أسلوباً اجتماعياً إسلامياً يتعين على التلميذ انتهاجه، مثل الأدعية الخاصة عن التثاؤب، والدخول إلى دورات المياه، والزي الواجب ارتداؤه، وغيرها من الموضوعات التي تشكل وجدان الطفل على شاكلة الصورة النمطية للعضو في التنظيم الإسلامي.
وأمّا الكتاب الثاني، فهو مخصص لتفسير آيات دينية، وقد أشار المؤلف فيه إلى أنّ المسيحيين واليهود من المغضوب عليهم والضالين. وقد وُزّع الكتاب على التلاميذ الصغار في المرحلة الابتدائية، وهي سنّ تكوين الاتجاهات الأساسية، وتشرُّب المعايير والقيم الثقافية. وعليه، فإنّ تكوين طفل يحمل وجدان الحركات الإسلامية في الصغر، هو بالتأكيد مشروع "راديكالي" في المستقبل، سواء حمل السلاح أو لم يحمله.
ويُظهر استغلال جماعة الإخوان المسلمين للتعليم مدى إدراكها لأهمية هذا القطاع في تحقيق أهدافها الفكرية والسياسية. ورغم الجهود التي بذلتها الجماعة خلال فترة حكمها لتوجيه التعليم لخدمة أجندتها، إلا أنّ سقوطها كشف النقاب عن أبعاد هذا المخطط وأتاح الفرصة للدولة المصرية لإعادة تصحيح المسار. وتبقى قضية التعليم في مصر مرتبطة دائماً بالحفاظ على الهوية الوطنية، وبناء مجتمع قائم على العلم والتعددية، بعيداً عن التوظيف السياسي أو الإيديولوجي.