
شهدت سوريا تحولات جذرية خلال العقود الماضية، فقد هيمن النظام السوري بقيادة عائلة الأسد على الدولة لأكثر من (50) عاماً، ممّا جعلها نموذجاً للاستبداد السياسي والإقصاء المجتمعي، إلا أنّ سقوط النظام في عام 2024 أحدث فراغاً سياسياً وإيديولوجياً معقداً، يثير تساؤلات حول مستقبل البلاد ودور القوى المختلفة، بما في ذلك الإسلام السياسي، في ملء هذا الفراغ. في هذا السياق تتناول دراسة حديثة صادرة عن مركز (إيجيبشن إنتربرايز للسياسات والدراسات الاستراتيجية) تاريخ الإسلام السياسي في سوريا، وأبرز تنظيماته، وتحدياته الراهنة والمستقبلية، لتوفير فهم أعمق لدوره في مستقبل سوريا ما بعد الأسد.
الإخوان المسلمون: من المعارضة إلى المقاومة
تأسست جماعة الإخوان المسلمين في سوريا عام 1945 كجزء من الحركة الأم في مصر، وسعت إلى تغيير سياسي واجتماعي في ظل أنظمة قمعية. ومنذ البداية ركزت الجماعة على بناء قاعدة شعبية بين طبقات المجتمع المختلفة، مستخدمة التعليم والخدمات الاجتماعية وسيلة لكسب التأييد الشعبي، وقد تميزت علاقتها مع النظام السوري، وفق الدراسة، بالتوتر المستمر، حيث استغلت الجماعة غضب الشعب من السياسات الاقتصادية والاجتماعية للنظام. وفي السبعينيات تفاقم الصراع مع الرئيس حافظ الأسد، وبلغ ذروته في عام 1982 خلال أحداث حماة التي شهدت قمعاً وحشياً للجماعة، ممّا أدى إلى تراجعها ودفعها للعمل تحت الأرض.
ورغم القمع، حافظ الإخوان على وجودهم عبر شبكة علاقات إقليمية ودولية، خصوصاً مع دول الخليج وتركيا. إلا أنّ التحولات الإقليمية، مثل غزو العراق، دفعت الجماعة لإعادة تقييم مواقفها، لتجد نفسها أمام تحديات جديدة تتطلب التكيف مع مشهد إقليمي مضطرب.
مع اندلاع الثورة السورية في 2011 عادت جماعة الإخوان إلى الواجهة، ساعية لتقديم نفسها كحركة وطنية معتدلة. ودعمت الجماعة الثورة الشعبية، وانضمت إلى كيانات المعارضة مثل "المجلس الوطني السوري". ومع ذلك لم تكن عودتها خالية من التحديات، فقد اصطدمت بتعقيدات المشهد السياسي وتنامي التنظيمات الجهادية مثل جبهة النصرة وتنظيم داعش، ممّا قلل من تأثير الإخوان، وحدّ من قدرتهم على تشكيل المشهد السياسي بمفردهم.
تحديات العودة: الانقسام وصعود التطرف
بحسب الدراسة، لم يكن الطريق أمام الإخوان ممهداً بسهولة، فقد واجهت الجماعة واقعاً معقداً يتسم بوجود تنظيمات إسلامية أكثر تطرفاً، مثل (جبهة النصرة) و(داعش)، التي نجحت في تقديم نفسها كقوة عسكرية فاعلة في الميدان السوري، مستفيدة من الفوضى والفراغ الأمني الذي نشأ بعد بدء الصراع السوري. بينما سعى الإخوان إلى تقديم أنفسهم كحركة إسلامية "معتدلة"، كانت الجماعات الجهادية تستفيد من عمليات التضييق والضغط العسكري لزيادة نفوذها، ممّا أدى إلى تهميش دور الإخوان في بعض المناطق التي كانت تسيطر عليها فصائل مسلحة متطرفة.
علاوةً على ذلك، تسببت الصراعات الداخلية في صفوف الإخوان في سوريا في إضعاف موقفهم. فالنزاعات حول القيادة وأولويات العمل السياسي بين الأفراد والتيارات المختلفة داخل جماعة الإخوان كانت تؤثر على فعاليتها في توجيه الثورة أو المشاركة في بناء سوريا ما بعد الأسد. هذا بالإضافة إلى المشكلات الداخلية في الجماعة نفسها مثل الافتقار إلى رؤية سياسية موحدة بين قيادات الداخل والخارج.
دور الإخوان في مستقبل سوريا
تحتفظ الجماعة، وفق الدراسة، ببعض النفوذ في شمال غرب سوريا عبر مشاركتها في "الائتلاف السوري المعارض"، وتسعى الجماعة للتحول نحو استراتيجية تجمع بين المقاومة السياسية والعمل المدني، مع التركيز على تقديم الخدمات الاجتماعية وتعزيز وجودها بين المجتمعات المحلية. وقد تساعد هذه الاستراتيجية الجماعة على البقاء كجزء من المعادلة السياسية في سوريا ما بعد الأسد، لكنّها تظل مرهونة بقدرتها على تجاوز الانقسامات الداخلية ومواجهة التحديات الخارجية.
تحتفظ الجماعة، وفق الدراسة، ببعض النفوذ في شمال غرب سوريا عبر مشاركتها في "الائتلاف السوري المعارض"، وتسعى الجماعة للتحول نحو استراتيجية تجمع بين المقاومة السياسية والعمل المدني، مع التركيز على تقديم الخدمات الاجتماعية وتعزيز وجودها بين المجتمعات المحلية.
وتشير الدراسة إلى أنّ جماعة الإخوان المسلمين ما تزال تتأرجح بين استراتيجية "المقاومة السياسية" واستراتيجية "العمل المدني"، عبر مشاركتها في النقاشات السياسية والاجتماعية. وفي المستقبل قد تصبح الجماعة أكثر مرونة، بحيث تساهم في بناء بنية تحتية للمجتمع السوري ما بعد الأسد من خلال تقديم خدمات اجتماعية وتحقيق مصالح اجتماعية بعيدة عن الإيديولوجيا المتشددة. هذا التحول، إن حدث، قد يساعد الإخوان على الانتقال من كونهم حركة إسلامية معارضة إلى حركة اجتماعية تقدم حلولاً ملموسة للمشاكل التي يواجهها الشعب السوري في سياق ما بعد الصراع.
خريطة التنظيمات الإسلامية في سوريا: تشابك المصالح وتضارب الأهداف
هيئة تحرير الشام: القوة الصاعدة
تلفت الدراسة إلى أنّ هيئة تحرير الشام نشأت كفرع لتنظيم القاعدة تحت اسم جبهة النصرة في 2012. وبعد انفصالها عن القاعدة سعت الهيئة لتقديم نفسها كقوة مستقلة ذات أجندة سياسية وعسكرية. وتسيطر الهيئة على إدلب، وقد أسست "حكومة الإنقاذ السورية" التي تعمل كواجهة إدارية لتسيير شؤون السكان، لكنّ تصنيفها كجماعة إرهابية يحدّ من قدرتها على استقطاب الدعم الدولي، ويهدد استقرارها تحت الضغوط العسكرية والسياسية المتزايدة.
كذلك تأسس جيش الإسلام عام 2013 كحركة إسلامية وطنية تسعى لتحرير سوريا من النظام، وإقامة نظام معتدل يعتمد على الشريعة الإسلامية. ورغم نجاحاته الأولية في مناطق مثل الغوطة الشرقية، تعرّض الجيش لهزائم عسكرية واستنزاف موارده، ممّا أدى إلى تراجع نفوذه وانحساره إلى الشمال السوري. ويواجه الجيش تحديات داخلية وانقسامات أضعفت موقعه في المشهد السوري، بالإضافة إلى الانتقادات التي طالت بعض ممارساته في المناطق التي كان يسيطر عليها.
ظهرت حركة أحرار الشام كإحدى أولى الحركات المسلحة بعد الثورة السورية، وسعت لتقديم خطاب إسلامي ثوري يجمع بين الوطنية والإسلامية. لكنّ الصراعات الداخلية بين جناحيها المتشدد والمعتدل، إضافة إلى التنافس مع فصائل أخرى كداعش، قلصت من نفوذها. ورغم محاولاتها للظهور كقوة معتدلة يمكنها التفاوض مع المجتمع الدولي، تعاني الحركة من تحديات كبيرة في الحفاظ على تماسكها وإعادة بناء قواعدها الشعبية والعسكرية.
مستقبل الإسلام السياسي في سوريا
وفق الدراسة، يواجه الإسلام السياسي في سوريا تحديات معقدة ترتبط بالضغوط الدولية والإقليمية. وتصنيف بعض التنظيمات كجماعات إرهابية يعيق مشاركتها في المشهد السياسي، ممّا يعزلها عن المفاوضات الدولية والمحلية. إضافة إلى ذلك، فإنّ التنافس بين القوى الإقليمية، مثل تركيا وإيران، يزيد من تعقيد المعادلة السياسية، حيث تسعى كل قوة لتحقيق أجندتها الخاصة، ممّا يترك الجماعات الإسلامية في موقف صعب.
ورغم التحديات، قد تسهم التحولات الجارية في إتاحة فرص جديدة للإسلام السياسي. وإنّ التحول نحو تقديم خدمات اجتماعية وتنمية البنية التحتية في المناطق التي تسيطر عليها هذه الحركات قد يساعدها على تحسين صورتها وكسب دعم السكان المحليين. بالإضافة إلى ذلك، قد يؤدي انسحاب القوى الأجنبية في المستقبل إلى فتح المجال أمام هذه التنظيمات للمشاركة في إعادة الإعمار.
ويتطلب مستقبل الإسلام السياسي في سوريا، بحسب الدراسة، تبنّي استراتيجيات جديدة تركز على التكيف مع المتغيرات السياسية والاجتماعية. وإنّ الابتعاد عن العمل العسكري والتركيز على العمل المدني والسياسي يمكن أن يسهم في إعادة بناء الثقة مع المجتمع المحلي والدولي، ويضمن بقاء هذه التنظيمات كجزء من الحل السياسي.
وتخلص الدراسة إلى أنّ سقوط النظام السوري يمثل فرصة وتحدياً في آنٍ واحدٍ للإسلام السياسي. فرغم تاريخ الجماعات الإسلامية في المعارضة، تواجه اليوم واقعاً جديداً مليئاً بالتحديات الإقليمية والدولية. والتنافس بين الفصائل الإسلامية، والضغوط الدولية، وانعدام الدعم الشعبي، كلها عوامل تجعل مستقبل الإسلام السياسي في سوريا غير واضح المعالم. ويبقى مستقبل الإسلام السياسي في سوريا مرهوناً بقدرته على التكيف مع المتغيرات السياسية والاجتماعية، والانتقال من العمل العسكري إلى العمل المدني والسياسي لبناء مجتمع جديد يضمن الاستقرار والعدالة. والتحولات الجارية قد تكون فرصة لإعادة تعريف دوره ومكانته، لكنّ النجاح يتطلب رؤية واضحة واستراتيجيات مبتكرة للتعامل مع التحديات الراهنة.